الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  [3] المصـادر:

                  معارك الفتح... ومعارك استعادة الفتح، والمعارك الدفاعية متيسرة في المصادر التاريخية العربية الإسلامية المعتمدة.

                  وهذه المصادر موثوق بها؛ لأن المؤرخين الذين ألفوها ثقات من طراز فريد، فقد كانوا في أكثرهم مفسرين ومحدثين وفقهاء ونحاة وأدباء ومؤرخين، إضافة إلى علوم أخرى؛ كالطبري مثلا صاحب: تاريخ الرسل والملوك، وإمام المؤرخين.

                  لقد كان الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (224هـ - 310هـ) مفسرا، وهو صاحب التفسير المشهور، ومحدثا، وفقيها، وهو صاحب كتاب: (اختلاف الفقهاء) ، ونحويا، ومؤرخا، وكان مشهورا بالورع والتقوى، معروفا بالاستقامة والصدق.

                  وقد ذكره الإمام النووي في كتابه: (تهذيب الأسماء واللغات) ، فقال: (هو في طبقة الترمذي والنسائي ، وكان أحد الأئمة، يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه؛ لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظا لكتاب الله، عارفا بالقراءات، بصيرا بالمعاني، فقيها في أحكام القرآن، عالما بالسنن وطرقها وصحيحها [ ص: 36 ] وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين فمن بعدهم في الأحكام، عارفا بأيام الناس وأخبارهم، وله كتاب التاريخ المشهور، وكتاب في التفسير لم يصنف أحد مثله، وكتاب (تهذيب الآثار) ، لم أر سواه في معناه لكنه لم يتمه، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة، وتفرد بمسائل حفظت عنه " [1] .

                  وذكره الإمام الذهبي في كتابه: (ميزان الاعتدال في نقد الرجال) ، فقال: " الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب التصانيف الباهرة، ثقة، صادق، من كبار أئمة الإسلام المعتمدين " [2] .

                  وقال ابن خلكان في كتابه: (وفيات الأعيان) عن المؤرخ ابن الأثير : " وكان إماما في حفظ الحديث ومعرفته وما يتعلق به، وحافظا للتواريخ المتقدمة والمتأخرة، وخبيرا بأنساب العرب وأيامهم ووقائعهم وأخبارهم، صنف في التاريخ كتابا كبيرا سماه (الكامل) ، ابتدأ فيه من أول الزمان إلى آخر سنة ثمان وعشرين وستمائة الهجرية، وهو من خيار التواريخ " [3] .

                  تلك هـي بعض مزايا الطبري وابن الأثير وأمثالهما من المؤرخين المعتمدين، يحرصون على تدوين الحقائق التاريخية كما حدثت بصدق وأمانة؛ لأنهم يخافون الله فلا يفترون الكذب، ولأنهم علماء بحق لا يلوثون علمهم بالكذب والافتراء، ولأنهم قادرون على تدوين التاريخ [ ص: 37 ] بأمانة وصدق وعلم، ولو أنهم لا يقدرون على التدوين كما ينبغي، لانصرفوا عنه إلى علومهم الأخرى التي يحاولون ما استطاعوا أن ينتفع بها الناس، واضعين نصب أعينهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله [4] إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له. ) [5] ، فكانوا يعتبرون العلم عبادة من أجل العبادات، ويرجون ثواب الله في كل كلمة يخطونها باعتبار العلم يتجدد ثوابه ما أقبل عليه الناس وانتفعوا به، ولا ثواب إلا على علم موثوق به لا غش فيه ولا تدليس، ولا ثواب على علم ملفق لا ينفع الناس.

                  لذلك كان المؤرخون المسلمون القدامى كالطبري وابن الأثير وأضرابهما من المؤرخين يحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا، ونياتهم أن يتعبدوا بما يكتبون، وإنما الأعمال بالنيات.

                  ولا يدعي أحد الكمال للمؤرخين المسلمين المعتمدين، فالكمال لله وحده، والكتاب العزيز هـو الكتاب الوحيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أما ما يخطه البشر فلا يخلو من الوهم والخطأ والنسيان، وكتب المؤرخين المسلمين المعتمدين لا تخلو من الخطأ، ولكن نسبة خطئهم إلى صوابهم ضئيل.

                  وقد كانت الرقابة النقدية على مختلف رواة الأخبار صارمة جدا في العصور الغابرة، والرواة الذين ينحرفون عن الصدق يسجل عليهم [ ص: 38 ] انحرافهم بلا رحمة ولا هـوادة، فيقول عنهم النقاد بصراحة وصدق وأمانة: " لا يوثق بهم " ، أو يقولون عن المفتري: " كذاب " ، أو يعبرون عن أقوالهم بأنها غير موثوق بها بقولهم: " حاطب ليل " ، أو: " لا يؤخذ بأقوالهم " .

                  وحتى في تعبير أصحاب الرجال والمؤرخين، يقولون عن الموثوق به: " روى فلان، وقال فلان " ويقولون عن غير الموثوق به: " زعم فلان " ، أو يقولون عنه: " لا يؤخذ بقوله " .

                  والمصادر التاريخية العربية الإسلامية المعتمدة لإعادة كتابة معارك الفتح ومعارك استعادة الفتح والمعارك الدفاعية، هـي: تاريخ الطبري، وتاريخ ابن الأثير، وتاريخ فتوح البلدان للبلاذري، وما أكثر المصادر الأخرى، ولكن المصادر الثلاثة التي ذكرتها تعتبر من أوثق المصادر التاريخية القديمة المعتمدة، وقد تكفي للنهوض بمهمة إعادة كتابة المعارك العربية الإسلامية الخاصة بالفتوح واستعادة الفتوح.

                  أما المعارك الدفاعية الحديثة التي خاضها العرب والمسلمون فمصادرها العربية والأجنبية كثيرة جدا، ولكن معظمها لا يخلو من تحيز وانحياز: العرب يتحيزون لأمتهم، والأجانب ينحازون لأقوامهم، وقد ضاعت الحقائق بين التحيز والانحياز.

                  والمؤرخون المحدثون في الغالب غير ملتزمين بالمثل العليا التي كان يلتزم بها المؤرخون القدامى المعتمدون، فتقتضي دراسة المصادر والمراجع المحدثة حذرا شديدا؛ للعثور على الحقائق بين ركام الإفراط والتفريط، فقد مضى الوقت الذي كان المؤرخون يعتبرون العلم [ ص: 39 ] عبادة من أجل العبادات، وجاء الزمن الذي أصبح فيه أكثرهم يعتبرون العلم تجارة من أربح التجارات.

                  ولكن لا يخلو أي وقت من الثقات، وعلى هـؤلاء مسئولية إعادة كتابة معارك العرب والمسلمين الحديثة.

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية