الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  [4] التحقيق: [1]

                  أصل التحقيق من قولهم: حقق الرجل القول: صدقه أو قال: هـو الحق.

                  والجاحظ يسمي العالم المحقق: محقا، قال: " إنه لم يخل زمن [ ص: 87 ] من الأزمان فيما مضى من القرون الذاهبة إلا وفيه علماء محقون قرءوا كتب من تقدمهم ودارسوا أهلها " ، والإحقاق: الإثبات، يقال: أحققت الأثر إحقاقا، إذا أحكمته وصححته.

                  والتحقيق يشمل: تحقيق عنوان الكتاب، وتحقيق اسم المؤلف، وتحقيق نسبة الكتاب إلى مؤلفه، وتحقيق متن الكتاب حتى يظهر بقدر الإمكان مقاربا لنص مؤلفه.

                  وتحقيق عنوان الكتاب ليس هـينا؛ لأن بعض المخطوطات يكون خاليا من العنوان، إما لفقد الورقة الأولى منها، أو انطماس العنوان، أو لإثبات عنوان جلي واضح، ولكنه يخالف الواقع إما بداع من دواعي التزييف، أو لجهل قارئ ما وقعت إليه نسخة مجردة من عنوانها فأثبت ما خاله عنوانها.

                  والمحقق بحاجة إلى الرجوع إلى كتب المؤلفات، كابن النديم، أو كتب التراجم، أو يتاح له الظفر بطائفة من نصوص الكتاب مضمنة في كتاب آخر، أو أن يكون له إلف خاص أو خبرة خاصة بأسلوب مؤلف من المؤلفين وأسماء ما ألف من الكتب، فتضع تلك الخبرة في يده الخيط الأول للوصول إلى حقيقة عنوان الكتاب.

                  وتحقيق اسم المؤلف، لا بد أن يكون مصحوبا بالحذر، فليس يكفي أن نجد عنوان الكتاب واسم مؤلفه في ظاهر النسخة واسم مؤلفه في ظاهر النسخة لنحكم بأن المخطوطة من مؤلفات صاحب الاسم المثبت، بل لا بد من إجراء تحقيق علمي يطمئن معه الباحث إلى أن الكتاب نفسه صادق النسبة إلى مؤلفه.

                  وأحيانا تفقد النسخة النص على اسم المؤلف، فمن العنوان يمكن التهدي إلى ذلك الاسم، بمراجعة فهارس المكتبات، أو كتب المؤلفات، أو كتب التراجم التي أخرجت إخراجا حديثا وفهرست فيها [ ص: 88 ] الكتب، كمعجم الأدباء لياقوت، أو غير ذلك من الوسائل العلمية.

                  والمحقق إذا عثر على طائفة معقولة من الكتاب منسوبة إلى مؤلف معين في نقل من النقول، كان ذلك مما يؤيد ما يرجحه أو يقطع به في ذلك.

                  وقد يعتري التحريف والتصحيف أسماء المؤلفين المثبتة في الكتب، فالنصري قد يصحف بالبصري، والحسن بالحسين، وهذا يحتاج إلى تحقيق لا يكتفى فيه بمرجع واحد، فقد يكون ذلك المرجع فيها عين ذلك التصحيف أو تصحيف آخر أقسى منه، فليس هـناك بد من الاطمئنان بالبحث العلمي الواسع.

                  وما قيل في تزييف العناوين، يقال أيضا في تزييف أسماء المؤلفين، لذلك لم يكن بد من أن يتنبه المحقق لهذا الأمر الدقيق.

                  وليس بالأمر الهين أن نؤمن بصحة نسبة أي كتاب كان إلى مؤلفه، ولا سيما الكتب الخاملة التي ليست لها شهرة، فيجب أن تعرض هـذه النسبة على فهارس المكتبات والمؤلفات وكتب التراجم، لنستمد منها اليقين بأن هـذا الكتاب صحيح الانتساب.

                  على أن معرفة منزلة المؤلف العلمية، مما يسعف في التحقيق بنسبة الكتاب، ولكن بعض المؤلفين تتفاوت منزلتهم العلمية اختلافا ظاهرا بتفاوت أعمارهم، وباختلاف ضروب التأليف التي يعالجونها، فنجد المؤلف الواحد يكتب في صدر شبابه كتابا ضعيفا، فإذا علت به السن وجدت بونا شاسعا بين يوميه، وهو كذلك يكتب في فن من الفنون قويا متقنا، على حين يكتب في غيره وهو من الضعف على حال، فلا يصح أن يجعل هـذا القياس حاسما باطراده في تصحيح نسبة الكتاب.

                  وتعد الاعتبارات التاريخية من أقوى المقاييس في تصحيح نسبة الكتاب أو تزييفها، فالكتاب الذي تحشد فيه أخبار تاريخية تالية لعصر مؤلفه [ ص: 89 ] الذي نسب إليه، جدير بأن يسقط من حساب ذلك المؤلف.

                  أما تحقيق متن الكتاب، فمعناه أن يؤدى الكتاب أداء صادقا كما وضعه مؤلفه كما وكيفا بقدر الإمكان، وليس معنى تحقيق الكتاب أن نتلمس للأسلوب النازل أسلوبا هـو أعلى منه، أو نحل كلمة صحيحة محل أخرى صحيحة بدعوى أن أولاهما أولى بمكانها أو أجمل أو أوفق، أو ينسب صاحب الكتاب نصا من النصوص إلى قائل وهو مخطئ في هـذه النسبة، فيبدل المحقق ذلك الخطأ ويحل محله الصواب، أو أن يخطئ في عبارة خطأ نحويا دقيقا فيصحح خطأه في ذلك، أو أن يوجز عبارته إيجازا مخلا فيبسـط المحقق عبارته بما يدفع الإخلال.

                  ليس تحقيق المتن تحسينا أو تصحيحا، وإنما هـو أمانة الأداء التي تقتضيها أمانة التاريخ، فإن متن الكتاب حكم على المؤلف، وحكم على عصره وبيئته، وهي اعتبارات تاريخية لها حرمتها، كما أن ذلك الضرب من التصرف عدوان على حق المؤلف الذي له وحده حق التبديل والتغيير.

                  وقد يقال: كيف نترك ذلك الخطأ يشيع، وكيف نعالجه؟

                  إن المحقق إن فطن إلى شيء من ذلك الخطأ، نبه عليه في الحاشية أو في آخر الكتاب، وبين وجه الصواب فيه، وبذلك يحقق الأمانة، ويؤدي واجب العلم.

                  ويجب أن يستشعر المحقق الحذر الكامل في تحقيق الآيات القرآنية، وألا يركن إلى أمانة غيره في ذلك مهما بلغ قدره.

                  وإبقاء النص القرآني المحرف كما هـو في الصلب، فيه مزلة للأقدام، فإن خطر القرآن الكريم يجل عن أن نجامل فيه مخطئا، أو نحفظ فيه حق مؤلف لم يلتزم الدقة فيما يجب عليه فيه أن يلزم غاية الحذر.

                  واختبار النصوص القرآنية لا يكفي فيها أن نرجع إلى المصحف [ ص: 90 ] المتداول، بل لا بد فيه من الرجوع إلى كتب القراءات السبع، ثم العشر، ثم الأربع عشرة، ثم كتب القراءات الشاذة، وفي كتب التفسير يلجأ إلى تلك التي تعنى عناية خاصة بالقراءات، كتفسير القرطبي وأبي حيان .

                  وأما نصوص الحديث، فيجب أن تختبر بعرضها على مراجع الحديث، لقراءة نصها وتخريجها إن أمكن التخريج.

                  وهذا أيضا هـو واجب المحقق إزاء كل نص من النصوص المضمنة، من الأمثال والأشعار ونحوها، فيجب أن يتجه إلى مراجعها، ليستعين بها في قراءة النص وتخريجه إن أمكن التخريج.

                  وهذه الضروب الثلاثة من النصوص، هـي أخطر ما يجب فيه الدقة والحرص والتريث، وليس معنى ذلك أن نستهين بغيرها، ولكن معناه أن نبذل لها من اليقظة، ونستشعر لها من الحرص، ما يعادل خطرها البالغ.

                  إن التحقيق أمر جليل، وإنه يحتاج من الجهد والعناية إلى أكثر مما يحتاج إليه التأليف، وتحقيق النصوص محتاج إلى مصابرة وإلى يقظة علمية، وإلى سخاء في الجهد الذي لا يضن على الكلمة الواحدة بيوم واحد، أو أيام معدودات.

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية