[4] كتـابة سـير القادة العسكريين:
(أ) ومن الطبيعي أن يبادر القادرون على كتابة سير القادة العسكريين إلى العمل الجاد لإخراج سيرهم في كتب للناس، لعل كل عربي مسلم يعرف القائد الذي فتح بلده، وهذا أضعف الإيمان، ولعل سيرهم الباهرة تطهر عقول الذين بهروا بالقادة الأجانب وقلوبهم من أدرانها التي علقت بها بتأثير المناهج الدراسية للمستعمر الحاقد، ولعل شباب العرب والمسلمين يقتدون بسيرهم الغنية بالرجولة والشجاعة والإقدام والتضحية والفداء، ويقتفون آثارهم الفذة ليصلوا إلى النتائج نفسها التي حققها أولئك القادة العظام.
ولعل العرب والمسلمين أيضا، يوقنون أن قادتهم أعظم من القادة الأجانب وأكثر كفاية واقتدارا، وأن ما غرسه المستعمر في نفوسهم من تفوق الأجنبي ما هـو إلا حديث خرافة بعيد عن الواقع والحق، وأن العرب والمسلمين أمة لا تقل شأنا عن سائر الأمم، وبإمكانها أن تأخذ مكانتها المرموقة بين الأمم الأخرى.
وأخيرا، لعل المدارس والمعاهد والكليات المدنية والعسكرية، تثبت في مناهجها دراسة سير قادة العرب والمسلمين، وتمحو من مناهجها سير القادة الأجانب، وبذلك يستبدلون الذي هـو خير بالذي هـو أدنى، فيتخرج التلاميذ والطلاب العرب والمسلمون في تلك المدارس والمعاهد والجامعات المدنية والعسكرية، وعقولهم وقلوبهم معا طاهرة من سموم الاستعمار الفكري البغيض. [ ص: 74 ]
وأحب أن أضع زبدة تجاربي في كتابة سير قادة الفتح الإسلامي وقادة استعادة الفتح الإسلامي بين أيدي الذين يحبون أن يشاركوا في العمل بهذا الميدان.
إن الإفاضة في قراءة أكبر عدد من المصادر لكتابة سيرة قائد من القادة ضروري جدا، فذلك وحده يخرج سيرته قريبة من الكمال، أما الاكتفاء بقراءة عدد محدود من المصادر اقتصادا بالوقت أو توفيرا للجهد، فيؤدي إلى إخراج سيرته بعيدة عن النضوج.
ودراسة القادة لا ينبغي أن تقتصر على المشاهير منهم دون المغمورين، بل يجب أن تشمل على المشهورين والمغمورين أيضا، وقد اكتشفت أن قسما من القادة المغمورين فتحوا بلادا أوسع من العراق ومصر مساحة وأكثر منهما سكانا، ولكنهم بقوا مغمورين في صفحات المصادر المعتمدة، وكأنهم لم يفتحوا بلدا، ولم يجاهدوا في الله حق جهاده!
إن بعث القادة المغمورين أهم بكثير من كتابة سير القادة المشهورين، ولكن الكتابة عن المغمورين أصعب بكثير من الكتابة عن المشهورين؛ لأن المغمورين اكتشاف، والمشهورين اقتباس، فلا ينبغي اختيار الطريق الممهدة وتجنب الطريق الصعبة، فهي الطريق الوحيدة التي تؤدي إلى اكتشاف جديد.
وللقادة العرب والمسلمين سماتهم ومزاياهم التي تناسب عصرهم وعقيدتهم وتقاليدهم، فيجب الإبقاء على تلك السمات والمزايا كما هـي، وكما كانت على أصحابها، دون أن نبقي أسماءهم كما هـي، ونمسخ سيرتهم بإضافة سمات ومزايا جديدة إليهم، لم يكونوا يعرفونها ولم [ ص: 75 ] يسمعوا بها، ولا كانوا يحلمون بها، ولو عادوا إلى الحياة لاشمأزوا منها ورفضوها.
لقد عاشوا قبل أربعة عشر قرنا، والقادة الأجانب الذين عاشوا في القرن الحالي اقتبسوا منهم - إذا فعلوا ذلك حقا - أما إذا لم يفعلوا فلا ينبغي أن ندعي لقادتنا ما ليس لهم بحق، إذ لا يزيد في قدرتهم وقيمتهم هـذا الادعاء، وإسباغ سمات ومزايا القادة الأجانب عليهم خطأ فاحش، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على إعجابنا الشديد إلى حد الانبهار بالقادة الأجانب كأثر من آثار الاستعمار الفكري المستحوذ على عقول الذين يقعون في مثل هـذا الخطأ الشنيع، كما أن قادتنا أعظم قدرا ومنزلة من القادة الأجانب لأنهم أكثر فتحا وأرسخ عقيدة وأعظم شجاعة، فإذا شبهناهم بالقادة الأجانب كما فعل قسم من المؤلفين، فقد قللنا من أقدارهم ومنزلتهم وأسأنا إليهم من حيث أردنا الإحسان.. وهذا ما لا يقبله العقل ولا يرتضيه المنطق، ولا يقره الوجدان، ويأباه القادة العرب المسلمون.
(ب) ونعود إلى أسلوب كتابة سير القادة العرب المسلمين: هـل -نقلد الأسلوب الأجنبي في الإطناب الممل، كالذي اتخذه طلاب الدراسات العليا في إعداد رسائلهم، أم نقلد أسلوب (المتون) في الإيجاز المخل، كالذي اتخذه كتاب (المتون) التي تحتاج إلى (الشروح) على (المتون) ، ثم تكون (التعليقات) على الشروح؟
لقد قلد قسم من الذين حاولوا الكتابة عن قائد أو أكثر من قائد من قادة العرب والمسلمين الأسلوب الأجنبي، فأخرجوا للناس كتابا ضخما عن قائد واحد، يمكن اختصاره في صفحات معدودات دون مغادرة شاردة أو واردة من المعلومات الواردة في الكتاب إلا أحصتها، وما بقي من سائر صفحات الكتاب حشو ولغو وتكرار مبتذل. [ ص: 76 ]
وبالإمكان أن أضرب مثلا على ذلك، فقد ورد في أحد المصادر العربية القديمة، أن خالد بن الوليد رضي الله عنه هـو الذي فتح مصر ، ومؤلف هـذا المصدر أورد هـذا الخبر مسندا إلى رواته الذين لا يعتمد على روايتهم ولا يؤخذ بها، لأنهم ضعفاء لا ثقة بما يقولون.
ومؤلف هـذا المصدر المذكور، أورد هـذا الخبر بهذا الشكل من الإسناد الضعيف، ليقول بصورة غير مباشرة: إن الخبر عن خالد لا نصيب له من الصحة، ولكنه ذكره في مصنفه ليدل على الخبر المكذوب؛ لأنه أورد أن فاتح مصر هـو عمرو بن العاص بإسناد متين، وهذا هـو منتهى الدقة في الأمانة العلمية لتدوين الأخبار.
ولكن المؤلف الحديث، ناقش بإطناب: هـل فتح خالد مصر أم لم يفتحها؟ واستغرقت مناقشته أكثر من عشر صفحات من القطع المتوسط، فضيع وقته الثمين دون مسوغ، لأنه اعتمد الأسلوب الأجنبي في التدوين.
وأخشى أن يكون ذلك المؤلف يعتبر أهمية الكتاب تقدر بوزنه لا بما فيه من فائدة، فضاعف وزن كتابه باللغو من القول.
والأسلوب الذي أراه مناسبا في كتابة سير القادة العرب المسلمين، ليس الأسلوب الأجنبي الذي يعتمد الإطناب، ولا أسلوب تدوين (المتون) الذي يعتمد الإيجاز، بل الأسلوب الوسط الذي يكتفي بنقل الحقائق من مصادرها المعتمدة التي تعين على استنتاج سمات القائد ومزاياه إنسانا وقائدا، واستنتاج ما يفيد العرب والمسلمين في حاضرهم ومستقبلهم.
وهذا الأسلوب الوسط يدون بكلمات عربية أصلية، بعيدة عن [ ص: 77 ] الكلمات الأجنبية الدخيلة، فالعربية الفصحى لغة القرآن الكريم ليست عاجزة عن التعبير الرائع البليغ المعبر المفهوم في مختلف مجالات العلوم والآداب والفنون، بعد أن استطاعت التعبير الواضح الوافي البليغ في كتاب الله، وحملت قرونا طويلة في تعبيرها الفصيح شتى أنواع المعارف الإسلامية بكفاية واقتدار.
ويبدو لي أن قسما من الكتاب العرب المسلمين مغرمون غراما شديدا بترصيع ما يكتبون بالكلمات الأجنبية الدخيلة، وهؤلاء بدون شك يعانون من أدران الاستعمار الفكري البغيض إذا كانوا يتقنون العربية الفصحى، أما إذا كانوا لا يتقنونها، فلماذا يحملون أنفسهم ما لا تطيق بالكتابة والتأليف، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها.
وقد صدرت المعجمات العسكرية الموحدة وأصبحت متيسرة في المكتبات العامة والخاصة، وهي تغطي المصطلحات العسكرية الأجنبية بمصطلحات عسكرية عربية.
كما صدرت مجموعات المصطلحات الأدبية والعلمية والفنية الأجنبية التي وضعت المجامع اللغوية والعلمية ما يقابلها من مصطلحات عربية.
فبماذا نعلل إصرار قسم من الكتاب العرب على استعمال المصطلحات الأجنبية، بعد صدور المصطلحات العربية الأصلية!!
أيستبدلون الذي هـو أدنى بالذي هـو خير!
(ج) وترد في المعارك التي خاضها القادة العرب المسلمون أسماء مواقع وأماكن ومدن وجبال ووديان وأنهار وبحيرات وبحار وصحارى. [ ص: 78 ]
والبلدانيون العرب والمسلمون القدامى لم يقصروا أبدا في شرح تلك المواقع شرحا مفصلا تارة ومختصرا تارة أخرى.
ومن المفيد أن نشرح تلك المواقع الواردة في معارك القادة بما يكفي لتوضيحها للقراء والدارسين، وبيانها على الخرائط القديمة، إن وجدت، والحديثة مفيد أيضا.
أن العرب والمسلمين، يتمنون على الله أن يكتب تاريخ قادتهم بشكل يدعو إلى الفخر والاعتزاز، ولن يكون ذلك بتغريبهم أو تشريقهم، فما كانوا يتقبلون هـذا التشريق أو التغريب، ويرفضون إلا أن يبقوا كما كانوا عربا مسلمين. وعلى الذين يريدون كتابة تاريخهم أن يضعوا هـذا الهدف الحيوي نصب أعينهم، وليس تحقيقه عليهم بعزيز. [ ص: 79 ]