الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3518 3519 ص: ثم ذكروا في ذلك ما حدثنا يونس وربيع المؤذن ، قالا : ثنا يحيى بن حسان ، قال : ثنا وهيب بن خالد ، وحماد بن زيد ، عن عبد الله بن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " أن رسول الله - عليه السلام - وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن ، ولأهل اليمن يلملم ، ثم قال : فهي لهم ولكل من أتى عليهن من غيرهن ، فمن كان أهله دون الميقات فمن حيث ينشئ حتى يأتي ذلك [على] أهل مكة" . .

                                                [ ص: 44 ] حدثنا علي بن معبد ، قال : ثنا كثير بن هشام ، قال : ثنا جعفر بن برقان ، قال : "سألت عمرو بن دينار ، عن امرأة حاجة مرت بالمدينة ، فأتت ذا الحليفة ) وهي حائض ، فقال لها كريها : لو تقدمت إلى الجحفة فأحرمت منها فقال عمرو : : نعم" .

                                                حدثنا طاوس - ولا نحسبن فينا أحدا أصدق لهجة من طاوس - قال : قال ابن عباس : " وقت رسول الله - عليه ، السلام - . . . " ثم ذكر مثله إلا أنه لم يذكر من قوله : "فمن كان أهله . . . " إلى آخر الحديث .

                                                قالوا : فكذلك أهل العراق ما أتوا عليه من هذه المواقيت فهو وقت لهم ، وما سواها فليس بوقت لهم .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي ثم ذكر هؤلاء القوم فيما ذهبوا إليه من أن أهل العراق لا وقت لهم كوقت سائر البلدان بما حدثنا . . . إلى آخره . وأخرجه من طريقين :

                                                الأول : عن يونس بن عبد الأعلى وربيع بن سليمان المؤذن ، كلاهما عن يحيى بن حسان . . إلى آخره ، وهذا إسناد صحيح .

                                                وأخرجه النسائي : أنا ربيع بن سليمان صاحب الشافعي ، قال : ثنا يحيى بن حسان . . . إلى آخره نحوه .

                                                وأخرجه مسلم : عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يحيى بن آدم ، عن وهيب ، عن عبد الله بن طاوس ، عن أبيه . . . إلى آخره نحوه .

                                                والبخاري : عن معلى بن أسد ، عن وهيب ، عن عبد الله بن طاوس . . إلى آخره نحوه .

                                                غير أن في لفظهما : "فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة" .

                                                [ ص: 45 ] الثاني : عن علي بن معبد بن نوح المصري ، عن كثير بن هشام الكلابي الرقي شيخ أحمد ، عن جعفر بن برقان الكلابي الجزري ، عن عمرو بن دينار . . . إلى آخره . وهذا أيضا صحيح .

                                                وأخرجه الطبراني نحوه ، عن فضيل الملطي ، عن أبي نعيم ، ثنا جعفر ، ثنا عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن ابن عباس رفعه ، وفي روايته : "ولأهل الطائف قرنا" انتهى .

                                                وبقول عمرو بن دينار قالت جماعة من المالكية .

                                                قوله : "فهي لهم" أي الأماكن المذكورة مواقيت لأهل المدينة والشام والنجد واليمن حتى إذا جاوزوا هذه الأماكن من غير إحرام يجب عليهم الدم .

                                                وقال أبو عمر : اختلفوا في من جاوز الميقات وهو يريد الإحرام فأحرم ثم رجع إلى الميقات ، فقال مالك : عليه دم ولا ينفعه رجوعه . وهو قول أبي حنيفة وعبد الله بن المبارك ، وقال الشافعي والأوزاعي وأبو يوسف ومحمد : إن رجع إلى الميقات فقد سقط عنه الدم . لبى أو لم يلب .

                                                وروي عن أبي حنيفة أنه إن رجع إلى الميقات فلبى ، سقط عنه الدم ، وإن لم يلب لم يسقط عنه الدم ، وكلهم يقول : إن لم يرجع وتمادى فعليه دم .

                                                وروي عن عطاء والنخعي أنه لا شيء على من ترك الميقات ، وعن سعيد بن جبير : إن لم يرجع حتى قضى حجه فلا حج له .

                                                وعن الحسن البصري : إن لم يرجع حتى حج وتم حجه ، رجع إلى الميقات فأهل منه بعمرة .

                                                فهذه الأقاويل الثلاثة شذوذ ضعيفة عند فقهاء الأمصار ؛ لأنها لا أصل لها في الآثار ، ولا تصح في النظر ، واتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والثوري [ ص: 46 ] وأبو ثور على أن من مر بالميقات لا يريد حجا ولا عمرة ثم بدا له في الحج والعمرة : أنه يحرم من الموضع الذي بدا له منه الحج ، ولا يرجع إلى الميقات ، ولا شيء عليه .

                                                وقال أحمد وإسحاق : يرجع إلى الميقات ويحرم منه .

                                                وقال أيضا : واختلف الفقهاء في الرجل المريد للحج والعمرة يجاوز ميقات بلده إلى ميقات آخر .

                                                فتحصيل مذهب مالك : أن من فعل ذلك فعليه دم ، واختلف أصحاب مالك في ذلك ؛ فمنهم من أوجب الدم فيه ، ومنهم من أسقطه ، وأصحاب الشافعي على إيجاب الدم في ذلك ، وهو قول الثوري والليث .

                                                وقال أبو حنيفة وأصحابه : لو أحرم المدني من ميقاته كان أحب إليهم ، فإن لم يفعل وأحرم من الجحفة ، فلا شيء عليه ، وهو قول الأوزاعي وأبي ثور ، وكره أحمد وإسحاق مجاوزة ذي الحليفة إلى الجحفة ، ولم يوجبا الدم في ذلك .

                                                قوله : "ولكل من أتى عليهن" أي على الأماكن المذكورة ، وفي بعض النسخ : "ولكل آت أتى عليهن" كما في رواية غيره .

                                                وقال القرطبي : "هن" ضمير جماعة المؤنث العاقل في الأصل ، وقد يعاد على ما لا يعقل ، وأكثر ذلك من العشرة فما دونها ، فإذا جاوزها قالوه بهاء المؤنث كما قال تعالى : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا ثم قال : أربعة حرم أي من الاثني عشر ، ثم قال : فلا تظلموا فيهن أنفسكم أي في هذه الأربعة .

                                                وقد قيل : في الجميع . وهو ضعيف شاذ .

                                                قوله : "فمن كان أهله دون الميقات" أراد أنه إذا كان وطنه بين الميقات وبين مكة فميقاته للإحرام من حيث ينشئ الإحرام ، أي من حيث يبتدئ ويشرع فيه .

                                                [ ص: 47 ] قال أبو عمر : أجمعوا كلهم على أن من كان أهله دون المواقيت أن ميقاته من أهله حتى يبلغ مكة .

                                                وفي هذه المسألة أيضا قولان شاذان :

                                                أحدهما لأبي حنيفة : قال : يحرم من موضعه ، فإن لم يفعل فلا يدخل الحرم إلا حراما ، فإن دخل غير حرام فليخرج من الحرم ، وليهل من حيثما شاء من الحل .

                                                والقول الآخر لمجاهد : قال : إذا كان الرجل منزله بين مكة والميقات أهل من مكة .

                                                قوله : "قال لها كريها" بفتح الكاف وكسر الراء وتشديد الياء ، وهو المكتري .




                                                الخدمات العلمية