الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  [4] المنهاج والأسلوب:

                  (أ) لا أثق بتشكيل اللجان كثيرا، وخاصة في القضايا العلمية، فقد كان نصيب اللجان الإخفاق الكامل إلا نادرا.

                  لهذا أرى أن يقوم بإعادة كتابة العسكرية الإسلامية ضابط واحد فقط، يعاونه في:

                  كتابة العقيدة الإسلامية مفسر واحد وفقيه واحد.

                  وكتابة المعارك العربية الإسلامية، مؤرخ واحد، وجغرافي واحد.

                  وكتابة قادة العرب والمسلمين، مؤرخ واحد، وجغرافي واحد أيضا.

                  وكتابة الأسلحة العربية الإسلامية، مؤرخ واحد، ولغوي واحد، ومهندس واحد.

                  وكتابة اللغة العسكرية العربية، لغوي واحد، وعالم واحد باللغة الإنكليزية، وعالم واحد باللغة الفرنسية.

                  ويكون مع كل قسم من هـذه الأقسام الخمسة إداريان: الأول كاتب على الآلة الطابعة، والثاني منسق للكلمات والمفردات والتصحيح.

                  أما تحقيق التراث العسكري الإسلامي العربي فيوزع التراث على [ ص: 191 ] اللغويين المختصين لإجراء التحقيق في دورهم، وتوقيت الانتهاء من التحقق، ثم يبعثون التراث الذي حققوه إلى مقر هـيئة إعادة كتابة العسكرية الإسلامية، لمراجعة التحقيقات وإخراجها للناس.

                  إن ضخامة عدد العاملين في هـذا الحقل لا فائدة فيه، وقد يؤدي إلى عرقلة إنجاز المشروع أكثر مما يؤدي إلى الإسراع بإنجازه.

                  وما يقال عن العاملين، يقال عن الإداريين أيضا، والمهم هـو تقسيم الواجبات بوضوح، ومطالبة كل فرد بأداء واجبه.

                  أما أن نحشر الإداريين حشرا، فهو يؤدي إلى ضياع المسئولية، وبالتالي إلى الإخفاق.

                  لقد كتبت قادة الفتح وحدي، لا يعاونني أحد، أعمل كل شيء بنفسي، فأخرجت سلسلة قادة الفتح الإسلامي الأربع: قادة فتح العراق والجزيرة، وقادة فتح بلاد فارس، وقادة فتح بلاد الشام ومصر، وقادة فتح المغرب العربي، وهي مطبوعة.

                  وأنجزت حتى اليوم: قادة فتح السند وأفغانستان، وقادة فتح ما وراء النهر، وقادة فتح أرمينية، وقادة فتح بلاد الروم، وهي مخطوطة تنتظر أن أدفع بها إلى المطبعة قريبا إن شاء الله.

                  كما كنت رئيسا للجنة توحيد المصطلحات العسكرية للجيوش العربية التي أخرجت للناس أربعة معجمات موحدة سبق ذكرها.

                  والقادة واللغة أصعب كثيرا من أقسام العسكرية الإسلامية الأخرى، وتجربتي هـي التي أنارت لي الطريق في اقتراح منهاج العمل لإنجاز ما تبقى من هـذه العسكرية. [ ص: 192 ]

                  ومن المهم إعداد المصادر التاريخية والجغرافية والفقهية واللغوية، التي تعين العاملين في هـذا المجال للنهوض بمهمتهم على أحسن وجه وبأحسن طريقة وأسرع وقت.

                  وسنتان على الأكثر كافيتان لإنجاز ما تبقى من العسكرية الإسلامية.

                  (ب) أما أسلوب إعادة كتابة العسكرية الإسلامية، فقد ذكرت شطرا منه فيما سبق، وأسلوب إعادة كتابة العقيدة العسكرية الإسلامية، والمعارك العربية الإسلامية معروف جدا، والمهم فيه أن يكون عربيا إسلاميا لا مستوردا من الشرق أو الغرب الذي يعتمد أسلوب الإطناب الممل، ولا أسلوب المتون الذي يعتمد الإيجاز المخل، بل الأسلوب الوافي بالغرض.. البعيد عن الإطناب والإيجاز، الذي يحافظ على الحقائق ولا يحمل القضايا ما لا تطيق، والذي يمكن استنباط الدروس والعرب منه بسهولة ووضوح، بدون استعمال الألفاظ الأجنبية الدخيلة، والاكتفاء بالألفاظ العربية الأصيلة.

                  وقد حاولت أن أقرأ كل ما صدر من دراسات عسكرية حديثة في شتى أقسام العسكرية الإسلامية التي صنعها مؤلفون عرب ومسلمون، وسأعرض ما لمسته في تلك الدراسات في انحراف.

                  فقد ذكر أحد المؤلفين المحدثين، في دراسة خاصة بالحرب والسلام في الإسلام: أن لكل نبي معجزة، فمعجزة موسى العصا، ومعجزة عيسى شفاء المرضى الذين لا يرجى شفاؤهم بإذن الله، ومعجزة محمد (هكذا) الحرب!

                  وقد وقع هـذا المؤلف فريسة سهلة بيد المؤلفين الأجانب من أعداء العرب والمسلمين، فنقل مزاعمهم نقلا ونسبها إلى نفسه. [ ص: 193 ]

                  والغريب العجيب أن أحد المؤلفين الأجانب نقل هـذا الكلام عن المؤلف العربي المسلم، وبنى عليه أباطيل مذهلة في السراب!!

                  ولو لم يكتب المؤلف العربي المسلم ما كتب، لأسدى أعظم خدمة بسكوته للعسكرية الإسلامية، ولكن سبق السيف العذل.

                  أما في مجال إعادة كتابة المعارك العربية الإسلامية، فقد أكثر الذين أعادوا كتابتها في تحميلها ما لا تحتمل، فاحتفظوا بأسماء المعارك، ومسخوا فحواها مسخا.

                  وإذا لم يستطع الذين يعيدون كتابة معارك الفتوح مثلا أن يحتفظوا بالحقائق ويحافظوا عليها، فالأفضل لهم وللعرب والمسلمين وللتاريخ وللعسكرية الإسلامية أن يبقوا كل شيء على ما هـو عليه.

                  إن من الصعب جدا أن نقارن بين معركة إسلامية جرت قبل أربعة عشر قرنا، بمعركة حديثة جرت في الحرب العالمية الثانية، من ناحية التفاصيل والأساليب القتالية؛ لأنها مختلفة في المعركتين اختلافا بعيدا، لاختلاف أنواع الأسلحة ووسائط النقل والمواصلات وتعداد المقاتلين، وزج هـذه المقارنة بهذه الطريقة الناشزة، بمناسبة أو بدون مناسبة، خطأ فاحش لا مسوغ له، وقع فيه كثير من الذين حاولوا إعادة كتابة المعارك العربية الإسلامية، فأساءوا وهم يحسبون أنهم أحسنوا صنعا، لأنهم جعلوا من المعارك العربية الإسلامية ذنبا للمعارك الأجنبية، وهي ليست ذنبا بل رأسا، لأنها أقدم توقيتا من المعارك الأجنبية، وقد يقتبس الحديث من القديم، والعكس ليس صحيحا بل مستحيلا.

                  ولكن يمكن مقارنة مبادئ الحرب في المعركتين القديمة والحديثة، لأن المبادئ ثابتة، والأساليب متغيرة. [ ص: 194 ]

                  وما يقال عن المعارك العربية الإسلامية، يقال عن القادة العرب والمسلمين، فلهؤلاء القادة سماتهم ومزاياهم التي تناسب عصرهم وعقيدتهم وسلوكهم وتقاليدهم، فينبغي الإبقاء على تلك المزايا والسمات كما كانت عليه دون أن نبقي أسماءهم كما هـي ونمسخ سيرتهم بإضافة مزايا وسمات جديدة إليهم لم يكونوا يعرفونها ولم يسمعوا بها، ولو عادوا إلى الحياة لما تقبلوها.

                  لقد عاشوا قبل أربعة عشرا قرنا، والقادة الأجانب الذين عاشوا في القرن الحالي، يختلفون عنهم في كل شيء تقريبا، فإذا شبهنا قادة العرب والمسلمين بالقادة الأجانب كما يفعل قسم من المؤلفين المحدثين من العرب والمسلمين، فقد قللنا من أقدار قادتنا ومنزلتهم، وأسأنا إليهم من حيث أردنا الإحسان..

                  وهذا ما لا يقبله العقل ولا يرتضيه المنطق ولا يقره الوجدان ويأباه القادة العرب والمسلمون.

                  (ج) ذلك غيض من فيض، تتسم به الدراسات العسكرية الإسلامية، أكتفي بذكر أمثلة منها وأترك الباقي للدارس العربي المسلم الحصيف.

                  ولا أريد أن أشق على القارئ في سرد تفاصيل تلك الانحرافات والأخطاء، وحسبي ما ذكرته منها دليلا على أنها ليست بالمستوى المؤمل.

                  وسبب هـذه الانحرافات والأخطاء التي وقع فيها المؤلفون الأجانب، هـو التنفيس عن حقدهم الدفين على العرب والمسلمين، بتزوير التاريخ وتشويهه، واتهام الحضارة الإسلامية بتهم هـي منها براء. [ ص: 195 ]

                  وانتقل الزور والتشويه والدس والافتراء إلى العقول العربية بالأستاذ الذي تخرج في الجامعات الأجنبية، وبالكتاب الذي ألفه المؤلفون الأجانب، وبترجمة الكتب الأجنبية المريبة ونقلها إلى العربية دون تمحيص، وبتدريس تلك الكتب في المؤسسات التعليمية العربية والإسلامية، حتى استشرى التزوير والدس وشاع، فأصبح بالنسبة للجهلة هـو الحق الذي لا مراء فيه، وبالنسبة للملوثة عقولهم بهذا الكذب الصارخ هـو العلم الذي لا علم غيره.

                  وبالتدريج نقلت هـذه الافتراءات في الكتب المؤلفة حديثا، عن حسن نية أو سوء نية، لا فرق بينهما؛ لأن النتيجة واحدة، وهي أنها تثبت أن عقل المؤلف ملوث بالاستعمار الفكري البغيض، وأنه مطية للأجنبي الحاقد شاء أم أبى، وانه جاهل بمصادره المعتمدة التي ينبغي أن يعتمدها في تأليفه ولا يعتمد المصادر الأجنبية المريبة.

                  وقد حدثتك عن المؤلف العربي المسلم الذي نقل فرية: (أن معجزة محمد هـي الحرب) من المصادر الأجنبية المعروفة بانحيازها للصهيونية والصليبية والماسونية وتحيزها على العرب والمسلمين، فالتقط هـذه الفرية مؤلف أجنبي ونقلها فورا عن المؤلف العربي المسلم، ليدعي أن هـذه ليست فرية بل حقيقة ثابتة يتداولها المسلمون فيها بينهم ويعترفون بها، ويقرون بحقيقتها... وهو يعلم حق العلم أنها فرية مكشوفة، زورها الأجانب الحاقدون، واستوردها العرب والمسلمون الجهلة، كما أنه يعلم حق العلم أن العربي الحق والمسلم الصحيح بعيد بعد السماء عن الأرض عن مثل هـذه الافتراءات التي لم يسجلها مصدر عربي إسلامي، ولا رواها أو عرفها عربي ولا مسلم منذ جاء الإسلام حتى اليوم. [ ص: 196 ]

                  ومن أجل أن أذكر العرب والمسلمين بأهمية العسكرية العربية الإسلامية وضرورة إعادة كتابتها بأيد أمينة قادرة، من جديد.

                  ومن أجل أن أضع الطريقة المثلى لإعادة كتابتها أمام العرب والمسلمين.

                  ومن أجل أن أستثير هـمم علماء العرب والمسلمين، ليعيدوا كتابتها لمصلحة حاضر العرب والمسلمين في كل مكان للاتجاه نحو غد أفضل.

                  ومن أجل تحقيق كل هـذه الأهداف الحيوية الرئيسة، عكفت على تدوين هـذه الدراسة، داعيا الله أن تكون خالصة لوجهه الكريم، وأن يحقق الأهداف التي دونت من أجلها، وحسبنا الله ونعم الوكيل..

                  وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.

                  ورضي الله عن قادة الفتح وجنوده، وقادة الفكر وجنوده، وعن المجاهدين الصادقين، وعن جميع الذين خدموا الإسلام شريعة وعقيدة ومثلا عليا ولغة وتراثا. [ ص: 197 ]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية