الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  [2] التيارات المريبة:

                  (أ) لا بد لنا من معرفة أبرز التيارات المريبة التي تبذل قصارى جهدها في هـدم الفكر العربي الإسلامي، لكي نستطيع أن نتبين القادرين حقا على إعادة كتابة الحضارة العربية الإسلامية، ومنها العسكرية الإسلامية.

                  والهدف الرئيس لهذه التيارات الفكرية المريبة: تلويث الفكر العربي الإسلامي، وانتزاع ثقة العرب والمسلمين بحضارتهم العريقة وماضي أمتهم العربية الإسلامية المجيد، لتنهار معنوياتهم فلا يستطيعون الحرب والقتال، ويستسلمون استسلاما كاملا للأعداء.

                  (ب) فمن هـذه التيارات، التيار الاستعماري الصهيوني الماسوني، الذي يقلب الحقائق رأسا على عقب، أو يعللها تعليلا منحرفا يصور فيه أمجاد العرب والمسلمين، وكأنها أشياء تافهة لا قيمة لها ولا تستحق الذكر أو الفخر.

                  والذي يتصيد (المثالب) ويضخمها، ويبرز معالمها ويعمق آثارها، [ ص: 179 ] ويغض الطرف عن (المزايا) أو يهون عمدا من قيمتها الحقيقية.

                  وأطلق على هـؤلاء لقب: (الجعليون) ، نسبة إلى دابة الأرض التي تسمى: (الجعل) ، وهي دابة لا تستريح إلا في المواضع الندية القذرة ذات الرائحة الكريهة، فإذا وضعت في الأماكن الجافة النظيفة ذات الرائحة الطيبة الذكية، ماتت فورا.

                  ويتألف هـؤلاء من المستشرقين المغرضين الحاقدين على العرب والمسلمين، وطلابهم من المستغربين الذين حذوا حذو المستشرقين المغرضين الحاقدين، وتلوثت عقولهم بما كتبه أساتذتهم فنقلوها إلى العربية نقلا وادعوه لأنفسهم كذبا وزورا.

                  (ج) ومن هـذه التيارات، التيار الصليبي، الذي يحاول أن يعزو كل مفاخر العرب والمسلمين في الفتوح والحضارة والعلوم والفلسفة والفنون إلى النصارى، فالنصارى عاونوا في الفتح الإسلامي العظيم، وهم الذين نقلوا العلوم والفنون والفلسفة من اللغات الأجنبية إلى العربية وحدهم دون سواهم من الناس.

                  ولا ينكر التاريخ العربي الإسلامي عليهم حقهم ولا حق غيرهم، ولكن إبراز ذلك الحق وجعله كل شيء، ينكره كل مؤرخ منصف، ويستنكره أيضا.

                  وأطلق على هـؤلاء لقب: (الصليبيون) نسبة إلى الحروب الصليبية التي كانت لخدمة الاستعمار لا لخدمة المسيح عليه السلام .

                  (د) ومن هـذه التيارات، التيار الشيوعي، من أصحاب الولاء [ ص: 180 ] المزدوج: الولاء الأول للأجنبي، والولاء الثاني لوطنهم الأصلي، فإذا تناقض الولاءان كانت الأسبقية في التفضيل للولاء الأجنبي.

                  وهؤلاء يجعلون من كل مفخرة عربية إسلامية (إنجازا) ، اشتراكيا، فالفتح الإسلامي (مثلا ) كان لأسباب اقتصادية، وكل شخصية إسلامية تحدب على الفقراء شخصية اشتراكية، دون أن يفقهوا أن هـذا الحدب قد جعله الله (حقا) للفقراء على الأغنياء، فقال تعالى: ( والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم ) ) (المعارج:25) ، وقال تعالى: ( وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) (الذاريات:19) ، وهذا ما لا يحلمون به ولا يطمعون أن تحظى به شعوبهم المغلوبة على أمرها، فالنبي صلى الله عليه وسلم في زعم هـؤلاء المنحرفين (يساري) ، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه (وسط) ، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه (يساري) ، وعثمان بن عفان رضي الله عنه (يميني) ، وعلى بن أبي طالب (يساري) ، إلى غير ذلك من المهازل التي يرفضها العقل، ويدحضها المنطق، ويكذبها التاريخ، ويأباها الدين الحنيف!!

                  وأطلق على هـؤلاء لقب: (القصابيون) نسبة إلى القصاب الذي ذبح الرجال وسحلهم، وخرب البيوت ونهبها، وروع الآمنين وانتهك الحرمات، باسم الحرية والتقدمية والاشتراكية، وهو لا يفقه من كل هـذه المثل شيئا (جرى ذلك في مدينة الموصل سنة 1959م) .

                  (هـ) ومن هـذه التيارات التيار الجاهلي، الذي يحاول أن يعزو كل أثر للإسلام وتعاليمه ورجاله للعرب، والغرض من هـذا الاتجاه هـو تجميد أثر الإسلام في الفتح والحضارة، فظاهره حب للعرب، وباطنه كره للإسلام. [ ص: 181 ]

                  ولا شك في أن الأمة العربية أمة مجيدة، ولا يكره العرب مسلم حق سواء أكان عربيا أو غير عربي، ولأنني عربي فلا أكره أن أسمع على قومي أطيب الثناء.

                  ولكن الواقع شيء، والاختلاق شيء آخر.

                  ولست أعرف دينا سماويا، ولا عقيدة أرضية، كرمت العرب أمة وأفرادا، كما كرمها الإسلام.

                  يكفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم عربيا ويكفي أن يكون القرآن عربيا، ويكفي أن يكون الخلفاء الراشدون والأمويون والعباسيون عربا.

                  ويكفي أن يكون كل قادة الفتح وجنوده (تقريبا) من العرب.

                  وقد وردت إحدى وأربعون آية كريمة في سور مختلفة من سور القرآن الكريم عن العرب بالذات. (تفصيل آيات القرآن الكريم:566 - 571) .

                  ( وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يكره العرب إلا منافق. ) [1] ، كما جاء في فضل العرب كثير من الأحاديث النبوية ترويها كتب السنة، منها: ( إذا ذل العرب ذل الإسلام ) [2] ، ومنها: ( حب العرب إيمان وبغضهم نفاق ) [3] ، ومنها: ( أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي ) [4] ، [ ص: 182 ] ومنها: ( ألا من أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم. ) [5]

                  وقال الإمام ابن تيمية : (إن العرب أفضل من جنس العجم) ، (وقال: الأحاديث الواردة في فضل قريش كثيرة، وهي تدل على فضل العرب) [6] .

                  ولم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من عرب الجزيرة العربية، وهذا خلاف الحكم على غيرهم [7]

                  وقد ضاعف عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصدقة على نصارى بني تغلب وأسقط عنهم الجزية [8] ، تكريما للعرب.

                  وحتى الفقهاء أعطوا للعرب مكانتهم التي يستحقونها شرعا، ففي بيان ما تعتبر فيه الكفاءة، في قضايا الزواج، ذكروا أشياء منها: النسب، فقالوا: (والعرب بعضهم أكفاء لبعض: رجل برجل، والموالي أكفاء بعضهم لبعض: رجل برجل، لأن التفاخر والتعيير يقعان بالأنساب) ولا تكون الموالي أكفاء للعرب، لفضل العرب على العجم [9] . [ ص: 183 ] وقال السرخسي : العرب بعضهم أكفاء لبعض، فإن فضيلة العرب بكون رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، ونزول القرآن بلغتهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( حب العرب من الإيمان ) ، ( وقال لسلمان الفارسي : لا تبغضني! قال: وكيف أبغضك وقد هـداني الله بك؟! قال تبغض العرب فتبغضني. ) [10]

                  ولو أردنا أن نستقصي كل ما جاء في فضل العرب من الأقوال أئمة المسلمين، لجئنا بأقوال لا تعد ولا تحصى. [11]

                  ولا أظن أن هـناك عربيا واحدا، مسلما كان أو نصرانيا، مخلصا (حقا) لقومه العرب، يرفض الإسلام ويتنكر لأثره العظيم في العرب، إلا إذا كان جاهلا كل الجهل، أو صليبيا أو صهيونيا يكره الإسلام ويحاربه، أو عميلا للاستعمار والصهيونية وأعداء العرب والمسلمين، أو مغررا به كل التغرير.

                  وأطلق على هـؤلاء لقب: (الجاهليون) ، نسبة إلى الجاهلية في عصبيتها القبلية وشركها وتخبطها وكرهها للإسلام، وهذا هـو معنى الجاهلية: جهالة وضلالة، والحالة التي تكون عليها الأمة قبل أن يجيئها الهدى والنبوة.

                  (و) ومن هـذه التيارات، التيار الشعوبي، وهو المفضل أمر العجم على العرب، والمصغر أمر العرب، والمحاول الحط منهم (متن اللغة: 3/328) ، وهو مفرد الشعوبية، وكانت نزعة في العصر العباسي تنكرت للعرب أي تنكر وعادتهم أي عداء.

                  وهؤلاء يقللون من شأن العرب، ويغمطون حقوقهم، ويحطون من أقدارهم، وينكرون عليهم كل فضل، ويتنكرون لهم بالتظاهر بالإخلاص للإسلام والدفاع عنه. [ ص: 184 ]

                  ولا يمكن أن يحب المرء الإسلام ويخلص له ويتمسك به بتعاليمه ويلتزم به، ثم يكره العرب الذين هـم مادة الإسلام، فيتنكر لهم وينكر فضلهم، ويقلل من شأنهم ويغمط حقهم في أمجاد المسلمين حضارة وفتحا.

                  إن العرب جسد، روحه الإسلام، والجسد بدون روح فناء، والجسد بالروح بقاء.

                  وأطلق على هـؤلاء لقب: (الشعوبيون) ، ( ولا يكره العرب إلا منافق ) ، كما قال عليه أفضل الصلاة والسلام.

                  (ز) إن كل عربي ومسلم، لا يأتمن الجعليين والصليبيين والقصابين والجاهليين والشعوبيين على إعادة كتابة العسكرية الإسلامية عقيدة وتاريخا، وقادة وتراثا، ولغة وسلاحا، فهؤلاء الحاقدون والمبغضون والمنحرفون والمرتدون والمنافقون يمسخون العسكرية الإسلامية ويشوهون معالمها، ويزيفون أحداثها، ويدسون فيها ويفترون عليها ويشكون بها باسم البحث العلمي والموضوعية والنقد وشعارات زائفة أخرى، وكل هـذه الشعارات منهم براء.

                  إن كل عربي مسلم، لا يأتمن على إعادة كتابة العسكرية الإسلامية غير العربي الأصيل والمسلم الحق، فهؤلاء وحدهم يعيدون كتابتها بأسلوب العصر، وينقونها من الشوائب التي علقت بها عبر القرون.

                  ولكن هـذا القول وحده، لا يغني عن كل قول.

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية