الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              ذكر كيفية الوقعة وما كان من أول الأمر من فرار أكثر المسلمين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم كانت العاقبة للمتقين ، وما وقع في ذلك من الآيات

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن سعد : أشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين مساء ليلة الثلاثاء لعشر ليال خلون من شوال .

                                                                                                                                                                                                                              روى ابن إسحاق ، والإمام أحمد وابن حبان عن جابر بن عبد الله ، والإمام أحمد من طريقين ، وأبو يعلى . ومحمد بن عمر عن أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنهما - لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد أجوف خطوط له مضايق وشعاب ، وإنما ننحدر فيه انحدارا ، وفي عماية الصبح ، وقد كان القوم سبقونا إلى الوادي فمكثوا في شعابه وأجنابه ومضايقه وتهيئوا ، فو الله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد ، وكانوا رماة .

                                                                                                                                                                                                                              قال أنس - رضي الله عنه - استقبلنا من هوازن شيء ، لا والله ما رأيت مثله في ذلك الزمان قط ، من كثرة السواد ، قد ساقوا نساءهم وأبناءهم وأموالهم ثم صفوا صفوفا ، فجعلوا النساء فوق الإبل وراء صفوف الرجال ، ثم جاءوا بالإبل والبقر والغنم ، فجعلوها وراء ذلك لئلا يفروا بزعمهم فلما رأينا ذلك السواد حسبناه رجالا كلهم ، فلما انحدرنا في الوادي ، فبينا نحن في غبش الصبح إن شعرنا إلا بالكتائب قد خرجت علينا من مضيق الوادي وشعبه ، فحملوا حملة رجل واحد ، فانكشفت أوائل الخيل - خيل بني سليم - مولية وتبعهم أهل مكة وتبعهم الناس منهزمين ما يلوون على شيء وارتفع النقع فما منا أحد يبصر كفه .

                                                                                                                                                                                                                              وقال جابر : وانحاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات اليمين ، ثم قال : «أيها الناس هلم إلي أيها الناس ، هلم إلي أنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا محمد بن عبد الله” .

                                                                                                                                                                                                                              قال : فلا شيء وحملت الإبل بعضها على بعض ، فانطلق الناس .


                                                                                                                                                                                                                              وذكر كثير من أهل المغازي : أن المسلمين لما نزلوا وادي حنين تقدمهم كثير ممن لا خبرة لهم بالحرب ، وغالبهم من شبان أهل مكة ، فخرجت عليهم الكتائب من كل جهة ، فحملوا حملة رجل واحد والمسلمون غارون ، فر من فر ، وبلغ أقصى هزيمتهم مكة ، ثم كروا بعد .

                                                                                                                                                                                                                              وفي الصحيح عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال : عجل سرعان القوم - وفي [ ص: 319 ] لفظة : شبان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس عليهم سلاح أو كثير سلاح ، فإنا لما حملنا على المشركين انكشفوا ، فأقبل الناس على الغنائم ، وكانت هوازن رماة فاستقبلتنا بالسهام كأنما رجل جراد ، لا يكاد يسقط لهم سهم انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              قال : وكان رجل على جمل له أحمر ، بيده راية سوداء على رمح طويل أمام هوازن ، وهوازن خلفه ، إذا أدرك طعن برمحه ، وإن فاته الناس ، رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه . فبينما هو كذلك إذ هوى له علي بن أبي طالب ، ورجل من الأنصار يريدانه ، فأتاه علي بن أبي طالب من خلفه فضرب عرقوبي الجمل ، فوقع على عجزه ، ووثب الأنصاري على الرجل فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه ، فانجعف عن رحله ، واجتلد الناس ، فو الله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسرى مكتفين عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق : لما انهزم الناس ورأى من كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جفاة أهل مكة الهزيمة تكلم منهم رجال بما في أنفسهم من الضغن . قال أبو سفيان بن حرب وكان إسلامه - بعد - مدخولا : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر ، وإن الأزلام لمعه في كنانته ، وصرخ جبلة بن الحنبل - وقال ابن هشام : كلدة بن الحنبل - وأسلم بعد ذلك ، وهو مع أخيه لأمه صفوان بن أمية ، وصفوان مشرك في المدة التي جعل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إلا بطل السحر اليوم!! فقال له صفوان : اسكت فض الله فاك! والله أن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن .

                                                                                                                                                                                                                              وروى محمد بن عمر عن أبي بشير - ككريم - المازني - رضي الله عنهم - قال : لما كان يوم حنين صلينا الصبح ، ثم رجعنا على تعبئة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما شعرنا - وقد كاد حاجب الشمس أن يطلع ، وقد طلع - إلا بمقدمتنا قد كرت علينا ، قد انهزموا ، فاختلطت صفوفنا ، وانهزمنا مع المقدمة ، وأكر ، وأنا يومئذ غلام شاب ، وقد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقدم فجعلت أقول : يا للأنصار ، بأبي وأمي ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تولون ؟ وأكر في وجوه المنهزمين ، ليس لي همة إلا النظر إلى سلامة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى صرت إلى رسول لله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصيح : «يا للأنصار” فدنوت من دابته ، والتفت من ورائها ، وإذا الأنصار قد كروا كرة رجل واحد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقف على دابته في وجوه العدو ، ومضت الأنصار أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقاتلون ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - سائر معهم يفرجون العدو عنه ، حتى طردناهم فرسخا ، وتفرقوا في الشعاب ، حتى فلوا من بين أيدينا ، فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى منزله وقبته ، وقد ضربت له - والأسرى مكتفون حوله ، وإذا نفر حول قبته ، وفي قبته زوجاته أم [ ص: 320 ] سلمة وميمونة ، حولها النفر الذين يحرسون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم عباد بن بشر ، وأبو نائلة ، ومحمد بن مسلمة .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عقبة : ومر رجل من قريش بصفوان بن أمية فقال : أبشر بهزيمة محمد وأصحابه ، فو الله لا يجبرونها أبدا . فقال صفوان : أتبشرني بظهور الأعراب” فو الله لرب من قريش أحب إلي من رب من الأعراب ، وغضب صفوان لذلك ، وبعث صفوان غلاما له فقال : اسمع لمن الشعار فجاءه فقال : سمعتهم يقولون : يا بني عبد الرحمن يا بني عبيد الله ، يا بني عبد الله ، فقال :

                                                                                                                                                                                                                              ظهر محمد وكان ذلك شعارهم في الحرب
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              وروى محمد بن عمر عن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال : مضى سرعان الناس من المنهزمين ، حتى دخلوا مكة ، ساروا يوما وليلة - يخبرون أهل مكة بهزيمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعتاب بن أسيد بوزن أمير ، على مكة ومعه معاذ بن جبل ، فجاءهم أمر غمهم ، وسر بذلك قوم من أهل مكة وأظهروا الشماتة ، وقال قائل منهم : ترجع العرب إلى دين آبائها ، وقد قتل محمد وتفرق أصحابه ، فتكلم عتاب بن أسيد يومئذ فقال : إن قتل محمد ، فإن دين الله قائم - والذي يعبده محمد حي لا يموت ، فما أمسوا من ذلك اليوم حتى جاء الخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوقع بهوازن ، فسر عتاب بن أسيد ، ومعاذ بن جبل ، وكبت الله - تعالى - من هناك ممن كان يسره خلاف ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              فرجع المنهزمون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلحقوه بأوطاس وقد رحل منها إلى الطائف .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية