الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              ذكر مسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الطائف إلى الجعرانة

                                                                                                                                                                                                                              قالوا : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الطائف فأخذ على دحنا ، ثم على قرن المنازل ، ثم على نخلة ، ثم خرج إلى الجعرانة وهو على عشرة أميال من مكة ، قال سراقة بن جعشم رضي الله عنه : لقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو منحدر من الطائف إلى الجعرانة فتخلصت إليه - والناس يمضون أمامه أرسالا - فوقفت في مقنب من خيل الأنصار ، فجعلوا يقرعونني بالرماح ويقولون : إليك إليك ، ما أنت ؟ وأنكروني ، حتى إذا دنوت وعرفت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمع صوتي أخذت الكتاب الذي كتبه لي أبو بكر فجعلته بين إصبعين من أصابعي ، ثم رفعت يدي به وناديت : أنا سراقة بن جعشم ، وهذا كتابي ،

                                                                                                                                                                                                                              فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "هذا يوم وفاء وبر ، ادنوه فأدنيت منه ، فكأني أنظر إلى ساق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غرزه كأنها الجمارة ، فلما انتهيت إليه سلمت وسقت الصدقة إليه ، وما ذكرت شيئا أسأله عنه إلا أني قلت : يا رسول الله أرأيت الضالة من الإبل تغشى حياضي وقد ملأتها لإبلي هل لي من أجر إن سقيتها ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "نعم في كل ذات كبد حرى أجر"

                                                                                                                                                                                                                              رواه قال محمد بن عمر : وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب لسراقة كتاب موادعة سأل سراقة إياه ، فأمر به فكتب له أبو بكر ، أو عامر بن فهيرة ، وتقدم بيان ذلك في أبواب الهجرة إلى المدينة . [ ص: 390 ]

                                                                                                                                                                                                                              وروى محمد بن عمر عن أبي رهم الغفاري - رضي الله عنه - قال : بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير وأنا إلى جنبه ، وعلي نعلان غليظان ، إذ زحمت ناقتي ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقع حرف نعلي على ساق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأوجعته ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أوجعتني أخر رجلك" وقرع رجلي بالسوط فأخذني ما تقدم من أمري وما تأخر ، وخشيت أن ينزل في قرآن لعظم ما صنعت ، فلما أصبحنا بالجعرانة ، خرجت أرعى الظهر وما هو يومي ، فرقا أن يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله يطلبني ، فلما روحت الركاب سألت : فقيل لي طلبك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : إحداهن والله ، فجئت وأنا أترقب ، فقال "إنك أوجعتني برجلك ، فقرعتك بالسوط فأوجعتك ، فخذ هذه الغنم عوضا عن ضربي" قال أبو رهم : فرضاه عني كان أحب إلي من الدنيا وما فيها .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن إسحاق في رواية سلمة : حدثني عبد الله بن أبي بكر أن رجلا ممن شهد حنينا قال والله إني لأسير إلى جنب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ناقة لي وفي رجلي نعل غليظة إذ زحمت ناقتي ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقع حرف نعلي على ساق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأوجعته فقرع قدمي بالسوط ، وقال : "أوجعتني فتأخر عني" فانصرفت ، فلما كان من الغد إذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلتمسني ، فقلت : هذا والله لما كنت أصبت من رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأمس ، قال فجئته وأنا أترقب فقال : "إنك أصبت رجلي بالأمس فأوجعتني فقرعت قدمك بالسوط فدعوتك لأعوضك منها" فأعطاني ثمانين نعجة بالضربة التي ضربني .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق وغيره : ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجعرانة فيمن معه ، ومعه سبي هوازن ستة آلاف من الذراري والنساء ، ومن الإبل والشاء ما لا ندري عدته . وذكر محمد بن عمر ، وابن سعد ، أن السبي كان ستة آلاف رأس . والإبل أربعة وعشرون ألف بعير ، والغنم لا يدري عدتها وقال ابن سعد : أكثر من أربعين ألفا ، وأربعة آلاف أوقية فضة ، فاستأنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسبي لكي يقدم عليه وفدهم .

                                                                                                                                                                                                                              قدوم وفد هوازن ورد السبي إليهم

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق في رواية يونس بن بكير عن ابن عمرو - رضي الله عنهما - قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحنين ، فلما أصاب من هوازن ما أصاب من أموالهم وسباياهم أدركه وفد هوازن بالجعرانة ، وهم أربعة عشر رجلا ، ورأسهم زهير بن صرد ، وفيهم أبو برقان عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة وقد أسلموا - فقالوا : يا رسول الله إنا أصل وعشيرة ، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك فامنن علينا من الله عليك .

                                                                                                                                                                                                                              وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال : يا رسول الله إن ما في الحظائر من السبايا عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك . ولو أنا ملحنا - وقيل : منحنا - للحرث بن أبي . [ ص: 391 ]

                                                                                                                                                                                                                              شمر ، أو للنعمان بن المنذر ثم أصابنا منهما مثل الذي أصابنا منك رجونا عائدتهما وعطفهما ، وأنت يا رسول الله خير المكفولين
                                                                                                                                                                                                                              ، ثم أنشأ يقول : فذكر بعض الشعر الآتي :

                                                                                                                                                                                                                              أخبرنا الأئمة المسندون ، أبو فارس عبد العزيز . الحافظ عمر بن فهد الهاشمي العلوي بقراءتي عليه بالمسجد الحرام ، وأبو الفتح جمال الدين بن الإمام أبو الفتح علاء الدين القلقشندي . قرأه عليه وأنا أسمع بمنزله بحارة بهاء الدين من القاهرة ، وأبو الفضل عبد الرحيم بن الإمام محب الدين بن الأوجاقي في إجازة خاصة - الشافعيون رحمهم الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                              قال الأول : أخبرنا المشايخ الأربعة قاضي القضاة شهاب الدين أبو جعفر محمد بن شهاب الدين أحمد بن عمر بن الضياء القرشي الأموي الشهير بابن العجمي ، وابن أمير الدولة محمد بن علي بن عبد الرحمن بن عبد الغفور الحلبيان ، وقاضي المسلمين عز الدين أبو محمد عبد الرحيم بن ناصر الدين محمد بن عبد الرحيم بن الفرات الحنفي ، والأصيلة أم محمد سارة بنت عمر بن عبد العزيز بن جماعة المصريان مكاتبة في كل منهم ، قالوا : أنبأنا مسند الدنيا صلاح الدين محمد بن أحمد بن إبراهيم بن أبي عمر الصالحي - زاد ابن الفرات وسارة فقالا : والنجم أحمد بن النجم إسماعيل بن أحمد بن عمر بن أبي عمر ، البهاء حسن بن أحمد بن هلال بن الهبل ، وزين الدين أبو حفص عمر بن حسن بن يزيد بن أمية المراغي ، وزاد ابن الفرات فقال : وأم محمد ست العرب ابنة محمد بن علي بن البخاري ، قالوا : أخبرنا رحالة الدنيا فخر الدين أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد بن البخاري ، قالت حفيدته : حضورا - وقال الآخرون : إجازة ، قال في رواية حفيدته : أنبأنا أبو جعفر محمد بن نصر الصيدلاني ، وقال في رواية الآخرين : أنبأنا أبو القاسم عبد الواحد بن القاسم الصيدلاني ، وأم هانئ عفيفة ابنة أحمد الأصبهانية ، وقال شيخنا الثاني : أخبرنا المسند الرحالة زين الدين أبو زيد عبد الرحمن القباني إجازة مكاتبة وأم الحسن فاطمة ابنة الخليل بن أحمد وقريبتهما أم أحمد عائشة بنت علي بن أحمد الحنبليتان - إجازة ، إن لم يكن سماعا ، قالوا :

                                                                                                                                                                                                                              أخبرنا أبو الحزم محمد بن محمد القلانسي قال الأولون إجازة ، وقالت الأخيرة قراءة وأنا حاضرة ، أنبأتنا المسندة مؤنسة خاتون ابنة الملك العادل أبي بكر بن أيوب قراءة عليها وأنا أسمع : أنبأنا أبو الفخر سعد بن سعيد بن روح . وأبو سعد أحمد بن محمد بن أبي نصر ، وأم هانئ عفيفة بنت أحمد بن عبد الله الفارقاني ، وأم حبيبة عائشة بنت معمر بن الفاخر ، - إجازة - وقال شيخنا الثالث أخبرنا شهاب الواسطي - قراءة عليه وأنا أسمع - قال : أخبرنا مسند الوقت ، الصدر أبو الفتح الميدومي عن أبي العباس أحمد بن عبد الدايم بن يحيى بن محمود أخبره - إن لم يكن سماعا فإجازة - قالوا : أخبرتنا أم إبراهيم فاطمة بنت عبد الله بن أحمد [ ص: 392 ]

                                                                                                                                                                                                                              الجوزدانية
                                                                                                                                                                                                                              ، زاد يحيى بن محمود ومحمد بن أحمد بن المظفر - حضورا - قالوا : أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن المظفر ريذة الضبي قال : أخبرنا الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني قال : حدثنا عبيد الله بن رماحس القيسي برمادة الرملة سنة أربع وسبعين ومائتين قال : حدثنا أبو عمر ، وزياد بن طارق ، وكان قد أتت عليه مائة وعشرون سنة قال : سمعت أبا جرول زهير بن صرد الجشمي - رضي الله عنه - يقول : لما أسرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين ويوم هوازن وذهب يفرق السبي والشاء أتيته وأنشأت أقول هذا الشعر .


                                                                                                                                                                                                                              امنن علينا رسول الله في كرم فإنك المرء نرجوه وننتظر     امنن على بيضة قد عاقها قدر
                                                                                                                                                                                                                              مشتت شملها في دهرها غير     أبقت لنا الدهر هتافا على حزن
                                                                                                                                                                                                                              على قلوبهم الغماء والغمر     إن لم تداركها نغماء تنشرها
                                                                                                                                                                                                                              يا أرجح الناس حلما حين يختبر     امنن على نسوة قد كنت ترضعها
                                                                                                                                                                                                                              إذ فوك مملوءة من مخضها الدرر     إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها
                                                                                                                                                                                                                              وإذ يزينك ما تأتي وما تذر     لا تجعلنا كمن شالت نعامته
                                                                                                                                                                                                                              واستبق منا فإنا معشر زهر     إنا لنشكر للنعما إذا كفرت
                                                                                                                                                                                                                              وعندنا بعد هذا اليوم مدخر     فألبس العفو من قد كنت ترضعه
                                                                                                                                                                                                                              من أمهاتك إن العفو مشتهر     يا خير من مرحت كمت الجيادبه
                                                                                                                                                                                                                              عند الهياج إذا ما استوقد الشرر     إنا نؤمل عفوا منك تلبسه
                                                                                                                                                                                                                              هادي البرية إن تعفوا وتنتصر     فاعف عفا الله عما أنت راهبه
                                                                                                                                                                                                                              يوم القيامة إذ يهدى لك الظفر

                                                                                                                                                                                                                              فلما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الشعر قال : "ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم"

                                                                                                                                                                                                                              وقالت قريش : ما كان لنا فهو لله ولرسوله
                                                                                                                                                                                                                              . هذا حديث جيد الإسناد عال جدا ، رواه الضياء المقدس في صحيحه ورجح الحافظ ابن حجر أنه حديث حسن . وبسط الكلام عليه في بستان الميزان .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " نساؤكم وأبناؤكم أحب إليكم أم أموالكم ؟ " .

                                                                                                                                                                                                                              وفي الصحيح عن المسور بن مخرمة - رضي الله عنهما - ومروان بن الحكم : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "فيمن ترون ؟ وأحب الحديث إلي أصدقه ، فاختاروا إحدى الطائفتين ، إما [ ص: 393 ] السبي ، وإما المال وقد كنت استأنيت بكم" وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف ، فلما تبين لهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير راد عليهم إلا إحدى الطائفتين قالوا : يا رسول الله خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا ؟ بل أبناؤنا ونساؤنا أحب إلينا ، ولا نتكلم في شاة ولا بعير ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم ، وإذا أنا صليت بالناس فأظهروا إسلامكم ، وقولوا : إنا إخوانكم في الدين ، وإنا نستشفع برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإني سأعطيكم ذلك ، وأسأل لكم الناس" وعلمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد ، وكيف يكلمون الناس . فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس الظهر قاموا فاستأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكلام ، فأذن لهم ، فتكلم خطباؤهم بما أمرهم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأصابوا القول فأبلغوا فيه ورغبوا إليهم في رد سبيهم ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين فرغوا ليشفع لهم . وفي الصحيح عن المسور ومروان : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام في المسلمين فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : "أما بعد فإن إخوانكم قد جاءونا تائبين ، وإني قد رأيت أن أرد عليهم سبيهم ، فمن أحب أن يطيب ذلك فليفعل ، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول فيء يفيئه الله علينا فليفعل" فقال الناس قد طبنا ذلك يا رسول الله ، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن ، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم" فرجع الناس [فكلمهم] عرفاؤهم .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق : وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم" فقال المهاجرون وما كان لنا فهو لله ولرسوله ، وقالت الأنصار : وما كان لنا فهو لله ولرسوله . فقال الأقرع بن حابس : أما أنا وبنو تميم فلا . وقال عيينة بن حصن : أما أنا وبنو فزارة فلا . وقال العباس بن مرداس : أما أنا وبنو سليم فلا . فقالت بنو سليم : ما كان لنا فهو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال العباس بن مرداس : وهنتموني ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من كان عنده منهن شيء فطابت نفسه أن يرده فسبيل ذلك ، ومن أمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ست فرائض من أول فيء يفيئه الله فرد المسلمون إلى الناس نساءهم وأبناءهم ، ولم يتخلف منهم أحد غير عيينة بن حصن فإنه أخذ عجوزا فأبى أن يردها

                                                                                                                                                                                                                              كما سيأتي" .

                                                                                                                                                                                                                              قال محمد بن عمر ومحمد بن سعد : وكسى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السبي قبطية ، قال ابن عقبة كساهم ثياب المعقد . [ ص: 394 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية