الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              ذكر إرساله - صلى الله عليه وسلم - خراش بن أمية وبعده عثمان بن عفان إلى قريش

                                                                                                                                                                                                                              قال محمد بن إسحاق ومحمد بن عمر وغيرهما : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قريش خراش بن أمية على جمل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال له الثعلب ، ليبلغ عنه أشرافهم بما جاء له ، فعقر عكرمة بن أبي جهل - وأسلم بعد ذلك - الجمل ، وأرادوا قتله فمنعه الأحابيش ، فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكد فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما لقي .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البيهقي عن عروة قال : لما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديبية فزعت قريش لنزوله إليهم ، فأحب أن يبعث إليهم رجلا من أصحابه ، فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى قريش ، فقال : يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي وقد عرفت قريش عداوتي لها ، وليس بها من بني عدي من يمنعني ، وإن أحببت يا رسول الله دخلت عليهم . فلم يقل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا ، فقال عمر : يا رسول الله ولكني أدلك على رجل أعز بمكة مني ، وأكثر عشيرة وأمنع ، وأنه يبلغ لك ما أردت ، عثمان بن عفان .

                                                                                                                                                                                                                              فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان فقال : «اذهب إلى قريش وأخبرهم أنا لم نأت لقتال وإنما جئنا عمارا ، وادعهم إلى الإسلام» .

                                                                                                                                                                                                                              وأمره أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح ، ويخبرهم أن الله تعالى - وشيكا أن يظهر دينه بمكة حتى لا يستخفى فيها بالإيمان . فانطلق عثمان إلى قريش فمر عليهم ببلدح فقالوا : أين تريد ؟ فقال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليكم لأدعوكم إلى الإسلام ، وإلى الله جل ثناؤه ، وتدخلون في الدين كافة ، فإن الله - تعالى - مظهر دينه ومعز نبيه ، وأخرى : تكفون ويكون الذي يلي هذا الأمر منه غيركم ، فإن ظفر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذلك ما أردتم ، وإن ظفر كنتم بالخيار بين أن تدخلوا فيما دخل فيه الناس ، أو تقاتلوا وأنتم وافرون جامون . إن الحرب قد نهكتكم وأذهبت الأماثل منكم . وأخرى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبركم إنه لم يأت لقتال أحد ، إنما جاء معتمرا ، معه الهدي ، عليه القلائد ينحره وينصرف .

                                                                                                                                                                                                                              فقالوا : قد سمعنا ما تقول ، ولا كان هذا أبدا ، ولا دخلها علينا عنوة ، فارجع إلى صاحبك فأخبره أنه لا يصل إلينا . [ ص: 47 ]

                                                                                                                                                                                                                              ولقيه أبان بن سعيد - وأسلم بعد ذلك ، فرحب به أبان وأجاره ، وقال : لا تقصر عن حاجتك ، ثم نزل عن فرس كان عليه فحمل عثمان على السرج وردف وراءه وقال :


                                                                                                                                                                                                                              أقبل وأدبر لا تخف أحدا بنو سعيد أعزة الحرم

                                                                                                                                                                                                                              فدخل به مكة ، فأتى عثمان أشراف قريش - رجلا رجلا - فجعلوا يردون عليه : إن محمدا لا يدخلها علينا أبدا ، ودخل على قوم مؤمنين من رجال ونساء مستضعفين بمكة فقال :

                                                                                                                                                                                                                              إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : قد أظلكم حتى لا يستخفى بمكة اليوم بالإيمان ،

                                                                                                                                                                                                                              ففرحوا بذلك ، وقالوا : اقرأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السلام .

                                                                                                                                                                                                                              ولما فرغ عثمان من رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قريش قالوا له : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف ، فقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقام عثمان بمكة ثلاثا يدعو قريشا .

                                                                                                                                                                                                                              وقال المسلمون - وهم بالحديبية ، قبل أن يرجع عثمان - : خلص عثمان من بيننا إلى البيت فطاف به ،

                                                                                                                                                                                                                              فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون» ،

                                                                                                                                                                                                                              وقالوا :

                                                                                                                                                                                                                              وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص إليه قال : «ذلك ظني به ألا يطوف بالكعبة حتى نطوف» ، وعند ابن جرير وابن أبي حاتم عن سلمة بن الأكوع - مرفوعا - «لو مكث كذا كذا سنة ما طاف حتى أطوف» فلما رجع عثمان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال المسلمون له : اشتفيت من البيت يا أبا عبد الله!! فقال عثمان : بئس ما ظننتم بي! فو الذي نفسي بيده لو مكثت مقيما بها سنة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقيم بالحديبية ما طفت حتى يطوف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولقد دعتني قريش إلى أن أطوف بالبيت فأبيت . فقالوا : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمنا وأحسننا ظنا .

                                                                                                                                                                                                                              وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر أصحابه بالحراسة بالليل ، فكانوا ثلاثة يتناوبون الحراسة :

                                                                                                                                                                                                                              أوس بن خولي - بفتح الخاء المعجمة والواو - وعباد بن بشر ، ومحمد بن مسلمة - رضي الله عنهم - وكان محمد بن مسلمة على حرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة من الليالي ، وعثمان بن عفان بمكة . وقد كانت قريش بعثت ليلا خمسين رجلا ، عليهم مكرز بن حفص ، وأمروهم أن يطوفوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - رجاء أن يصيبوا منهم أحدا ، أو يصيبوا منهم غرة ، فأخذهم محمد بن [ ص: 48 ] مسلمة ، فجاء بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفلت مكرز فخبر أصحابه وظهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم أنه رجل غادر ، وكان رجال من المسلمين قد دخلوا مكة بإذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم : كرز بن جابر الفهري ، وعبد الله بن سهيل بن عمرو بن عبد شمس ، وعبد الله بن حذافة السهمي ، وأبو الروم بن عمير العبدري ، وعياش بن أبي ربيعة ، وهشام بن العاص بن وائل ، وأبو حاطب بن عمرو من عبد شمس وعمير بن وهب الجمحي وحاطب بن أبي بلتعة ، وعبد الله بن أبي أمية . قد دخلوا مكة في أمان عثمان ، وقيل : سرا ، فعلم بهم فأخذوا ، وبلغ قريشا حبس أصحابهم الذين مسكهم محمد بن مسلمة ، فجاء جمع من قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حتى تراموا بالنبل والحجارة ، وأسر المسلمون من المشركين - أيضا - اثني عشر فارسا ، وقتل من المسلمين ابن زنيم - وقد أطلع الثنية من الحديبية - فرماه المشركون فقتلوه ، وبعثت قريش سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى - وأسلما بعد ذلك ، ومكرز بن حفص ،

                                                                                                                                                                                                                              فلما جاء سهيل ورآه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه : سهل أمركم

                                                                                                                                                                                                                              فقال سهيل : يا محمد إن الذي كان من حبس أصحابك وما كان من قتال من قاتلك لم يكن من رأي ذوي رأينا بل كنا له كارهين حين بلغنا ، ولم نعلم به ، وكان من سفهائنا ، فابعث إلينا بأصحابنا الذين أسرت أول مرة ، والذين أسرت آخر مرة .

                                                                                                                                                                                                                              فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إني غير مرسلهم حتى ترسلوا أصحابي» ،

                                                                                                                                                                                                                              فقالوا : أنصفتنا ، فبعث سهيل ومن معه إلى قريش بالشييم - بشين معجمة مصغر - بن عبد مناف التيمي ، فبعثوا بمن كان عندهم : وهم عثمان والعشرة السابق ذكرهم - رضي الله عنهم - وأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابهم الذين أسرهم ، وقبل وصول عثمان ومن معه بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن عثمان ومن معه قد قتلوا ، فكان ذلك حين دعا إلى البيعة .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية