الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما قوله : " وأتموا الحج والعمرة لله " فإن المتمتع متم للحج والعمرة سواء كان قد أهل أولا بالحج أو بالعمرة ؛ وذلك لأنه إذا أهل بالحج أولا ، فإنما يفسخه إلى عمرة متمتع بها إلى الحج ، وإنما يجوز له فسخه إذا قصد التمتع ، فيكون قد قصد الحج وحده ، فيكون مدخلا للعمرة في حجه ، وفاعلا للعمرة والحج ، وهذا أكثر مما كان دخل فيه ، ولو أراد أن يخرج من الحج بعمرة غير متمتع بها لم يجز ذلك .

وأما حديث الحارث بن بلال عن إسماعيل : قال [ ص: 516 ] عبد الله : قيل لأبي : حديث بلال بن الحارث ؟ قال : لا أقول به ولا نعرف هذا الرجل ، ولم يروه إلا الدراوردي ، وقال أيضا : حديث بلال عندي ليس يثبت ؛ لأن الأحاديث التي تروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " اجعلوا حجكم عمرة ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي " فحل الناس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقال - أيضا - : هذا حديث ليس إسناده بالمعروف ، وإنما يروى عن أبي ذر إنما كانت المتعة لنا خاصة - يعني متعة الحج .

وقال - أيضا - في رواية الفضل وابن هانئ : من الحارث بن بلال ومن روى عنه أبوه من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو فلا .

[ ص: 517 ] وقال - في رواية الميموني - : أرأيت لو عرف الحارث بن بلال إلا أن أحد عشر رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أين يقع بلال بن الحارث منهم ؟ !

وفي رواية أبي داود : ليس يصح حديث في أن الفسخ كان لهم خاصة ، وهذا أبو موسى الأشعري يفتي به في خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر ، فقد ضعف أحمد هذا الحديث ؛ لجهل الراوي ، وأنه لا يعرف الحارث بن بلال ، لا سيما وقد انفرد به الدراوردي عن ربيعة ، ولم يروه عنه مثل مالك ونحوه .

وتخصيصهم بهذا الحديث ترك للعمل بتلك الأحاديث المستفيضة ، وهو مثل النسخ لها . ومثل هذا الإسناد لا يبطل حكم الأحاديث .

[ ص: 518 ] ثم بين أحمد : أنه يخالف تلك الأحاديث ويعارضها ، وهو حديث شاذ ؛ لأن الحديث الشاذ هو الذي يتضمن خلاف ما تضمنته الأحاديث المشهورة .

فلو كان راويه معروفا لوجب تقديمها عليه ؛ لأن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اجعلوا حجكم عمرة ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي " فعم ولم يذكر أن هذا مختص بهم ، ولو كان ذلك مخصوصا بهم لوجب بيانه ولم يؤخر ذلك حتى سأله بلال بن الحارث . وقد بين لهم في الحديث الصحيح أن هذا ليس لهم خاصة ، وإنما هو للناس عامة على ما ذكرناه ، فدلالة تلك الأحاديث على عموم حكم الفسخ دليل على ضعف هذا الحديث لو كان راويه معروفا بالعدل ، ودليل على أن هذا الحديث ليس بمضبوط ولا محفوظ . ولو كان هذا [ ص: 519 ] صحيحا لكان له من الظهور والشياع ما لا خفاء به ، ولكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بينه بيانا عاما ، وذلك لأن ما ثبت في حق بعض الأمة من الأحكام ثبت في حق الجميع ، لا سيما في مثل ذلك المشهد العظيم الذي يقول فيه : " لتأخذوا عني مناسككم " فلو كانوا مخصوصين بذلك الحكم لوجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبين ذلك ابتداء ، كما بين حكم الأضحية لما سأله أبو بردة بن نيار عن الأضحية بالجذع ، فقال : " يجزئ عنك ولا يجزئ عن أحد بعدك " فلو كان الفسخ خاصا لهم لقال : " إذا طفتم بالبيت وبين الصفا والمروة فحلوا ، وليس ذلك لغيركم " ولم يؤخر بيان ذلك إلى أن يسأله بلال بن الحارث ؛ فإنه بتقدير أن لا يسأله بلال كان التلبيس واقعا . وهذا بخلاف قوله لسراقة لما سأله : " أعمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد ؟ فقال : بل لأبد الأبد " . فإن هذا الحكم كان معلوما بنفس فعله ، وإنما أجاب السائل توكيدا ، ولما كانت هذه الأحاديث مقتضية لعموم الحكم وثبوته في حق الأمة عارض أحمد بينها وبين حديث بلال بن الحارث ، وحكم بشذوذه لما انفرد بما يخالف الأحاديث المشاهير ، والذي يبين ذلك أن الصحابة الذين حدثوا بتلك إنما ذكروها لتعليم السنة ، وبيانها ، واتباعها ، والأخذ بها ، لم يكن قصدهم مجرد القصص . ولو كان الحكم مخصوصا بهم لم يجز أن يرووها رواية مرسلة حتى يبينوا اختصاصهم بها ، فكيف إذا ذكروها لتعليم السنة ؟ ! وهذا دليل على أنهم علموا أن هذه السنة ماضية فيهم وفيمن بعدهم ، فلا يرد هذا بحديث من لم يخبر قوة ضبطه وتيقظه ، [ ص: 520 ] ويدفع هذه السنن المشهورة المتواترة براوية غير معروف .

وقد تأول بعض أصحابنا ذلك : على أن المراد به هو لنا خاصة من بين من ساق الهدي ؛ لأن من ساق الهدي لم يكن يجوز له الفسخ ، إلا لنفر مخصوص .

وهذا تأويل ساقط ؛ لأن سائق الهدي لم يحل أحد منهم ، ولم يكن يجوز لهم ذلك ، ولكن يشبه - والله أعلم - إن كان لهذا الحديث أصل وهو محفوظ ولم ينقلب على رواية النفي بالإثبات ، فإن غيره ممن هو أحفظ منه بين أنه ليس لنا خاصة ، وهو يقول : " لنا خاصة " فإن كان قد حفظ ذلك فمعناه : أن الفسخ كان واجبا عليهم متحتما لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم به ، وتغيظ عليهم حيث لم يفعلوه وغيرهم من الناس وإن جاز له الفسخ لكنه لا يجب عليه ، ويكون سبب وجوبه عليهم أنه قال أولا : " من شاء منكم جعلها عمرة " وندبهم إلى ذلك فرأى أناسا قد كرهوا ذلك ، وامتعضوا منه ، واستهجنوه ؛ لأنهم لم يكونوا يعهدون الحل قبل عرفة في أشهر الحج ، فعزم عليهم الأمر حسما لمادة الشيطان ، وإزالة لهذه الشبهة ، كما أمرهم أولا بالفطر في السفر أمر رخصة ، [ ص: 521 ] ثم لما دنوا من العدو أمرهم به أمر عزيمة ، وكما أمرهم بالإحلال في عمرة الحديبية أمر عزيمة لما رآهم قد كرهوا الصلح ، ومعلوم أنه لو لم يصالحهم ، ومضى في عمرته لكان جائزا . على أن بلالا لم يبين من يعود الضمير إليه في قوله : لنا، فيجوز أن يعود الضمير إلى ذلك الوفد كما تقدم ، ويجوز أن يكون بلال ممن لم يسق الهدي ، فقال : هو لنا : من لا هدي معه خاصة أم للناس عامة ، فقال : بل لنا خاصة .

وأما قولهم : فهلا وجب الفسخ على كل حاج ، وصار كل من طاف بالبيت حلالا ، سواء قصد التحلل ، أو لم يقصد ، كما يروى عن ابن عباس ، وامتنع الإفراد والقران لكونهما مفسوخين .

قلنا : لأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بعده حجوا مفردين ، [ وقارنين كما تقدم ذكره عن أبي بكر وعمر وعثمان ] وابن الزبير وغيرهم . فعلم أنهم لم يفهموا وجوب التمتع مطلقا .

وأما ما ذكر عن أبي ذر وغيره من الصحابة في أنهم كانوا مخصوصين بالمتعة - فقد عارض ذلك أبو موسى ، وابن عباس ، وبنو هاشم ، وهم أهل [ ص: 522 ] بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعلم الناس بسنته ، وقول المكيين من الفقهاء وهم أعلم أهل الأمصار كانوا - بالمناسك . قال مجاهد : " قدم علينا ابن عمر ، وابن عباس - رضي الله عنهما - متمتعين قال : وقال لي مجاهد : لو خرجت من بلدك الذي تحج منه أربعين عاما ما قدمت إلا متمتعا ، هو أحدث عهد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي فارق الناس عليه ، ولا ينبغي أن يرغب عن ما ثبت عن أهل البيت - رضوان الله عليهم - لاتباع بعض أهل الأهواء لهم في ذلك .

[ ص: 523 ] قال سلمة بن شبيب : قلت لأحمد : قويت قلوب الروافض حين أفتيت أهل خرسان بمتعة الحج ، فقال : يا سلمة كنت توصف بالحمق ، فكنت أدفع عنك ، وأراك كما قالوا .

وقال ابن بطة : سمعت أبا بكر بن أيوب يقول : سمعت إبراهيم الحربي يقول : - وسئل عن فسخ الحج فقال - : " قال سلمة بن شبيب لأحمد : كل شيء منك حسن غير خلة واحدة ، قال : وما هي ؟ قال : تقول بفسخ الحج ، قال أحمد : كنت أرى لك عقلا ، عندي ثمانية عشر حديثا صحاحا أتركها لقولك ؟!

[ ص: 524 ] وقال أبو الحسن اللباني : سمعت إبراهيم الحربي ، وذكر له أحمد - رحمه الله - فقال : ما رأيت أنا أحدا أشد اتباعا للحديث ، والآثار منه ، لم يكن يزاله عقل . ثم قال : جاء سلمة بن شبيب إلى أحمد يوما فقال : يا أبا عبد الله ، تفتي بحج وعمرة ؟ فقال أحمد : ما ظننت أنك أحمق إلى اليوم ، ثمانية عشر حديثا أروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أفتي به ، فلم كتبت الحديث ؟ ! قال : وما رأيت أحمد - رحمه الله - قط إلا وهو يفتي به .

وأما نهي عمر وعثمان ، وغيرهما عن المتعة ، وحمل ذلك على الفسخ أو على كونها مرجوحة : فاعلم أن عمر وعثمان وغيرهما نهوا عن العمرة في أشهر الحج مع الحج مطلقا ، وأن نهيهم له موضع غير الذي ذكرناه .

أما الأول : فهو بين في الأحاديث ، قال عمران بن حصين : " جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين حجة وعمرة ، ثم لم ينه عنها حتى مات ، ولم ينزل قرآن يحرمها ، قال رجل برأيه ما شاء " . رواه مسلم وغيره ، وفي لفظ : " تمتعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورحم الله عمرا ، إنما ذاك رأي " ، وقد تقدم هذا الحديث ، فبين أن المتعة التي نهى عنها عمر ، أن يجمع الرجل بين حجة وعمرة ، سواء جمع بينها بإحرام واحد ، أو أحرم بالعمرة ، وفرغ منها ثم أحرم بالحج ، وكذلك عثمان " لما نهى عن المتعة فأهل علي بهما ، فقال : تسمعني أنهى الناس عن المتعة وأنت تفعلها ؟ فقال : لم أكن لأدع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقول أحد " .

[ ص: 525 ] وفي حديث آخر عنه ، أنه أمر أصحابه أن يهلوا بالعمرة لما بلغه نهي عثمان .

وعن السائب بن يزيد أنه : - " استأذن عثمان بن عفان في العمرة في شوال ، فأبى أن يأذن له " . رواه سعيد .

وعن [ نبيه بن وهب : " أن عثمان سمع رجلا يهل بعمرة وحج فقال : علي بالمهل ، فضربه ، وحلقه ، قال ] نبيه : فما نبت في رأسه شعرة ، وقال نبيه : إن عمر بن الخطاب قال : إن الناس يتمتعون بالعمرة مع الحج ، ثم أمر نوفا فأذن في الناس : إن الصلاة جامعة . فحمد الله عز وجل ، وأثنى عليه ، ثم قال : أقد مللتم الحج دفره ؟ أقد مللتم شعثه ؟ أقد مللتم وسخه ؟ ! والله لئن مللتم ليأتين الله عز وجل بقوم لا يملونه ولا يستعجلونه قبل محله ، والله لو أذنا لكم في هذا لأخذتم بخلاخيلهن في الأراك - يريد أراك عرفة - ثم رجعتم مهلين بالحج .

وأما الثاني : فقد صح عن عمر وعثمان وغيرهما المتعة قولا وفعلا ؛ فهذا عمر يروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم - : أنه فعل المتعة هو وأصحابه ، ويقول للصبي بن معبد - لما أهل جميعا - : هديت سنة نبيك . ويروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 526 ] أنه قال : " أتاني الليلة آت من ربي في هذا الوادي المبارك ، فقال : قل عمرة في حجة " .

وعن طاوس عن ابن عباس قال : " هذا الذي تزعمون أنه نهى عن المتعة - يعني عمر - سمعته يقول : لو اعتمرت ثم حججت لتمتعت " ، وقال له أبي بن كعب ، وأبو موسى الأشعري : " ألا تبين للناس أمر متعتهم هذه ؟ فقال : وهل بقي أحد لا يعلمها ؟ ! " .

وقال ابن عباس : " وما تمت حجة رجل قط إلا بمتعة ، إلا رجل اعتمر في وسط السنة " . وفي رواية عن ابن عباس ، عن عمر قال : " لو حججت مرة واحدة ثم حججت ، لم أحج إلا بمتعة " . رواهما سعيد ، وفي لفظ لأبي [ ص: 527 ] عبيد : " لو اعتمرت ثم حججت لتمتعت " . ورواه أبو حفص عن طاوس أن عمر قال : " لو اعتمرت وسط السنة لتمتعت ، ولو حججت خمسين حجة لتمتعت " ، وروى الأثرم عن عمر نحو الحديث الأول ، فقال عمر : " وهل بقي أحد إلا علمها ؟ أما أنا فأفعلها " .

وعن نافع بن جبير عن أبيه قال : " ما حج عمر قط حتى توفاه الله إلا تمتع فيها " .

[ ص: 528 ] وإنما وجه ما فعلوه أن عمر رأى الناس قد أخذوا بالمتعة ، فلم يكونوا يزورون الكعبة إلا مرة في السنة في أشهر الحج ، ويجعلون تلك السفرة للحج والعمرة ، فكره أن يبقى البيت مهجورا عامة السنة ، وأحب أن يعتمر في سائر شهور السنة ليبقى البيت معمورا مزورا كل وقت بعمرة ينشأ لها سفر مفرد ، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ، حيث اعتمر قبل الحجة ثلاث عمر مفردات .

وعلم أن أتم الحج والعمرة أن ينشأ لهما سفر من الوطن كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم ير لتحصيل هذا الفضل والكمال لرغبته طريقا إلا أن ينهاهم عن الاعتمار مع الحج ، وإن كان جائزا ، فقد ينهى السلطان بعض رعيته عن أشياء من المباحات ، والمستحبات لتحصيل ما هو أفضل منها من غير أن يصير الحلال حراما .

قال يوسف بن ماهك : " إنما نهى عمر - رضي الله عنه - عن متعة الحج من أجل أهل البلد ؛ ليكون موسمين في عام ، فيصيب أهل مكة من منفعتهما " .

وقال عروة بن الزبير : " إنما كره عمر العمرة في أشهر الحج ؛ إرادة ألا يعطل البيت في غير أشهر الحج " . رواهما سعيد .

[ ص: 529 ] وأيضا : فخاف إذا تمتعوا بالعمرة إلى الحج أن يبقوا حلالا حتى يقفوا بعرفة محلين ، ثم يرجعوا محرمين ، كما بين ذلك في حديث أبي موسى وغيره حيث قال : " كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك - يعني أراك عرفة - ثم يروحون في الحج تقطر رءوسهم " .

ونحن نذهب إلى ذلك ؛ فإن الرجل إذا أنشأ للعمرة سفرا من مصره كان أفضل من عمرة التمتع .

[ ص: 530 ] فعن ابن عمر ، أن عمر قال : " افصلوا بين حجكم وعمرتكم ؛ فإنه أتم لحج أحدكم أن يعتمر في غير أشهر الحج ، وأتم لعمرته " رواه مالك .

وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سالم قال : " سئل ابن عمر عن متعة الحج فأمر بها ، فقيل له : إنك تخالف أباك ، فقال : إن أبي لم يقل الذي تقولون : إنما قال : أفردوا العمرة من الحج . أي أن العمرة لا تتم في شهور الحج إلا بهدي ، وأراد أن يزار البيت في غير شهور الحج ، فجعلتموها أنتم حراما ، وعاقبتم الناس عليها ، وقد أحلها الله عز وجل ، وعمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا أكثروا عليه قال : أوكتاب الله أحق أن تتبعوا أم عمر ؟! " .

وعن أبي يعفور قال : " كنت عند ابن عمر ، فجاءه رجل فسأله عن [ ص: 531 ] العمرة في أشهر الحج ، فقال : " هي في غير أشهر الحج أحب إلي " .

وعن محمد بن سيرين قال : " ما أحد من أهل العلم يشك أن عمرة في غير أشهر الحج أفضل من عمرة في أشهر الحج " .

وأما الخلاف فيمن أراد أن يجمع بينهما في سفرة واحدة ، إما لعجزه عن سفرة أخرى ؛ أو لأنه مشغول عن سفرة أخرى بما هو أهم من الحج من جهاد ونحوه ، أو لأنه لا يمكنه قصد مكة إلا في أيام الموسم لعدم القوافل ، أو خوف الطريق ، ونحو ذلك : فإن اعتماره قبل الحج أفضل من أن يعتمر من التنعيم في بقية ذي الحجة ؛ لأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم فعلوا كذلك ، ولم يعتمر أحد منهم بعد الحجة في تلك السفرة إلا عائشة خاصة ، ولم يقم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمسلمين بعد ليلة الحصبة ولا يوما واحدا ، بل قضى حجه ورجع قافلا إلى المدينة ، وكذلك عمر كان . . . وكانوا ينهون عن العمرة بعد الحج في ذلك العام كما ينهون عنها قبله .

[ ص: 532 ] قال أبو بشر : " حججت أنا وصاحب لي ، فلما كان ليلة الصدر ، قال صاحبي : إني لا أقدر على هذا المكان كلما أردت ، أفأعتمر ؟ فلم أدر ما أقول له ، فانطلقنا إلى نافع بن جبير بن مطعم ، فسألناه ، فكأنه هابنا ، ثم إنه اطمأن بعد فقال : أما أمراؤكما فينهون عن ذلك ، وأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أعمر عائشة - رحمها الله - ليلة الصدر من التنعيم ، ثم أمره أن يخرج من الحرم من سنن وجهه الذي بدأ منه ، ثم يحرم " .

ومن فعل ذلك فعله رخصة بعد أن يستفتي ، مع علمهم أنهم لو اعتمروا قبل الحج كان أفضل . عن ابن عباس قال : " والله ما أعمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائشة - رضي الله عنها - في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك ، فإن هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يقولون : إذا عفا الوبر ، وبرأ الدبر ، ودخل صفر ، فقد حلت العمرة لمن اعتمر ، فكانوا يحرمون العمرة حتى ينسلخ ذو الحجة والمحرم " . رواه أبو داود .

عن صدقة بن يسار قال : سمعت ابن عمر يقول : " عمرة في العشر الأول أحب إلي من عمرة في العشرين الأواخر ، قال صدقة : فحدثت نافعا ، فقال : كان عبد الله يقول : لأن أعتمر عمرة يكون علي فيها هدي ، أو صيام أحب إلي من [ ص: 533 ] أن أعتمر عمرة ليس علي فيها هدي ولا صيام " . رواه سعيد ، ورواه مالك عنه ، قال : " والله لأن أعتمر قبل الحج وأهدي أحب إلي من أن أعتمر بعد الحج في ذي الحجة " .

وروى أبو عبيد ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : " لأن أعتمر في شوال ، أو في ذي القعدة ، أو في ذي الحجة ، في شهر يجب علي فيه الهدي [ أحب إلي من أن أعتمر في شهر لا يجب علي فيه الهدي ] " .

على أن هذا الرأي الذي قد رآه عمر وعثمان ومن بعدهما قد خالفهم فيه خلق كثير من الصحابة وأنكروا عليهم ؛ مثل علي بن أبي طالب ، وعمران بن حصين ، وابن عباس ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبي موسى الأشعري ، وأبي بن كعب .

فأما أن يكونوا خافوا من النهي ؛ أن يعتقد الناس ذلك مكروها ، فخالفوهم في ذلك ، أو رأوا أن ترك الناس آخذين برخصة الله أفضل وأولى .

وقد تقدم بعض ما روي في ذلك عن علي وسعد وعمران وابن عباس .

[ ص: 534 ] وعن الحسن أن عمر بن الخطاب : " أراد أن ينهى عن المتعة ، فقال له أبي بن كعب : ليس ذلك لك قد تمتعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم ينهنا عن ذلك ، قال : فأضرب عمر عن ذلك " .

وعن عمرو قال : " سمعت ابن عباس وأنا قائم على رأسه ، وسألوه عن المتعة متعة الحج ، فقيل له : إن معاوية ينهى عنها ، فقال : انظروا في كتاب الله ، فإن وجدتموها فيه فقد كذب على الله وعلى رسوله ، وإن لم تجدوها فقد صدق " .

وعن سعيد بن جبير قال : " سمعت ابن الزبير يعرض بابن عباس فقال : " إن هاهنا قوما أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم ، يفتون في المتعة أنه لا بأس بها ، فقال ابن عباس : أما لي فليسأل أمه ، فسألها ، فقالت : صدق ابن عباس قد كان ذلك ، فقال ابن عباس : لو شئت أن أسمي ناسا من قريش ولدوا منها لفعلت " رواهن سعيد .

وعن ابن عباس قال : " تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال عروة بن الزبير : نهى أبو بكر ، وعمر عن المتعة ، فقال ابن عباس : أراهم سيهلكون ، أقول : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقولون : نهى أبو بكر وعمر " . رواه أبو حفص .

التالي السابق


الخدمات العلمية