النظر الثالث 
في الموانع المبطلة للخيار  ، وهي قسمان : 
القسم الأول : يبطل الرد مطلقا وهو أربعة : المانع الأول : البراءة من العيوب عند العقد من العيوب القديمة التي يجهلها البائع  ، ويخشى أن يلزمه ، قال صاحب التنبيهات :  لمالك  وأصحابه فيها عشرة أقوال ، له منها سبعة ، منها في الكتاب ستة ، وله في الموازية : يجوز في الرقيق خاصة ، وبيع السلطان في   [ ص: 91 ] التفليس والمغنم بيع براءة . 
الثاني : القديم في المدونة البراءة بالتفليس  يبيع عليهم السلطان الرقيق دون الشرط والميراث . الثالث في الموطأ تختص بالحيوان والرقيق ، الرابع : في كتاب  محمد     :  لمالك     : يختص بالتافه من الثياب والحيوان . الخامس : له في كتاب  ابن حبيب     : يعم الرقيق والحيوان وكل شيء . 
السادس : في الواضحة بما طالت إقامته عند البائع واختبره ، السابع : الذي رجع إليه في المدونة أنها لا تنفع مطلقا ، وقيل : لا يختلف في بيع السلطان أنه بيع براءة ، قاله  ابن أبي زيد  وغيره ، وتأولوا لفظ المدونة ، الثامن : يصح بشرط بل يوجبها الحكم في بيع السلطان وأصل الميراث ، التاسع : في المدونة : يختص بالرقيق دون غيره ، العاشر : قال  ابن حبيب     : تكون في الرقيق وغيره من الحيوان والعروض في بيع الطوع دون بيع السلطان والمواريث ، وفي الجواهر : المشهور الانتفاع بالبراءة ، وروي عن  مالك     : قدم النفع ، ومن المتأخرين من يحكي هذه الرواية مقيدة ، ويقول : لم يختلف قوله في جوازه في اليسير وبيع السلطان وعهدة الثلاث والسنة ، ومذهب المدونة تخصيصا بالرقيق ، وقال ( ح ) : تصح في كل شيء من الحيوان وغيره ما علمه البائع وما لم يعلمه ، وحكى عن   الشافعي  أربعة أقوال ، كقول ( ح ) ولا ينتفع في شيء من الأموال ، ويختص نفعها بالديون الباطنة من الحيوان المجهول للبائع ، والمشهور : أنه لا يبرأ عنده إلا ما أعلم دون ما لم يعلم به ، وقاله   ابن حنبل  ، وقد روى  مالك  في الموطأ أن   ابن عمر  رضي الله عنهما باع غلاما له بثمانمائة درهم بالبراءة ، فقال الذي ابتاعه   لعبد الله بن عمر     : بالغلام داء لم تسمه لي ، فاختصما إلى   عثمان بن عفان  ، فقال الرجل : باعني عبدا وبه داء لم يسمه ، وقال  عبد الله     : بعته بالبراءة ، فقضى  عثمان  على  عبد الله بن عمر  أن يحلف له : لقد باعه العبد وما به داء يعلمه ، فأبى  عبد الله  أن   [ ص: 92 ] يحلف ، فارتجع صحيحا وسقيما   . 
فرع 
شرط البراءة  حسما للخصومة ، والفرق بين الناطق وغيره على الخلاف أن الناطق يكتم عيبه كراهة في المشتري أو البائع ، بخلاف غير الناطق لا تخفى أحواله أو يخالطه نهيه عليه السلام عن بيع الغرر والمجهول ، والبيع بالبراءة يقتضي الجهل بعاقبة المبيع ، ولأنه خيار فسخ فلا يجوز إسقاطه بالشرط كاشتراطه إسقاط خيار الرؤية في بيع الغائب ، وقال الحنفية : الأصل يقتضي أن لا يرد بالعيب مطلقا ; لأنه إذا قال : بعتك هذا فالعقد إنما تناول الموجود دون المعدوم ، لكن العرف اقتضى السلامة من العيوب ، فكان كالشرط فيرجع بالعيب استدراكا لظلامة ، فإذا اشترط الأصل فقد صار الأصل مقصودا بلسان المقال الذي هو مقدم على العرف ، فإن كل عادة صرح بخلافها ، لا تعتبر ، ورد عليهم النهي عن الغرر والمجهول ، وعن التدليس والغش والاستدلال بماله السنة باطل ، وقالوا : أجزاء المبيع وصفاته حق للمتعاقدين فلهما إسقاطهما كسائر حقوق الآدميين ، قلنا : العلم بأجزاء جزاء المبيع وصفاته حق الله تعالى ، فلا يجوز للعبد إسقاطه بالشرط كحد الزنا والسرقة ، قالوا : ولو كان العلم شرطا لما جاز البيع . 
وهو خلاف الإجماع ، قلنا : التعاين في الأثمان معتاد ، والتدليس حرام بالنص فهذه مدارك الحنفية ، وأما بيع السلطان وغيره فيلاحظ لدعوى الضرورة لذلك لتحصيل المصالح من تنفيذ الوصايا ووفاء الديون ، فلولا البراءة   [ ص: 93 ] لم تستقر المصالح ، وعن نقض ذلك على الأئمة ليكون ذلك عليهم ، ولذلك يضمنهم بالشرع ما أتلفوه بالخطأ في الأحكام من مال ، أو نفس لئلا ينفر الناس من ولاية الأحكام لعظيم الضرر . 
قاعدة : الحقوق ثلاثة حق لله محض ، وحق للعبد محض ، وحق مختلف فيه هل يغلب حق الله أو حق العبد ، فالأول كالأيمان ، والثاني كالنقود والأيمان ، والثالث كحد القذف ، واختلف فيه هل يتمكن المقذوف من إسقاطه كالدين أم لا  ؟ كالصلاة والصوم ، ونعني بحق الله تعالى : أمره ونهيه ، وبحقوق العبد : مصالحه ، ونعني بحق العبد المحض : هو الذي غلب فيه حقه فيتمكن من إسقاطه ، وإلا فما من حق للعبد إلا وفيه حق لله تعالى ، وهو أمره بإيصال ذلك الحق إلى مستحقه . 
قاعدة : الغرر ثلاثة أقسام : متفق على منعه في البيع ، كالطير في الهواء  ، ومتفق على جوازه كأساس الدار  ، ومختلف فيه هل يلحق بالقسم الأول لعظمه أو بالقسم الثاني لخفته ، أو للضرورة إليه ، كبيع الغائب على الصفة  ، والبرنامج ، ونحوهما ؟ فعلى هاتين القاعدتين يتخرج الخلاف في البراءة فأ ( ح ) يرى إن كان المبيع معلوم الأوصاف حق للعبد ، فيجوز له التصرف فيه وإسقاطه بالشرط ، وغيره يراه حق الله تعالى ، وأنه حجر على عباده في المعاوضة على المجهول و ( ح ) يرى أن غرر العيوب في شرط البراءة من الغرر المغتفر لضرورة البائع لدفع الخصومة عن نفسه ، وغيره يراه من الغرر الممنوع ; لأنه قد يأتي على أكثر صفات المبيع فتأمل هذه المدارك فهي مجال الاجتهاد ، وإذا نظر أيها أقرب لمقصود الشرع وقواعده فاعتمد عليه ، والله هو الهادي إلى سبيل الرشاد . 
تفريع : في الجواهر : المشهور أنها لا تنفع من لا يختبر ملكه قبل البيع   [ ص: 94 ] إذهابا للجهالة بالمبيع ، وقال  عبد الملك     : تنفع ، وإذا تبرأ من عيب ذكره في جملة عيوب ليست موجودة لم تنفعه ; لأن ذلك يوهم عدمه ، بل حتى تبين موضعه وجنسه ومقداره ظاهرا أو باطنا ، ولا يمكن الاقتصار على مشاهدة لا تقتضي الإحاطة أو لفظ يحتمل كما لو أراد دبرة وهي معدلة ، ولم يذكر بغلها ، وكذلك الذي يتبرأ من السرقة والإباق ، والمبتاع يظن قرب ذلك أو قلته وهو كثير ، فلا بد من بيان ذلك مفصلا ، وبيع الورثة لقضاء الديون وتنفيذ الوصايا هو مراد بيع الميراث ، أما بيعهم لانفصال بعضهم من بعض كبيع الرجل مال نفسه لعدم ضرورة تنفيذ المصالح ، وكذلك البائع للإنفاق على الورثة ، وإذا قلنا : بيع السلطان بيع براءة فظن المشتري أنه كبيع الرجل مال نفسه خير بين التمسك على البراءة أو الرد ، وقيل : لا مقال له ، حمل هذا على أنه ادعى ما لا يشبه ; لأن بيع السلطان لا يخفى غالبا لكونه لا يكون إلا في جمع . 
وفي الكتاب : يمتنع بيع الرائعة بالبراءة من الحمل إلا أن يكون ظاهرا من غير السيد    ; لأنه نقص فيها بخلاف الوخش ، فإنه ربما زاد في ثمنه ، وإذا باع السلطان عند المفلس وقسم الثمن بين غرمائه ، لم يرده المبتاع بالعيب القديم ; لأنه بيع براءة إلا أن يعلم أن المديان كتمه فيؤخذ الثمن من الغرماء إن كان الآن معدما ثم يباع لهم ثانية ، فإن نقص ثمنه عن حقهم اتبعوه ، وإن كان مليا أخذ منه ، فإن كان أعتقه أولا كان الآن حرا ; لأن رد العيب منع البيع الأول من التمام فينفذ العتق ، ولو حدث به عيب آخر عند المبتاع كان له حبسه وأخذ قيمة العيب في ماله ، ومن الغرماء في عدمه ، أو يرده وما نقصه العيب في ملك البائع ، أو يباع للغرماء في عدمه . 
فرع 
قال  اللخمي     : إذا قال : به كذا وكذا عيب ، وذكر العيب الواقع معها لم   [ ص: 95 ] ينفعه ، وكذلك لو أفرده حتى يقول ذلك به ، قال : وأرى إذا أفرده أن يبرأ وإن لم يقل ذلك به ; لأن التلفيق إنما لم ينفعه ; لأن النحاسين يفعلون ذلك فيما ليس به عيب احتياطا ، فلا ينقص الثمن لأجله . 
فرع 
قال : لا تنفع البراءة فيما علمه السلطان ، أو الوصي  ، وللمشتري الرد على الغرماء ; لأنه تدليس . 
فرع 
قال : إذا وجد عيبا قديما بالمبيع بالبراءة له تحليف البائع أنه لم يعلمه ، فإن نكل رد عليه . 
قال  محمد     : قال  مالك     : وإن شرط ، ولا يمين عليه كان له شرطه إلا أن يكون العيب مما لا يخفى على البائع ، اختلف في المشكوك ، وقال  ابن حبيب     : لا يمين عليه في الخفي ولا في الظاهر لعدم تعين سبب اليمين ، وقال  ابن القاسم     : يحلف ، فإن نكل ردت من غير يمين المشتري ; لأن الأصل الرد بالعيب ، والقيام بموجب العقد . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					