الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  [3] العلماء القـادرون:

                  (أ) إن القادرين على إعادة كتابة العسكرية الإسلامية كثيرون من علماء العرب والمسلمين وقليلون من الضباط. [ ص: 185 ]

                  وهذا العصر أصبح عصر ذوي الاختصاص بالدرجة الأولى، والضباط وحدهم هـم القادرون بحق على النهوض بهذه المهمة الصعبة الشاقة ذات المجالات المتشعبة الواسعة، التي تحتاج إلى الصبر الجميل والدأب المتواصل، والسهر المستمر، والحرص الشديد، والاختصاص والتفرغ الكامل.

                  ومن المهم جدا، أن يعاون الضباط علماء من ذوي الاختصاص، كل حسب اختصاصه؛ لأن الضباط يستطيعون تفهم العسكرية الإسلامية بأقسامها بشكل أفضل من غيرهم، لعلاقة العسكرية الإسلامية بعملهم المباشر ضباطا في الجيش، ولكن ليس كل ضابط قادرا على النهوض بمثل هـذا الواجب الحيوي العظيم.

                  إن الضابط الذي يستطيع أن ينتج في مجال العسكرية الإسلامية إنتاجا سويا، لا بد من أن يكون عالما في فنه العسكري، مجربا تجارب طويلة ومثمرة في العمليات القتالية والأمور الإدارية، متقنا للغة العربية إتقانا جيدا، نظيفا في عقله لا يعاني داء الاستعمار الفكري، ليس مبهورا بالعقائد العسكرية الأجنبية، سليما في عقيدته الإسلامية، يعرف قيمة المعارك الإسلامية وأقدار القادة المسلمين، خبيرا بالمصادر العربية الإسلامية المعتمدة وبالمصادر الأجنبية الموثوق بها، يعتبر العلم عبادة من أجل العبادات لا تجارة من أربح التجارات، ويرى في جهده مهما يكن شاقا وطويلا جهادا خالصا لوجه الله، مستعدا للتضحية بجهده وماله من أجل إخراج إنتاجه العربي الإسلامي إلى حيز التنفيذ، دون أن ينتظر من أحد جزاء ولا شكورا، وحسبه أجر الله في إخراج علما ينتفع به، ويبقى أجره متجددا ما بقي المنتفعون به. [ ص: 186 ]

                  والضابط من هـذا الطراز نادر جدا، لأن المستعمر ربى الضباط على حب لغة الأجنبي وتعلمها، وكره العربية الفصحى وجهلها، ودراسة القادة الأجانب وإغفال القادة العرب والمسلمين، والانبهار بالعقيدة العسكرية الأجنبية والاحتقار للعقيدة العسكرية العربية الإسلامية، والتفرغ للكأس والطاس والسهر في الحفلات الترفيهية والنوادي الرخيصة.

                  فإذا استطاع نفر قليل جدا من الضباط - برحمة الله - أن يتملصوا من تربية المستعمر ومناهجه التخريبية، فالفضل لله وحده، ولولا رحمة الله لما اهتدوا وما استقاموا.

                  وعلى هـؤلاء النفر القليل من الضباط، يقع واجب قيادة عملية إعادة كتابة العسكرية الإسلامية من جديد.

                  (ب) ولكن العلماء المدنيين من ذوي الاختصاص، لهم دور مرموق في إعادة كتابة العسكرية الإسلامية بأسلوب عصري مفيد.

                  فالعلماء المفسرون والمحدثون والفقهاء، لهم أهمية خاصة في إعادة كتابة العقيدة العسكرية الإسلامية، خاصة وأن أهم مصادر هـذه العقيدة هـي القرآن الكريم، وكتب الحديث وكتب الفقه.

                  والمؤرخون الثقات، لهم أهمية كبيرة في إعادة كتابة المعارك العربية الإسلامية خاصة وأن أهم مصادر هـذه المعارك هـي: المصادر التاريخية العربية الإسلامية المعتمدة.

                  والجغرافيون الثقات، لهم دور في إعادة كتابة المعارك العربية الإسلامية، خاصة وأن أهم مصادر مواقع هـذه المعارك هـي المصادر: الجغرافية القديمة، كما أن رسم الخرائط والمخططات ضروري لتوضيح هـذه المعارك. [ ص: 187 ]

                  والمؤرخون والجغرافيون الثقات، لهم أهمية قصوى في كتابة سير قادة العرب والمسلمين، لجمع المعلومات الخاصة بهؤلاء القادة من مظانها في المصادر المختلفة، ورسم الخرائط والمخططات التوضيحية لمعارك القادة.

                  وتحقيق التراث العربي الإسلامي بحاجة إلى علماء اللغة بالدرجة الأولى، فهم القادرون على تحقيق هـذا التراث ونشره.

                  والمؤرخون واللغويون والمهندسون لهم أهمية خاصة في تحقيق أنواع الأسلحة العربية الإسلامية وأسلوب عملها واستخدامها، المؤرخون لتحقيق المعارك التي استعملت فيها، واللغويون لتحقيق أسمائها وأقسامها في اللغة، والمهندسون لرسم أشكالها وتفصيل عملها وآليتها.

                  واللغويون لهم دور عظيم في تطهير اللغة العسكرية من الألفاظ الدخيلة ووضع المصطلحات العسكرية الحديثة.

                  (ج) ولكن أي صنف من العلماء ينبغي أن يكون هـؤلاء المرشحون للعمل في إعادة كتابة العسكرية الإسلامية؟

                  لابد أن يكون العالم متينا في علمه، حتى يمكن أن يفيد فائدة كاملة ورصينة، ولا فائدة من عالم غير متمكن من علمه؛ لأنه يضر أكثر مما يفيد، وانحرافه عن الواقع تكون له عواقب وخيمة إلى أبعد الحدود.

                  وأن يكون مخلصا بعمله، غايته النجاح في عمله، فإذا انتفع بعمله ماديا فذلك خير، لا أن تكون غايته الانتفاع ماديا أولا وقبل كل شيء. [ ص: 188 ]

                  وبهذه المناسبة، أجد قسما من الدول العربية الغنية تغدق الأموال الطائلة على العلماء، أو على المشتغلين بالعلم بتعبير أدق؛ لأن العالم حقا لا يغرى بالمال.

                  وأشهد أن إغداق الأموال الطائلة على المشتغلين بالعلم أو تجار العلم، أفسد العلم؛ لأن تجار العلم انتهزوها فرصة للإثراء السريع، فأخذوا يكتبون أي شيء ويحاضرون بأي كلام، ليقبضوا الأموال بسرعة؛ لأن الكتابة الأصلية تستغرق وقتا طويلا في البحث والتنقيب والإعداد، لذلك يكتبون أي كلام ليتقاضوا الأجر المادي، وهذه الكتابة المتهافتة الهزيلة تنجز بسرعة، ويتقاضى عليها الأجر نفسه الذي يتقاضاه على البحث الأصيل، بينما يستغرق إعداد البحث الأصيل أضعاف ما يستغرقه البحث الهزيل من وقت، ولهذا يؤثر البحث الهزيل على البحث الأصيل حبا بالمال، مما أدى إلى ضعف مستوى الكلمة المكتوبة، فأصبحنا نشم رائحة المال منها ولا نشم رائحة العلم.

                  وما يقال عن الكلمة المكتوبة، يقال عن الكلمة المسموعة.

                  أما إذا جرى انتداب تجار العلم للنهوض بواجب علمي معين، فإنهم يستغرقون وقتا لإنجازه، هـو أضعاف الوقت المناسب لإنجازه، فهم يعملون من الحبة قبة لكي يقتنصوا أضخم مبلغ ممكن من المال، ومن المشكوك جدا أن ينجز هـؤلاء عملا علميا كما ينبغي، لأنهم تجار وليسوا علماء حتى ولو كانوا علماء حقا.

                  وتجار العلم يكتبون ويقولون ما (يحب) أن يسمع دافع الأموال لهم سواء أكان الدافع حكومة أو شعبيا، وهذا ليس علما بل نفاقا.

                  أما العالم المخلص في عمله، فيكتب ويقول ما (يجب) أن يسمع دافع [ ص: 189 ] الأموال، لأن كلمة العلم فوق كل كلمة، ونعم الأمراء على أبواب العلماء، وبئس العلماء على أبواب الأمراء.

                  إن أدعياء العلم، وتجار العلم، وعلماء السلطان، لا مكان لهم في كتابة العسكرية الإسلامية؛ لأنهم يضرون ولا ينفعون، ويعمرون جيوبهم بخراب قلوبهم.

                  وأخيرا، أن يكون العالم محافظا على كرامة العلماء، فكل من هـب ودب يستطيع أن يكون رئيسا أو مسئولا أو يتولى سلطة كبيرة، ولكن ليس كل من هـب ودب يستطيع أن يكون عالما، ويمكن أن تولي (المراسيم) أي شخص أي منصب، ولكنها لا يمكن أن تجعل من الجاهل عالما.

                  وما أروع قولة هـارون الرشيد : (تكبر علينا علم مالك، فاستفدنا منه) وما تكبر علم مالك على الفقراء، ولكنه لم يستخذ لذوي السلطان.

                  إن العالم الذي يفيد حقا في كتابة العسكرية الإسلامية، هـو العالم المتين في علمه، العامل بعلمه، المخلص بعمله، المحافظ على كرامة العلماء، المؤمن بأن العلم (عبادة) من أجل العبادات وليس (تجارة) من أربح التجارات.

                  وهؤلاء العلماء الأعلام، إذا تعاونوا مع الضباط الذين ذكرنا مزاياهم، فإن إعادة كتابة العسكرية الإسلامية ستولد حية، تفيد حاضر العرب ومستقبلهم، وسيكون لها أثر وتأثير عظيمان في العقول والنفوس معا، وستؤتي ثمراتها مرتين بإذن الله.

                  أما إذا تعاون تجار العلم مع الضباط الملوثين عقليا فإن إعادة كتابة العسكرية الإسلامية ستولد ميتة، لا تفيد صديقا ولا تضر عدوا، تفوح منها [ ص: 190 ] رائحة الدرهم والدينار أكثر مما تفوح منها رائحة العلم، ويكون مولدها من مصلحة أعداء العرب والمسلمين لا من مصلحة العرب والمسلمين.

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية