الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ 7028 ] أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني ، حدثنا النعمان بن أحمد بن نعيم الواسطي قاضي تستر ، حدثنا الحسين بن علي الأزدي المعروف بابن السمسار ، حدثنا محمد بن علي النحوي ، حدثنا الفضل بن الربيع قال : حج أمير المؤمنين هارون الرشيد قال : فبينما أنا ليلة نائم بمكة إذ سمعت قرع الباب فقلت : من هذا ؟ فقال : أجب أمير المؤمنين ، فخرجت مسرعا فقلت : يا أمير المؤمنين هلا أرسلت إلي فآتيك ، فقال له : حك في نفسي شيء ، فانظر لي رجلا أسأله عنه ، فقلت : هاهنا سفيان بن عيينة ، قال : فامض بنا إليه ، فأتيناه فقرعت عليه الباب ، فقال : من هذا ؟ فقال : أجب أمير المؤمنين ، فخرج مسرعا ، فقال : يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك ، فقال له : خذ لما جئناك له رحمك الله فحادثه ساعة ، فقال له : أعليك دين ؟ قال : نعم ، قال : يا عباسي اقض دينه ، ثم التفت إلي فقال : يا عباسي ما أغنى عني صاحبك شيئا ، فانظر لي رجلا أسأله ، فقلت : هاهنا عبد الرزاق بن همام ، فقال : امض بنا إليه فأتيناه ، فقرعت عليه الباب ، فقال : من هذا ؟ فقلت : أجب أمير المؤمنين فخرج مسرعا ، فقال : يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك ، فقال : خذ لما جئناك له رحمك الله فحادثه ساعة ، ثم قال له : أعليك دين ؟ قال : نعم ، قال : يا عباسي اقض دينه ، ثم التفت إلي ، فقال : ما أغنى عني صاحبك شيئا فانظر لي رجلا أسأله ، فقلت : هاهنا فضيل بن عياض ، فقال : امض بنا إليه فأتيناه فإذا هو قائم يصلي يتلو آية من [ ص: 512 ] كتاب الله ويرددها ، وكان هارون رجلا رقيقا فبكى بكاء شديدا ، ثم قال لي : اقرع الباب ، فقرعته فقال : من هذا ؟ فقلت : أجب أمير المؤمنين ، فقال : ما لي ولأمير المؤمنين ؟ فقلت : سبحان الله أوما عليك طاعة ؟ أوليس قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه " ؟

قال : فنزل ففتح الباب ، ثم ارتقى إلى الغرفة وأطفأ السراج والتجأ إلى زاوية من زوايا الغرفة ، فجلس فيها فجعلنا نجول عليه بأيدينا فسبقت كف هارون قبل كفي إليه ، فقال : أوه من كف ما ألينها ، إن نجت من عذاب الله ، قال : فقلت في نفسي ليكلمنه الليلة بكلام نقي من قلب تقي ، قال فقال له : خذ لما جئناك له رحمك الله ، فقال له : يا أمير المؤمنين بلغني أن عاملا لعمر بن عبد العزيز شكى إليه ، فكتب إليه : يا أخي اذكر طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد ، فإن ذلك يطرق بك إلى الرب نائما ويقظانا ، وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون آخر العهد لك ومنقطع الرجاء ، فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر ، فقال له عمر : ما أقدمك ؟ قال : خلعت قلبي بكتابك لا وليت ولاية حتى ألقى الله ، قال : فبكى هارون الرشيد بكاء شديدا ثم قال له : زدني رحمك الله ، فقال : يا أمير المؤمنين بلغني أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب القرظي ورجاء بن حيوة فقال لهم : إني قد بليت بهذا البلاء فأشيروا علي فعد الخلافة بلاء وعددتها أنت وأصحابك نعمة ، فقال محمد بن كعب القرظي : إن أردت النجاة من عذاب الله تعالى فليكن كبير المسلمين عندك أبا ، وأوسطهم عندك أخا ، وأصغرهم عندك ولدا ، فوقر أباك ، وأكرم أخاك ، وتحنن على ولدك ، وقال له سالم بن عبد الله : إن أردت النجاة من عذاب الله تعالى فصم عن الدنيا وليكن إفطارك منها الموت وقال له رجاء بن حيوة : إن أردت النجاة غدا من عذاب الله تعالى فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك ، واكره لهم ما تكره لنفسك ، وإني لأقول لك هذا وإني لأخاف عليك أشد الخوف يوم تزل فيه الأقدام ، فهل معك رحمك الله من يأمرك بمثل هذا ؟ فبكى هارون بكاء شديدا حتى غشي عليه ، فقلت : ارفق بأمير المؤمنين فقال : يا ابن أم الربيع تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا ، ثم إنه أفاق فقال : زدني رحمك الله ، فقال له : يا أمير المؤمنين يا حسن الوجه : أنت الذي يسألك الله عن هذا الخلق يوم القيامة ، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من حر النار فافعل ، فقال له هارون الرشيد : عليك دين ؟ [ ص: 513 ] قال : نعم ، دين لربي ولم يحاسبني عليه ، فالويل لي إن سألني ، والويل لي إن ناقشني ، والويل لي إن لم ألهم حجتي ، فقال : إنما أعني دين العيال ، فقال : إن ربي لم يأمرني بهذا ، أمرني أن أصدق وعده وأن أطيع أمره ، فقال عز من قائل : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ) .

فقال له : هذه ألف دينار فخذها وأنفقها على نفسك وتقو بها على عبادة ربك ، فقال : سبحان الله ، أنا أدلك على النجاة وأنت تكافئني بمثل هذا ، سلمك الله ووفقك ، قال : فخرجنا من عنده فبينما نحن على الباب إذ بامرأة من نسائه ، قالت له : يا أبا عبد الله قد ترى ضيق ما نحن فيه من الحال ، فلو قبلت هذا المال ، وفرجتنا به ، فقال لها : مثلي ومثلكم مثل قوم كان لهم بعير يستقون عليه ، فلما كبر نحروه وأكلوا لحمه ، فلما سمع هذا الكلام ، قال : نرجع فعسى أن يقبل هذا المال ، فلما أحس به الفضيل خرج إلى تراب في السطح فجلس عليه ، وجاء هارون فجلس إلى جنبه فجعل يكلمه ولا يجيبه بشيء ، فبينا نحن كذلك إذا بجارية سوداء قد خرجت علينا ، فقالت : قد آذيتم الشيخ منذ الليلة انصرفوا رحمكم الله ، قال : فخرجنا من عنده ، فقال : يا عباسي إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا ، فهذا سيد المسلمين .

قال : وقال الفضيل : تقرأ في وترك نخلع وتترك من يفجرك ثم تغدو إلى الفاجر فتعامله .

قال : وقال الفضيل : لا تنظر إليهم من طريق الغلظة عليهم ، ولكن انظر من طريق الرحمة يعني السلطان .

التالي السابق


الخدمات العلمية