الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                النظر الثالث

                                                                                                                في الموانع المبطلة للخيار ، وهي قسمان :

                                                                                                                القسم الأول : يبطل الرد مطلقا وهو أربعة : المانع الأول : البراءة من العيوب عند العقد من العيوب القديمة التي يجهلها البائع ، ويخشى أن يلزمه ، قال صاحب التنبيهات : لمالك وأصحابه فيها عشرة أقوال ، له منها سبعة ، منها في الكتاب ستة ، وله في الموازية : يجوز في الرقيق خاصة ، وبيع السلطان في [ ص: 91 ] التفليس والمغنم بيع براءة .

                                                                                                                الثاني : القديم في المدونة البراءة بالتفليس يبيع عليهم السلطان الرقيق دون الشرط والميراث . الثالث في الموطأ تختص بالحيوان والرقيق ، الرابع : في كتاب محمد : لمالك : يختص بالتافه من الثياب والحيوان . الخامس : له في كتاب ابن حبيب : يعم الرقيق والحيوان وكل شيء .

                                                                                                                السادس : في الواضحة بما طالت إقامته عند البائع واختبره ، السابع : الذي رجع إليه في المدونة أنها لا تنفع مطلقا ، وقيل : لا يختلف في بيع السلطان أنه بيع براءة ، قاله ابن أبي زيد وغيره ، وتأولوا لفظ المدونة ، الثامن : يصح بشرط بل يوجبها الحكم في بيع السلطان وأصل الميراث ، التاسع : في المدونة : يختص بالرقيق دون غيره ، العاشر : قال ابن حبيب : تكون في الرقيق وغيره من الحيوان والعروض في بيع الطوع دون بيع السلطان والمواريث ، وفي الجواهر : المشهور الانتفاع بالبراءة ، وروي عن مالك : قدم النفع ، ومن المتأخرين من يحكي هذه الرواية مقيدة ، ويقول : لم يختلف قوله في جوازه في اليسير وبيع السلطان وعهدة الثلاث والسنة ، ومذهب المدونة تخصيصا بالرقيق ، وقال ( ح ) : تصح في كل شيء من الحيوان وغيره ما علمه البائع وما لم يعلمه ، وحكى عن الشافعي أربعة أقوال ، كقول ( ح ) ولا ينتفع في شيء من الأموال ، ويختص نفعها بالديون الباطنة من الحيوان المجهول للبائع ، والمشهور : أنه لا يبرأ عنده إلا ما أعلم دون ما لم يعلم به ، وقاله ابن حنبل ، وقد روى مالك في الموطأ أن ابن عمر رضي الله عنهما باع غلاما له بثمانمائة درهم بالبراءة ، فقال الذي ابتاعه لعبد الله بن عمر : بالغلام داء لم تسمه لي ، فاختصما إلى عثمان بن عفان ، فقال الرجل : باعني عبدا وبه داء لم يسمه ، وقال عبد الله : بعته بالبراءة ، فقضى عثمان على عبد الله بن عمر أن يحلف له : لقد باعه العبد وما به داء يعلمه ، فأبى عبد الله أن [ ص: 92 ] يحلف ، فارتجع صحيحا وسقيما .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                شرط البراءة حسما للخصومة ، والفرق بين الناطق وغيره على الخلاف أن الناطق يكتم عيبه كراهة في المشتري أو البائع ، بخلاف غير الناطق لا تخفى أحواله أو يخالطه نهيه عليه السلام عن بيع الغرر والمجهول ، والبيع بالبراءة يقتضي الجهل بعاقبة المبيع ، ولأنه خيار فسخ فلا يجوز إسقاطه بالشرط كاشتراطه إسقاط خيار الرؤية في بيع الغائب ، وقال الحنفية : الأصل يقتضي أن لا يرد بالعيب مطلقا ; لأنه إذا قال : بعتك هذا فالعقد إنما تناول الموجود دون المعدوم ، لكن العرف اقتضى السلامة من العيوب ، فكان كالشرط فيرجع بالعيب استدراكا لظلامة ، فإذا اشترط الأصل فقد صار الأصل مقصودا بلسان المقال الذي هو مقدم على العرف ، فإن كل عادة صرح بخلافها ، لا تعتبر ، ورد عليهم النهي عن الغرر والمجهول ، وعن التدليس والغش والاستدلال بماله السنة باطل ، وقالوا : أجزاء المبيع وصفاته حق للمتعاقدين فلهما إسقاطهما كسائر حقوق الآدميين ، قلنا : العلم بأجزاء جزاء المبيع وصفاته حق الله تعالى ، فلا يجوز للعبد إسقاطه بالشرط كحد الزنا والسرقة ، قالوا : ولو كان العلم شرطا لما جاز البيع .

                                                                                                                وهو خلاف الإجماع ، قلنا : التعاين في الأثمان معتاد ، والتدليس حرام بالنص فهذه مدارك الحنفية ، وأما بيع السلطان وغيره فيلاحظ لدعوى الضرورة لذلك لتحصيل المصالح من تنفيذ الوصايا ووفاء الديون ، فلولا البراءة [ ص: 93 ] لم تستقر المصالح ، وعن نقض ذلك على الأئمة ليكون ذلك عليهم ، ولذلك يضمنهم بالشرع ما أتلفوه بالخطأ في الأحكام من مال ، أو نفس لئلا ينفر الناس من ولاية الأحكام لعظيم الضرر .

                                                                                                                قاعدة : الحقوق ثلاثة حق لله محض ، وحق للعبد محض ، وحق مختلف فيه هل يغلب حق الله أو حق العبد ، فالأول كالأيمان ، والثاني كالنقود والأيمان ، والثالث كحد القذف ، واختلف فيه هل يتمكن المقذوف من إسقاطه كالدين أم لا ؟ كالصلاة والصوم ، ونعني بحق الله تعالى : أمره ونهيه ، وبحقوق العبد : مصالحه ، ونعني بحق العبد المحض : هو الذي غلب فيه حقه فيتمكن من إسقاطه ، وإلا فما من حق للعبد إلا وفيه حق لله تعالى ، وهو أمره بإيصال ذلك الحق إلى مستحقه .

                                                                                                                قاعدة : الغرر ثلاثة أقسام : متفق على منعه في البيع ، كالطير في الهواء ، ومتفق على جوازه كأساس الدار ، ومختلف فيه هل يلحق بالقسم الأول لعظمه أو بالقسم الثاني لخفته ، أو للضرورة إليه ، كبيع الغائب على الصفة ، والبرنامج ، ونحوهما ؟ فعلى هاتين القاعدتين يتخرج الخلاف في البراءة فأ ( ح ) يرى إن كان المبيع معلوم الأوصاف حق للعبد ، فيجوز له التصرف فيه وإسقاطه بالشرط ، وغيره يراه حق الله تعالى ، وأنه حجر على عباده في المعاوضة على المجهول و ( ح ) يرى أن غرر العيوب في شرط البراءة من الغرر المغتفر لضرورة البائع لدفع الخصومة عن نفسه ، وغيره يراه من الغرر الممنوع ; لأنه قد يأتي على أكثر صفات المبيع فتأمل هذه المدارك فهي مجال الاجتهاد ، وإذا نظر أيها أقرب لمقصود الشرع وقواعده فاعتمد عليه ، والله هو الهادي إلى سبيل الرشاد .

                                                                                                                تفريع : في الجواهر : المشهور أنها لا تنفع من لا يختبر ملكه قبل البيع [ ص: 94 ] إذهابا للجهالة بالمبيع ، وقال عبد الملك : تنفع ، وإذا تبرأ من عيب ذكره في جملة عيوب ليست موجودة لم تنفعه ; لأن ذلك يوهم عدمه ، بل حتى تبين موضعه وجنسه ومقداره ظاهرا أو باطنا ، ولا يمكن الاقتصار على مشاهدة لا تقتضي الإحاطة أو لفظ يحتمل كما لو أراد دبرة وهي معدلة ، ولم يذكر بغلها ، وكذلك الذي يتبرأ من السرقة والإباق ، والمبتاع يظن قرب ذلك أو قلته وهو كثير ، فلا بد من بيان ذلك مفصلا ، وبيع الورثة لقضاء الديون وتنفيذ الوصايا هو مراد بيع الميراث ، أما بيعهم لانفصال بعضهم من بعض كبيع الرجل مال نفسه لعدم ضرورة تنفيذ المصالح ، وكذلك البائع للإنفاق على الورثة ، وإذا قلنا : بيع السلطان بيع براءة فظن المشتري أنه كبيع الرجل مال نفسه خير بين التمسك على البراءة أو الرد ، وقيل : لا مقال له ، حمل هذا على أنه ادعى ما لا يشبه ; لأن بيع السلطان لا يخفى غالبا لكونه لا يكون إلا في جمع .

                                                                                                                وفي الكتاب : يمتنع بيع الرائعة بالبراءة من الحمل إلا أن يكون ظاهرا من غير السيد ; لأنه نقص فيها بخلاف الوخش ، فإنه ربما زاد في ثمنه ، وإذا باع السلطان عند المفلس وقسم الثمن بين غرمائه ، لم يرده المبتاع بالعيب القديم ; لأنه بيع براءة إلا أن يعلم أن المديان كتمه فيؤخذ الثمن من الغرماء إن كان الآن معدما ثم يباع لهم ثانية ، فإن نقص ثمنه عن حقهم اتبعوه ، وإن كان مليا أخذ منه ، فإن كان أعتقه أولا كان الآن حرا ; لأن رد العيب منع البيع الأول من التمام فينفذ العتق ، ولو حدث به عيب آخر عند المبتاع كان له حبسه وأخذ قيمة العيب في ماله ، ومن الغرماء في عدمه ، أو يرده وما نقصه العيب في ملك البائع ، أو يباع للغرماء في عدمه .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال اللخمي : إذا قال : به كذا وكذا عيب ، وذكر العيب الواقع معها لم [ ص: 95 ] ينفعه ، وكذلك لو أفرده حتى يقول ذلك به ، قال : وأرى إذا أفرده أن يبرأ وإن لم يقل ذلك به ; لأن التلفيق إنما لم ينفعه ; لأن النحاسين يفعلون ذلك فيما ليس به عيب احتياطا ، فلا ينقص الثمن لأجله .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال : لا تنفع البراءة فيما علمه السلطان ، أو الوصي ، وللمشتري الرد على الغرماء ; لأنه تدليس .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال : إذا وجد عيبا قديما بالمبيع بالبراءة له تحليف البائع أنه لم يعلمه ، فإن نكل رد عليه .

                                                                                                                قال محمد : قال مالك : وإن شرط ، ولا يمين عليه كان له شرطه إلا أن يكون العيب مما لا يخفى على البائع ، اختلف في المشكوك ، وقال ابن حبيب : لا يمين عليه في الخفي ولا في الظاهر لعدم تعين سبب اليمين ، وقال ابن القاسم : يحلف ، فإن نكل ردت من غير يمين المشتري ; لأن الأصل الرد بالعيب ، والقيام بموجب العقد .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية