الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 276 ] الفصل الثاني

أن حج الصبي صحيح ، سواء كان مميزا أو طفلا بحيث ينعقد إحرامه ، ويلزمه ما يلزم البالغ من فعل واجبات الحج ، وترك محظوراته ؛ لما روى ابن عباس رضي الله عنهما " أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركبا بالروحاء ، فقال : من القوم ؟ قالوا : المسلمون ، فقالوا : من أنت ؟ قال : رسول الله ، فرفعت إليه امرأة صبيا ، فقالت : ألهذا حج ؟ قال : نعم ، ولك أجر " رواه الجماعة إلا البخاري ، والترمذي .

وعن السائب بن يزيد قال : " حج بي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، وأنا ابن سبع سنين " رواه أحمد ، والبخاري .

[ ص: 277 ] وعن جابر قال : رفعت امرأة صبيا لها إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حجته فقالت : " يا رسول الله ألهذا حج ؟ قال : نعم ، ولك أجره " رواه ابن ماجه ، والترمذي ، وقال : غريب ، وعنه قال : " حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، معنا النساء والصبيان ، فلبينا عن الصبيان ، ورمينا عنهم " رواه أحمد ، وابن ماجه ، ورواه الترمذي ، ولفظه " أحرمنا عن الصبيان ، وأحرمت النساء عن نفسها " ، وفي لفظ له : " كنا نلبي عن النساء ، ونرمي عن الصبيان " وقال : غريب ، وقد [ ص: 278 ] تقدم في الحديث المرسل ، وقول ابن عباس : " أيما صبي حج به أهله فمات أجزأت عنه ، وإن أدرك فعليه حجة أخرى " فإن حج قبل بلوغ الاحتلام بعد بلوغ السن . . .

فإن كان الصبي مميزا أحرم بنفسه بإذن الولي ، وفعل أفعال الحج ، واجتنب [ ص: 279 ] محظوراته ، فإن أحرم عنه الولي أو فعل عنه شيئا مثل الرمي وغيره لم يصح ؛ لأن هذا دخول في العبادة فلم يصح من المميز دون قصده كالصوم ، والصلاة .

فإن أحرم بدون إذن الولي ، ففيه وجهان :

أحدهما : لا يصح ، قاله أبو الخطاب وجماعة معه ، قال متأخرو أصحابنا : وهو أصح ؛ لأنه عقد يجب عليه به حق فلم يملك فعله بدون إذن الولي كالنكاح ، فعلى هذا قال القاضي في موضع : إحرامه بدون إذن الولي كإحرام العبد ، فعلى هذا هل يملك الولي تحليله ؟ على وجهين .

والثاني : يصح لأنها عبادة فجاز أن يفعلها بدون إذن الولي كالصوم ، والصلاة .

وإن كان غير مميز عقد الإحرام له وليه ، سواء كان حراما أو حلالا كما يعقد له النكاح وغيره من العقود ، ويلبي عنه فيقول : لبيك عن فلان ، وإن لم يسمه جاز ، ويطوف به ويسعى ويحضره المواقف ويرمي عنه ، ويجنبه كل ما يجتنبه الحرام ، وإذا لم يمكنه الرمي استحب أن يوضع الحصى في يده ، ثم يؤخذ فيرمى عنه ، وإن وضعه في يده ، ورمى بها ، وجعلها كالآلة جاز ، قال أصحابنا : ولا [ ص: 280 ] يرمي عنه حتى يرمي عن نفسه ، فإن كان رمى عن الصبي وقع عن نفسه ، وهذا بناء على أن من حج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه وقع عن نفسه ، فإن قلنا يقع عن الغير أو يقع باطلا فكذلك .

ونفقة السفر التي تزيد على نفقة الحضر تجب في مال الولي في إحدى الروايتين ، ومنهم من يحكيها على وجهين ، اختارها القاضي في المجرد ، وأبو الخطاب ، وغيرهما إلا أن لا يجد من يضعه عنده لأنها نفقة ، وهو مستغن عنها فلم تجب في ماله كالزيادة على نفقة مثله في الحضر .

وفي الأخرى : هي في مال الصبي ، وهذا اختيار القاضي في خلافه ، وقال : هو قياس قول أحمد ؛ لأنه قال : يضحي الوصي عن اليتيم من ماله ؛ لأن هذا مما له فيه منفعة ؛ لأنه يعرف أفعال الحج ، ويألفها فهو كالنفقة على تعليم الخط ، وكفارات الحج التي تلزمه بترك واجب أو فعل محظور كالنفقة ، فما كان من الكفارات لا يجب إلا على العامد كاللباس والطيب في المشهور لم يجب على الصبي ؛ لأن عمده خطأ ، قاله أصحابنا ، ويتخرج إذا أوجبنا الدية في ماله دون عاقلته .

[ ص: 281 ] وما يجب على العامد والمخطئ مثل : قتل الصيد ، وحلق الشعر ، وتقليم الظفر في المشهور ، فقال : . . . هي كالنفقة هل تجب في مال الصبي أو وليه على روايتين ، والمنصوص عنه . . .

والولي هنا : هو الذي يملك التصرف في ماله من الأب ، والحاكم ، والوصي . قاله القاضي . فأما من لا ولاية له على المال كالأم ونحوها ، فقال : ظاهر كلام أحمد أنه لا يصح إحرامه ؛ لأن الإحرام متعلق به إلزام مال .

والمنصوص عن أحمد : أنه يحرم عنه أبواه أو وليه ، فعلى هذا تحرم عنه الأم أيضا ، وهذا اختيار ابن عقيل وغيره من أصحابنا لقول النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة التي سألته : " نعم ، ولك أجر " ولا يكون لها أجر حتى تكون هي التي تحج به ، وهذا بناء على أن النفقة تلزم الولي والمحرم به ، فلا ضرر في ماله .

[ ص: 282 ] ولأن الأم قد نقل عنه أنها تقبض للابن ، وخرج بعض أصحابنا سائر الأقارب على الأم ، وأما الأجانب فلا يصح إحرامهم عنه وجها واحدا ، وقياس المذهب في هذا أنا إن قلنا إن النفقة في ماله ، فإنما يحرم به من يتصرف في ماله ، وهم هؤلاء الثلاثة أو غيرهم عند الضرورة ، فإن أحمد قد نص على أنه يجوز أن يقبض الزكاة أكبر الإخوة لإخوته ، ويقبضها لليتيم من يعوله .

وإن قلنا : ليست في ماله فمن كان في حضانته الصبي فإنه يعقد له الإحرام ؛ لأن الولاية هنا تبقى على البدن لا على المال حتى لو كان في حضانة أمه حتى يحرم به اللقيط ، والكافل لليتيم ، ونحو هؤلاء . . . فأراد أبوه أن [ ص: 283 ] يحرم به . . . وسواء في ذلك المميز والطفل . . .

وإذا وطئ في الحج أو وطئ فسد حجه ؛ لأن أكثر ما فيه أن عمده خطأ ، ووطء الناسي يفسد الحج ، وعليه المضي في فاسده ، وفي وجوب القضاء وجهان : أحدهما : لا يجب عليه ؛ لأن بدنه ليس من أهل الوجوب لكن تجب الفدية في ماله عند القاضي ، وعند أبي الخطاب على وليه ، والثاني : يجب القضاء ، قال القاضي : وهو أشبه بقول أحمد ؛ لأنه أوجب القضاء على العبد إذا أفسد الحج ؛ لأن الوجوب هنا بسبب من جهته وجهة وليه ، فلم يمتنع كوجوب الإتمام بخلاف إيجاب الشرع ابتداء ، فعلى هذا هل يلزمه القضاء في حال صغره أو بعد بلوغه ؟ على وجهين : قال القاضي : أصحهما : في حال صغره ؛ لأن القضا على الفور .

والثاني : بعد البلوغ ؛ لأن الصغير ليس من أهل الوجوب المبتدأ في الحال ، فعلى هذا إن قضاه في الصغر فهل يصح ؟

فيه وجهان ، فإن أخر القضاء إلى ما بعد البلوغ بدأ بحجة الإسلام .

[ ص: 284 ] وإن أحرم بالقضاء أولا انصرف إلى حجة الإسلام على المشهور في المذهب ، ثم إن كانت الحجة المقضية تجزئه عن حجة الإسلام لو تمت صحيحة بأن يكون قد أدرك فيها قبل الوقوف كان قضاؤها مجزئا عن حجة الإسلام ، وإن لم تكن مجزئة عن حجة الإسلام لم يجزئ قضاؤها عن حجة الإسلام فيما ذكره أصحابنا كالقاضي ، وأصحابه ، ومن بعده ، والقياس أن تكون كالمنذورة .

التالي السابق


الخدمات العلمية