الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3944 ص: وكان من الحجة لهم في ذلك أن قول الله - عز وجل - : فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ليس فيه دليل على أن ذلك على الوجوب ؛ لأن الله - عز وجل - إنما ذكر الذكر ولم يذكر الوقوف ، وكل قد أجمع أنه لو وقف بمزدلفة ، ولم يذكر الله - عز وجل - أن حجه تام ، فإن كان الذكر المذكور في الكتاب ليس من صلب الحج ، فالموطن الذي يكون ذلك الذكر فيه الذي لم يذكر في الكتاب أحرى ألا يكون فرضا ، وقد ذكر الله - عز وجل - أشياء في كتابه في الحج ، لم يرد بذكرها إيجابها حتى لا يجزئ الحج إلا بإصابتها في قول أحد من المسلمين ، من ذلك قوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما وكل قد أجمع أنه لو حج ولم يطف بين الصفا والمروة أن حجه قد تم وعليه دم ؛ مكان ترك من ذلك ، فكذلك ذكر الله - عز وجل - المشعر الحرام في كتابه ليس في ذلك دليل على إيجابه حتى لا يجزئ الحج إلا بإصابته .

                                                [ ص: 507 ] وأما [ما] في حديث عروة بن مضرس ، فليس فيه دليل أيضا على ما ذكروا ؛ لأن رسول الله - عليه السلام - إنما قال فيه : "من صلى معنا صلاتنا هذه وقد كان أتى عرفة قبل ذلك من ليل أو نهار فقد تم حجه وقضى تفثه" . فذكر الصلاة وكل قد أجمع أنه لو بات بها ووقف ونام عن الصلاة فلم يصلها مع الإمام حتى فاتته أن حجه تام ، فلما كان حضور الصلاة مع الإمام المذكور في هذا الحديث ليس من صلب الحج الذي لا يجزئ الحج إلا بإصابته كان الموطن الذي تكون فيه تلك الصلاة الذي لم يذكر في الحديث أحرى ألا يكون كذلك ، فلم يتحقق بهذا الحديث ذكر الفرض إلا بعرفة خاصة .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي وكان من الدليل والبرهان للآخرين وأراد به الجواب عما قال أهل المقالة الأولى من فرضية الوقوف بالمزدلفة مستدلين بالكتاب وحديث عروة بن مضرس .

                                                أما الجواب عن استدلالهم بالكتاب فهو قوله - أي قول الله - عز وجل - . . . إلى آخره ، وهو ظاهر ونوقش في قوله : "وكل قد أجمع أنه لو وقف بمزدلفة ولم يذكر الله - عز وجل - أن حجه تام" فإن الظاهرية أوجبوا صلاة الغداة مع الإمام في المزدلفة ، فلا يتم حجهم إلا بها ، ولا شك أن الصلاة ذكر الله تعالى .

                                                والجواب أن خلافهم لا يعتبر به ، فلا يكون قادحا للإجماع ، وكذلك نوقش في قوله : "وكل قد أجمع أنه لو حج ولم يطف بين الصفا والمروة أن حجه قد تم" بأنه ليس كذلك ؛ لأنه روي عن عائشة - رضي الله عنها - فرضية الطواف بين الصفا والمروة ، وقالت في هذه الآية : إنما نزلت في أناس كانوا لا يطوفون بينهما ، فلما كان الإسلام طاف رسول الله - عليه السلام - .

                                                وأجيب عن ذلك بأن مراد عائشة - رضي الله عنها - من ذلك هو فرضية الطواف بين الصفا والمروة في العمرة دون الحج ؛ وذلك لأن العمرة عبارة عن الطواف بالبيت والطواف بين الصفا والمروة ، بخلاف الحج فإنه عبارة عن الوقوف بعرفة وطواف الزيارة بشرط الإحرام مع التلبية .

                                                [ ص: 508 ] قوله : "وكذلك ذكر الله - عز وجل - المشعر الحرام . . . إلى آخره" ، أراد أن ذكر الله - عز وجل - المشعر الحرام لا يستلزم وجوب الذكر عند الجميع ، فإذا لم يكن الذكر المذكور في الآية فرضا ، فالوقوف فيه الذي ليس بمذكور أولى وأحرى ألا يكون فرضا .

                                                ومن الناس من يقول : إن هذا الذكر هو صلاة المغرب والعشاء اللتين يجمع بينهما بالمزدلفة ، والذكر الثاني في قوله : واذكروه كما هداكم هو الذكر المفعول عند الوقوف بالمزدلفة غداة جمع ، فيكون الذكر الأول غير الثاني ، والصلاة تسمى ذكرا ، قال - عليه السلام - : "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ، وتلا عند ذلك قوله تعالى : وأقم الصلاة لذكري فسمى الصلاة ذكرا ، فعلى هذا اقتضت الآية تأخير صلاة المغرب إلى أن تجمع مع العشاء بالمزدلفة .

                                                وأما الجواب عن استدلالهم بحديث عروة بن مضرس فهو قوله : "وأما في حديث عروة بن مضرس . . . إلى آخره" حاصله أنهم اتفقوا على أن ترك الصلاة هناك لا يفسد الحج ، وقد ذكرها النبي - عليه السلام - فكذلك الوقوف .

                                                فإن قيل : روى مطرف بن طريف ، عن الشعبي ، عن عروة بن مضرس ، عن النبي - عليه السلام - قال : "من أدرك جمعا والإمام واقف فوقف مع الإمام ثم أفاض مع الناس فقد أدرك الحج ، ومن لم يدرك فلا حج له" .

                                                قلت: قد روى هذا الحديث جماعة حفاظ عن الشعبي مثل زكرياء وداود بن أبي هند وإسماعيل بن أبي خالد وعبد الله بن أبي السفر وسيار وغيرهم ولم يذكر فيه أحد منهم : "فلا حج له" ، ولئن سلمنا أن هذا صحيح ، فمعناه أنه محمول على نفي [ ص: 509 ] الفضيلة والكمال لا نفي الأصل ، كما في قوله - عليه السلام - : "لا وضوء لم يذكر اسم الله عليه" ، وكما روي عن عمر - رضي الله عنه - : "من قدم ثقله فلا حج له" .




                                                الخدمات العلمية