الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 198 ] ( فصل )

ومتى ملك الزاد والراحلة وجب عليه أن يحج على الفور ، فإن أخره بعد ذلك عصى بذلك ، هذا هو المشهور في المذهب الذي عليه جمهور أصحابنا ؛ مثل أبي بكر ، وابن حامد ، وغيرهم ، وقد نص أحمد - في رواية عبد الله وابن إبراهيم فيمن استطاع الحج وكان موسرا ، ولم يحبسه علة ولا سبب - لم تجز شهادته .

وقال : إنه لا تقبل شهادة من كان موسرا قد وجب عليه الحج ولم يحج ، إلا أن يكون به زمانة أو أمر يحبسه .

ولم يفرق بين أن يكون عازما على فعله ، أو غير عازم ولم يأمر الحاكم بالاستفصال .

وقال ابن أبي موسى : اختلف أصحابنا في الحج هل هو على الفور ، أو [ ص: 199 ] على التراخي على وجهين : أصحهما أنه على الفور على من وجد السبيل إليه ، وهو بين في كلام أحمد - رضي الله عنه - .

ولأن أحمد أوجب أن نخرج عن الميت من حيث يجب عليه وإن مات أبعد منه أو أقرب ولو كان الوجوب في غير وطنه .

وذكر القاضي أبو الحسين في المسألة روايتين : إحداهما : أنه على التراخي ، ذكرها ابن حامد ، وكذلك ذكر ابن أخيه ؛ لأنه قال : وإذا وجد الزاد والراحلة وجب الحج عليه .

وقال : ولا تقبل شهادة من كان موسرا قد وجب الحج عليه ، ولم يحج إلا أن يكون به زمانة ، أو أمر يحبسه ، وهو قياس على سائر العبادات المؤقتة .

وذكر القاضي أبو يعلى الصغير في المسألة روايتين : إحداهما أن وجوبه على التراخي ، واختار ذلك لأن فريضة الحج نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في [ ص: 200 ] سنة خمس أو ست ؛ لأن ذكر الحج في حديث ضمام بن ثعلبة ، وقد وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة خمس ؛ ولأن الله - تعالى - قال : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) فأمر بإتمامهما ، وذلك يقتضي وجوب فعلهما تامين ووجوب إتمامهما بعد الشروع فيهما ، كما أن قوله - تعالى - : ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) يقتضي ذلك ؛ لأن حقيقة الإتمام فعل الشيء تاما ، وذلك أعم من أن يبدأ ، ثم يتم ، أو أن يعمل بعد الابتداء ، ولو لم يكن الأمر بإتمامهما إلا للداخل فيهما : فإنما يجب الإتمام لما كان واجبا بأصل الشرع .

أما أن يكون إتمام العبادة واجبا أو جنسها ليس واجبا بالشرع - بل العبادات اللواتي يجب جنسهن في الشرع لا يجب إتمامهن - فهذا بعيد .

وهذه الآية نزلت عام الحديبية سنة ست من الهجرة بإجماع أهل التفسير .

وأيضا فإن الله فرض الحج على لسان إبراهيم - عليه السلام - بقوله تعالى : ( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر ) وشرع من قبلنا شرع لنا لا سيما شرع إبراهيم .

[ ص: 201 ] فإنا مأمورون باتباع ملته بقوله تعالى : ( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ) ، وبقوله : ( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ) إلى قوله : ( لمن الصالحين ) وقوله : ( وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا ) ، [ وقد فسر جماعة من السلف الحنيف : بالحاج ، وقوله : ( قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا ) ] وبقوله : ( إني جاعلك للناس إماما ) وبقوله تعالى : ( إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ) وبقوله تعالى : ( هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم ) في آخر سورة الحج والمناسك ، وقوله تعالى : [ ص: 202 ] ( إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي ) خصوصا حرمة الكعبة وحجها ، فإن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يبعث بتغيير ذلك ، وإنما بعث بتقريره وتثبيته وإحياء مشاعر إبراهيم - عليه السلام - وقد اقتص الله علينا أمر الكعبة ، وذكر بنائها وحجها واستقبالها ، وملة إبراهيم في أثناء سورة البقرة ، وذكر أيضا ملة إبراهيم والبيت وأمره ، وثلث ذلك في أثناء سورة آل عمران ، وذكر الحج وأمره ، وسننه وملة إبراهيم والمناسك والحض عليها وتثبيت أمرها في سورة الحج ، وسورة الحج بعضها مكي بلا شك ، وأكثرها أو باقيها مدني متقدم ، فعلم بذلك أن إيجاب الحج وفرضه من الأمور المحكمة من ملة إبراهيم ، فيكون وجوبه من أول الإسلام . وإذا كان وجوبه متقدما وهو - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة في رمضان سنة ثمان ، وأقام الحج للناس تلك السنة عتاب بن أسيد أمير رسول الله - صلى الله عليه وسلم [ ص: 203 ] - ، ثم بعث أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - في سنة تسع فأقام للناس الموسم ، ومعه علي بن أبي طالب بسورة ( براءة )، ورجال من المسلمين ، فلو كان الحج واجبا على الفور لبادر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فعله .

وأيضا فإن الله - تعالى - أوجبه إيجابا مطلقا ، وأمر به ولم يخص به زمانا دون زمان فيجب أن يجوز فعله في جميع العمر .

ومن قال من أصحابنا : قال : إن الأمر المطلق لا يقتضي فعل المأمور به على الفور ، لا سيما والحج هو عبادة العمر : فيجب أن يكون جميع العمر وقتا له ، كما أن الصلاة لما كانت عبادة وقت مخصوص ، وقضاء رمضان لما كان عبادة سنة مخصوصة : كان جميع ذلك الزمن وقتا له .

وأيضا فإنه لو وجب على الفور لكان فعله بعد ذلك الوقت قضاء ، كما لو فعل الصلاة بعد خروج الوقت ، وليس كذلك .

وأيضا فإنه إذا أخره وفعله فقد برئت ذمته ، والأصل براءة الذمة من إثم التأخير فمن ادعاه فعليه الدليل .

[ ص: 204 ] فعلى هذا هل يجب العزم على الفعل لجواز تأخيره ؟ .. . ، وإنما يجوز تأخيره إلى أن تظهر أمارات العجز ، ودلائل الموت بحيث يغلب على ظنه أنه إن لم يحج ذلك العام فاته ، فإن أخره بعد ذلك أثم ومات عاصيا ، وإن مات قبل ذلك فهل يكون آثما ؟ ذكر أبو يعلى فيه وجهين ، واختار أنه لا يكون آثما ، كما لو مات من عليه الصلاة ، وقضاء رمضان في أثناء وقتهما .

والأول : هو المذهب المعروف لمسلكين : عام وخاص .

أما العام : فهو أن الأمر المطلق يقتضي فعل المأمور به على الفور ، بل عند [ ص: 205 ] أكثر أصحابنا ليس في الشريعة إلا واجب مؤقت ، أو واجب على الفور .

أما واجب يجوز تأخيره مطلقا فلا يجوز ؛ لأنه إن جاز التأخير إلى غير غاية موصوفة بحيث لو مات مات غير عاص بطل معنى الوجوب ، وإن جاز إلى أن يغلب على ظنه الفوت إن لم يفعل لم يجز لوجهين : -

أحدهما : أن هذا القدر غير معلوم ولا مظنون فإن الموت إنما يعلم بأسبابه ، وإذا نزلت أسباب الموت من المرض الشديد ونحوه تعذر فعل المأمور به ، وقبل حصول أسبابه فإنه لا يغلب على ظن أحد أنه يموت في هذا العام ولو بلغ تسعين سنة .

الثاني : أنه إن مات قبل هذا الظن غير عاص لزم أن لا يجب الفعل على أكثر الخلق ؛ لأن أكثرهم يموتون قبل هذا الظن ، وإن عصى بذلك فبأي ذنب يعاقب ، وإنما فعل ما جاز له ، وما الفرق بينه وبين من مات في أثناء وقت الصلاة وكيف يجوز أن يقال : إنما جاز له التأخير بشرط سلامة العاقبة : ( وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت ) .

وأما المسلك الخاص فمن وجوه : - [ ص: 206 ] أحدها : ما روى ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( تعجلوا إلى الحج - يعني الفريضة - فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له ) . رواه أحمد . فأمر بالتعجيل ، والأمر يقتضي الإيجاب لا سيما واستحباب التعجيل معلوم الضرورة من نفس الأمر بالحج . فلم يبق لهذا الأمر الثاني فائدة إلا الإيجاب ، وتوكيد مضمون الأمر الأول .

وعن مهران أبي صفوان قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من أراد الحج فليتعجل ) . رواه أبو داود .

[ ص: 207 ] وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن الفضل أو أحدهما عن الآخر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض ، وتضل الراحلة ، وتعرض الحاجة ) . رواه أحمد ، وابن ماجه ، وفيه أبو إسرائيل الملائي .

فأمر بالتعجيل كما أمر به في الحديث الأول ، وأمره بالتعجيل من أراده لا يمنع الوجوب ، فإن إرادة الواجب واجبة ، كما قال تعالى : ( لمن شاء منكم أن يستقيم ) ويجب عليه أن يريده ، ويعزم عليه حين وجوبه عليه ، وإنما ذكره - والله أعلم - وبالإرادة ليبين أنه في الحين الذي يعزم عليه ينبغي أن يفعله لا يؤخره ولا يتأخر فعله عن حين إرادته ، فإن هذه الإرادة هي التي يخرج بها من حيز [ ص: 208 ] الساهي والغافل ، لا إرادة التخيير بين الفعل والترك ؛ لقوله : ( من أراد الجمعة فليغتسل ) .

وأيضا فإن فعل القضاء - من الحج - يجب على الفور فإنه لو أفسد الحج ، أو فاته لزمه الحج من قابل بدليل قوله عليه السلام : ( من كسر أو عرج فقد حل ، وعليه الحج من قابل ) وهذا لا خلاف فيه ، فإذا كان القضاء يجب على الفور : فأن تجب حجة الإسلام الأداء بطريق الأولى والأحرى .

وأيضا فإن تأخيره إلى العام الثاني تفويت له ؛ لأن الحج ليس كغيره من العبادات يفعل في كل وقت ، وإنما يختص بيوم من السنة ، فإذا أخره عن ذلك اليوم جاز أن يدرك العام الثاني ، وجاز أن لا يدركه ، وأن يموت أو يفتقر ، أو يمرض ، أو يعجز ، أو يحبس ، أو يقطع عليه الطريق إلى غير ذلك من العوائق والموانع : فلا يجوز التأخير إليه ، وإلى هذا أشار بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فإنه قد يمرض المريض ، وتضل الضالة وتعرض الحاجة ) وقوله : في حديث آخر : ( ينتظر [ ص: 209 ] أحدكم إلا غنى مطغيا ، أو فقرا منسيا ) .

وأيضا : فإن من مات قبل الحج فقد لحقه الوعيد ، وهو ما روى هلال بن عبد الله مولى ربيعة بن عمرو ، ثنا أبو إسحاق الهمداني ، عن الحارث ، عن علي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا ، أو نصرانيا ) . [ ص: 210 ] رواه الترمذي ، ورواه ابن بطة ، وزاد فيه : ( ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) . وقال : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وفي إسناده مقال ، وهلال مجهول ، والحارث مضعف ، عضده ما روى شريك عن ليث عن عبد الرحمن بن سابط ، عن أبي أمامة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من [ ص: 211 ] لم يحبسه مرض ، أو حاجة ظاهرة ، أو سلطان جائر ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا ، وإن شاء نصرانيا ) . رواه ابن المقرئ أبو عروبة ، ورواه أحمد ، ثنا [ ص: 212 ] وكيع عن سفيان عن ليث عن ابن سابط قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من مات ولم يحج ، ولم يمنعه من ذلك مرض حابس ، أو سلطان ظالم ، أو حاجة ظاهرة فليمت على أي حال شاء إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا ) . ورواه سعيد هكذا مرسلا عن أبي الأحوص ، عن ليث .

وعن عمر - رضي الله عنه - قال : ( من كان ذا ميسرة ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا ) .

وعن الضحاك بن عرزم قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : [ ص: 213 ] ( من مات وهو موسر لم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا ) .

وعن عدي بن عدي قال : قال عمر بن الخطاب - رحمة الله عليه - : ( من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا ، وإن شاء نصرانيا ، ولولا ما أرى من سرعة الناس في الحج لجبرتهم عليه ، ولكن إذا وضعتم الرحال فشدوا السروج ، وإذا وضعتم السروج فشدوا الرحال ) .

وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : ( من وجد إلى الحج سبيلا سنة [ ص: 214 ] ثم سنة ثم سنة ، ثم مات ولم يحج لم يصل عليه ، لا ندري مات يهوديا ، أو نصرانيا ) .

وعن إبراهيم قال : ( كان للأسود بن يزيد جار موسر لم يحج ، فقال له : لو مت لم أصل عليك ) . رواهن سعيد .

والمرسل إذا اعتضد بقول الصحابي صار حجة بالاتفاق .

وهذا التغليظ يعم من مات قبل أن يغلب على ظنه الفوات ، وهم أكثر الناس ، ومن غلب على ظنه ففي تأخيره تعرض لمثل هذا الوعيد ، وهذا لا يجوز ، وإنما [ ص: 215 ] لحقه هذا ؛ لأن سائر أهل الملل من اليهود والنصارى لا يحجون ، وإن كانوا قد يصلون ، وإنما يحج المسلمون خاصة .

وأيضا فإنه إجماع السلف . رواه أحمد ، وسعيد عن هشيم ، ثنا منصور عن الحسن ، قال : قال عمر بن الخطاب : ( لقد هممت أن أبعث رجلا إلى هذه الأمصار فينظروا كل رجل ذا جدة لم يحج فيضربوا عليهم الجزية ؛ ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين ) ، وهذا قاله عمر ولم يخالفه مخالف من الصحابة ، وإنما عزم على ذلك - وإن كان تارك الحج إذا كان مسلما لا يضرب عليه الجزية - ؛ لأنه كان في أول الإسلام الغالب على أهل الأمصار الكفر إلا من أسلم فمن لم يحج أبقاه على الكفر الأصلي ، فضرب عليه الجزية . ولولا [ ص: 216 ] أن وجوبه على الفور لم يجعل تركه شعارا للكفر .

وقد روي عن الحسن بن محمد قال : ( أبصر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قوما بعرفه من أهل البحرين عليهم القمص والعمائم ، فأمر أن تعاد عليهم الجزية ) . رواه سعيد .

وعن أبي هارون العبدي قال : قال عمر : ( حجوا العام فإن تستطيعوا فقابل مرتين ، أو ثلاثا فمن لم يستطع فقابل ، فمن لم يفعل فآذنوني أضرب عليهم الجزية ) . رواه سفيان بن عيينة عنه . وهذا صريح بأنه على الفور وقد خاطب به عمر الناس ، ولم يخالفه مخالف .

وأيضا فإن الحج تمام الإسلام ؛ لأن الإسلام بني على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا ؛ ولهذا لما حج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنزل الله قوله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) ... .

وكانت شرائع الإسلام تنزل شيئا فشيئا فصار الحج كمال الدين وتمام [ ص: 217 ] النعمة فإذا لم يحج الرجل لم يكن إسلامه ودينه كاملا بل يكون ناقصا ، ولا يجوز للمسلم أن يترك دينه ناقصا ، كما لا يجوز أن يخل بالصلاة والصوم والزكاة بعد وجوبها .

وأما ما ذكروه من أن الحج فرض متقدما ، وأخره النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فعنه أجوبة : -

أحدها : أنه لا يجوز لمسلم أن يعتقد أن الله أوجب الحج ، وكتبه ومكث النبي - صلى الله عليه وسلم - وعامة أصحابه مؤخرين له من غير عائق أصلا خمس سنين ، ولا سنة واحدة ، فإن القوم - رضوان الله عليهم - كانوا مسارعين في الخيرات وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، يبادرون إلى فعل الصلاة في أول الوقت طلب الفضل والثواب لعلمهم بما في المسابقة من الأجر ، فكيف يؤخرون الحج بعد وجوبه من غير عذر أصلا .

وتأخيره إن لم يكن محرما فإنه مكروه ، أو هو خلاف الأحسن والأفضل ، وتأخر عن مقامات السبق ودرجات المقربين فكيف تطبق الأمة مع نبيها على ترك الأحسن والأفضل لغير عذر أصلا .

وأيضا فقد مات منهم في تلك السنوات خلق كثير لم يحجوا ، أفترى أولئك لقوا الله عاصين بترك أحد مباني الإسلام ولم ينبههم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ولا قال لهم : احذروا تفويته ، مع أنه من لم يحج خير بين أن يموت يهوديا ، أو نصرانيا ؟ وقد علم بغير ريب أن قبل الفتح لم يحج مسلم ، وبعد الفتح إنما [ ص: 218 ] حج عتاب بن أسيد على عادة الكفار وهديهم ، وإنما حج بعض أهل مكة ، ثم في السنة الثانية أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفي المشركين عن البيت وبأن لا يطوف بالبيت عار ، وإنما حج من المسلمين نفر قليل .

ثم إن حج البيت من فروض الكفايات ، وقد قال ابن عباس : ( لو أن الناس تركوا الحج عاما واحدا لا يحج أحد ما نظروه بعده ) . رواه سعيد . فكيف يتركون المسلمون الحج بعد وجوبه سنة في سنة فإن حج الكفار غير مسقط لهذا الإيجاب .

وأما قولهم : إنه فرض سنة خمس أو ست : فقد اختلف الناس في ذلك اختلافا مشهورا ، فقيل : سنة خمس ، وقيل : سنة ست ، وقيل : سنة سبع ، وقيل : سنة تسع ، وقيل : سنة عشر ، فالله أعلم متى فرض غير أنه يجب أن يعلم إما أنه فرض متأخر ، أو فرض متقدم ، وكان هناك مانع عام يمنع من فعله ، وإلا لما أطبق المسلمون على تركه وتأخيره .

الجواب الثاني : أن الأشبه - والله أعلم - أنه إنما فرض متأخر يدل على ذلك وجوه : - [ ص: 219 ] أحدها : أن آية وجوب الحج التي أجمع المسلمون على دلالتها على وجوبه قوله : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) وقد قيل : إن هذه الآية إنما نزلت متأخرة سنة تسع ، أو عشر ، ويدل على ذلك أنها في سياق مخاطبة أهل الكتاب ، وتقرير ملة إبراهيم ، وتنزيهه من اليهودية والنصرانية ، وصدر سورة آل عمران إنما نزلت لما جاء وفد نجران إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وناظروه في أمر عيسى بن مريم - عليه السلام - ووفد نجران إنما قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - بآخره [ ص: 220 ] وأما قوله : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) فإنه نزل عام الحديبية سنة ست من الهجرة لما صد المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن إتمام عمرته التي قد كان أهل بها ، وفيها بايع المسلمين بيعة الرضوان ، وفيها قاضى المشركين على الصلح على أن يعتمر من قابل : فإنما يتضمن الأمر بالإتمام وليس ذلك مقتض للأمر بالابتداء ، فإن كل شارع في الحج والعمرة مأمور بإتمامها ، وليس مأمورا بابتدائهما ، ولا يلزم من وجوب إتمام العبادة وجوب ابتدائها ، كما لا يلزم من تأكيد استحباب الإتمام تأكيد استحباب الشروع .

وأما كون الحج والعمرة من دين إبراهيم - عليه السلام - فهذا لا شك فيه ، ولم يزل ذلك قربة وطاعة من أول الإسلام ، وجميع آيات القرآن تدل على حسن ذلك واستحبابه ، وأما وجوبه ، فلا يعلم أنه كان واجبا في شريعة إبراهيم البتة ، ولم يكن لإبراهيم - عليه السلام - شريعة يجب فيها على الناس .. . [ ص: 221 ] ويوضح ذلك أنه لم يقل أحد أن الحج كان واجبا من أول الإسلام .

الوجه الثاني : أن أكثر الأحاديث الصحيحة في دعائم الإسلام ليس فيها ذكر الحج مثل حديث وفد عبد القيس لما أمرهم بأمر فصل يعملون به ، ويدعون إليه من وراءهم ، ويدخلون به الجنة ، أمرهم بالإيمان بالله وحده ، وفسره لهم : أنه الصلاة والزكاة وصوم رمضان ، وأن يعطوا من المغنم الخمس ، ومعلوم أنه لو كان الحج واجبا لم يضمن لهم الجنة إلا به .

وكذلك الأعرابي الذي جاء من أهل نجد ثائر الرأس ، الذي قال : لا أزيد على هذا ، ولا أنقص منه ، إنما ذكر له النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة ، والزكاة ، والصوم .

وكذلك الذي أوصاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعمل يدخله الجنة : أمره بالتوحيد والصلاة والزكاة وصوم رمضان .

[ ص: 222 ] وقد تقدمت هذه الأحاديث في أول الصيام ، مع أنه قد ذكر ابن عبد البر : أن قدوم وفد عبد القيس كان سنة تسع ، وأظنه وهما ، ولعله سنة سبع ؛ لأنهم قالوا : إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر ؛ وهذا إنما يكون قبل فتح مكة . وأما ذكر الحج في حديث ضمام بن ثعلبة في بعض طرقه ، وقد تقدم اختلاف الناس في وفود ضمام ، وبينا أن الصواب أنه إنما وفد سنة تسع فيكون الحج إنما فرض سنة تسع ، وهذا يطابق نزول الآية في تلك السنة . وهذا شبيه بالحق فإن سنة ثمان وما قبلها كانت مكة في أيدي الكفار ، وقد غيروا شرائع الحج ، وبدلوا دين إبراهيم - عليه السلام - ولا يمكن مسلما أن يفعل الحج إلا على الوجه الذي يفعلونه ، فكيف يفرض الله على عباده المسلمين ما لا يمكنهم فعله ، وإنما كانت الشرائع تنزل شيئا فشيئا ، كلما قدروا ، وتيسر عليهم أمروا به .

الوجه الثالث : أن الناس قد اختلفوا في وجوبه ، والأصل عدم وجوبه في الزمان الذي اختلفوا فيه حتى يجتمعوا عليه لا سيما والذين ذكروا وجوبه إنما تأولوا عليه آية من القرآن أكثر الناس يخالفونهم في تأويلها ، وليس هناك نقل صحيح عن من يوثق به أنه واجب سنة خمس ، أو سنة ست [ ص: 223 ] الجواب الثالث : أنه وإن كان فرض متقدما لكن كانت هناك عوائق تمنع من فعله ، بل من صحته بالكلية سواء كان واجبا ، أو غير واجب ، أظهرها منعا : أن الحج قبل حجة الوداع كان يقع في غير حينه ؛ لأن أهل الجاهلية كانوا ينسئون النسيء الذي ذكره الله في القرآن حيث يقول : ( إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين ) . فكان حجهم قبل حجة الوداع في تلك السنين يقع في غير ذي الحجة .

روى أحمد بإسناده ، عن مجاهد في قوله : ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) قال : حجوا في ذي الحجة عامين ، ثم حجوا في المحرم عامين ، ثم حجوا في صفر عامين ، فكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين حتى وافقت حجة أبي بكر ، الآخر من العامين في ذي القعدة قبل حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنة ، ثم حج النبي - صلى الله عليه وسلم - من قابل في ذي الحجة ، فلذلك حين يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض ) .

[ ص: 224 ] وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله - تعالى - : ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) قال : فرض الله الحج في ذي الحجة ، وكان المشركون يسمون الأشهر ذا الحجة ، والمحرم ، وصفرا وربيعا ، وربيعا ، وجمادى ، وجمادى ، ورجبا ، وشعبان ، ورمضان ، وشوالا ، وذا القعدة ، وذا الحجة ، ثم يحجون فيه مرة أخرى ، ثم يسكتون عن المحرم فلا يذكرونه ، فيسمون - أحسبه [ ص: 225 ] قال : المحرم صفر ، ثم يسمون رجب جمادى الآخرة ، ثم يسمون شعبان رمضان ، ورمضان شوالا ، ثم يسمون ذا القعدة شوالا ، ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة ، ثم يسمون المحرم ذا الحجة ، ثم عادوا لمثل هذه القصة ، قال : فكانوا يحجون في كل شهر عامين حتى وافق حجة أبي بكر الآخر من العامين في ذي القعدة ، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم حجته التي حج ، فوافق ذلك ذا الحجة فلذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض " .

وكذلك في رواية أخرى عن مجاهد قال : هذا في شأن النسيء ؛ لأنه كان ينقص من السنة شهرا .

وروى سفيان عن عمرو عن طاوس قال : " الشهر الذي نزع الله من الشيطان المحرم " .

[ ص: 226 ] وروى أبو يعلى الموصلي عن إبراهيم في قوله تعالى : ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) قال : النسيء المحرم ، وروى أحمد عن أبي وائل في قوله عز وجل : ( إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ) الآية ، قال : كان رجل ينسأ النسيء من كنانة ، وكان يجعل المحرم صفرا يستحل فيه الغنائم ، فنزلت : ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) .

وهذا مما أجمع عليه أهل العلم بالأخبار ، والتفسير ، والحديث ، وفي ذلك [ ص: 227 ] نزل قوله : ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا ) الآية ، والتي بعدها .

وعن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال : " ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " وذكر الحديث ، متفق عليه .

وإذا كان الحج قبل حجة الوداع في تلك السنين باطلا واقعا في غير ميقاته امتنع أن يؤدي فرض الله سبحانه قبل تلك السنة ، وعلم أن حجة عتاب بن أسيد ، وحجة أبي بكر إنما كانتا إقامة للموسم الذي يجتمع فيه وفود العرب والناس ؛ لينبذ العهود ، وينفى المشركون ، ويمنعون من الطواف عراة ؛ تأسيسا وتوطئة للحجة التي أكمل الله بها الدين ، وأتم بها النعمة ، وأدى بها فرض الله ، وأقيمت فيها مناسك إبراهيم عليه السلام .

[ ص: 228 ] ولا يجوز أن يقال : فقد كان يمكن المسلم أن يحج في غير وقت حج المشركين ، أما قبل الفتح فلو فعل ذلك أحد لأريق دمه ، ولمنع من ذلك وصد ، وكذلك بعد الفتح ؛ لأن القوم حديثو عهد بجاهلية ، وفي استعطافهم تأليف قلوبهم ، وتبليغ الرسالة في الموسم ما+ فيه .

والذي يبين ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتمر عمرة الحديبية ، ثم عمرة القضية من العام المقبل ، ثم عمرة الجعرانة من العام الذي يليه ، ومعه خلق كثير من المسلمين ، فقد كان يمكنه أن يحج بدل العمرة ، فإنه أكمل وأفضل أن يجعل بدل هذه العمرة حجة أو يأمر أحدا من أصحابه بذلك ، ولو أنها حجة مستحبة كما أن العمرة مستحبة ، فلما لم يفعل علم تعذر الحج الذي أذن الله لاختصاصه بوقت دون العمرة .

وقد ذكروا أيضا من جملة أعذاره اختلاط المسلمين بالمشركين ، وطوافهم بالبيت عراة ، واستلامهم الأوثان في حجهم ، وإهلالهم بالشرك حيث يقولون : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ، وإفاضتهم من عرفات قبل غروب الشمس ، ومن جمع بعد طلوعها ، ووقوف الحمس عشية عرفة بمزدلفة ، إلى غير ذلك من المنكرات التي لا يمكن الحج معها ، ولم يمكن تغييرها بعد الفتح إلا في سنة أبي بكر - حج من العام المقبل لما زالت . ومن الأعذار أيضا اشتغاله بأمر الجهاد ، وغلبة الكفار على أكثر الأرض ، [ ص: 229 ] والحاجة ، والخوف على نفسه ، وعلى المدينة من الكفار والمنافقين ، وأن الله أعلمه أنه لا بد أن يحج قبل الموت ، وفي بعض هذه الأمور نظر ، وإن صحت فهي عذر في خصوصه ، ليست عذرا لجميع المسلمين .

وأما قولهم : وجوب الحج مطلقا ، قلنا : الأمر المطلق عندنا يوجب فعل المأمور به على الفور ، ولو لم يكن الأمر المطلق يقتضي ذلك فقد بينا من جهة السنة وغيرها ما يقتضي وجوب المبادرة إلى فعل الحج ، فيكون الأمر به مقيدا ، وأيضا فإن تأخير الحج تفويت ؛ لأنه لا يتمكن من فعله إلا في وقت واحد فيصير كالعبادة المؤقتة من بعض الوجوه ، وإنما لم يكن فعله بعد ذلك قضاء ؛ لأن القضاء هو فعل العبادة بعد خروج وقتها المحدود شرعا حدا يعم المكلفين ، والحج ليس كذلك ، وكونه قضاء أو أداء لا يغير وجوب التقديم ، ولا جواز التأخير ؛ بدليل أن النائم ، والناسي ، والحائض ، والمسافر يأتون بالعبادة بعد خروج الوقت العام المحدود ، فيكون قضاء مع جواز التأخير أو وجوبه ، والمزكي يجب عليه أداء الزكاة عقيب الحول ، ولو أخرها لم يكن قضاء ، وكذلك القاضي شهر رمضان لو أخره إلى عام ثان أو أخر قضاء الحج إلى عام ثان لم يقل له : قضاء القضاء ، وكذلك من غلب على ظنه تضايق الصلاة أو الحج في وقته فأخره وأخلف ظنه - أثم بذلك ، ولا يكون ما يفعله قضاء ، وكذلك لو صرح بوجوب الفعل على الفور أو أقام عليه دليلا وأخره إلى الوقت الثاني - لم يكن قضاء ، فالحج من هذا الباب .

التالي السابق


الخدمات العلمية