الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 338 ] مسألة : ( ولا يجوز لمن أراد دخول مكة تجاوز الميقات غير محرم إلا لقتال مباح أو حاجة تتكرر كالحطاب ونحوه ، ثم إن أراد النسك أحرم من موضعه ، وإن تجاوزه غير محرم رجع فأحرم من الميقات ، فإن أحرم من دونه فعليه دم سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع .

في هذا الكلام فصول :

الأول :

أن من مر بهذه المواقيت غير مريد لمكة ، بل يريد موضعا من الحل : فلا إحرام عليه .

وإن أراد موضعا من الحرم غير مكة .. .

وإن أراد مكة للحج أو العمرة لم يجز له تجاوز الميقات إلا محرما ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " مهل أهل المدينة من ذي الحليفة ، وأهل الشام من الجحفة ، وأهل نجد من قرن " وهذا أمر بصيغة الخبر، وكذلك قوله : " وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة " إلى قوله : " هن لهن ولمن [ ص: 339 ] أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج والعمرة " وإنما فائدة التوقيت : وجوب الإحرام من هذه المواقيت ؛ لأن ما قبلها يجوز الإحرام منه فلو كان ما بعدها يجوز تأخير الإحرام إليه لم يكن لها فائدة .

وإن أراد دخول مكة لغير الحج والعمرة مثل تجارة أو زيارة أو سكن أو طلب علم أو غير ذلك من الحاجات التي لا يشق معها الإحرام ، فإن السنة أن لا يدخلها إلا محرما بحجة أو بعمرة ، سواء كان واجبا أو تطوعا وهذا واجب عليه في أشهر الروايتين .

قال في رواية ابن منصور : لا يدخلها أحد إلا بإحرام ، وقال في رواية ابن إبراهيم وقد سئل عن رجل أراد أن يدخل مكة بتجارة : أيجوز أن يدخلها بغير إحرام ؟ فقال : لا يدخل مكة إلا بإحرام يطوف ويسعى ويحلق ، ثم يحل ، وقد نص على ذلك في مواضع .

[ ص: 340 ] والرواية الأخرى : أنه مستحب وترك الإحرام مكروه ، قال في رواية الأثرم والمروذي : لا يعجبني أن يدخل مكة تاجر ، ولا غيره إلا بإحرام تعظيما للحرم ، وقد دخل ابن عمر بغير إحرام .

لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن الحج والعمرة إنما تجب مرة واحدة ، فلو أوجبنا على كل من دخلها أن يحج أو يعتمر لوجب أكثر من مرة ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المواقيت : " هن لهن ولكل من أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة " وهذا لا يريد حجا ولا عمرة ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رجع هو وأصحابه من حنين إلى مكة ... .

ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعث عثمان عام الحديبية ليخبرهم بقدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة .

[ ص: 341 ] ولأن الصحابة الذين بعثهم لاستخراج خبيب ... .

ولأن هذه قربة مشروعة لتعظيم البقعة فلم تجب ؛ كتحية المسجد الحرام بالطواف وتحية غيره بالصلاة .

وهل يجوز أن يحضر عرفة والموسم مع الناس من لم ينو الحج ولم يحرم من أهل مكة أو غيرهم ؟ ظاهر حديث عمر وابن عمر رضي الله عنهما أنه لا يجوز تعظيما للفعل كتعظيم المكان .

ووجه الأول : ما روي عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : [ ص: 342 ] " لا يدخل مكة تاجر ، ولا طالب حاجة إلا وهو محرم " رواه سعيد والأثرم وفي رواية قال : " لا يدخلن أحد من الناس مكة من أهلها ولا من غيرهم غير حرام " رواه حرب ، ولا يعرف له مخالف ، وسنتكلم على أثر ابن عمر .

وأيضا : ما روي عن مجاهد وطاوس قالا : " ما دخلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلا وهم محرمون " .

وفي رواية عن هشام بن حجير أظنه عن طاوس قال : " ما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة إلا محرما إلا عام الفتح " .

وعن عطاء قال : " ما نعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة قط إلا وهم [ ص: 343 ] محرمون " رواهن سعيد .

وعن خصيف عن سعيد بن جبير قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يجاوز أحد الميقات إلا وهو محرم إلا من كان أهله دون الميقات " ذكره بعض الفقهاء .

ولا فرق بين أن يكون دون المواقيت إلى مكة ، أو يكون وراء المواقيت قال أحمد في رواية ابن القاسم وسندي : لا يدخل أحد مكة بغير إحرام ، [ ص: 344 ] وقد أرخص للحطابين والرعاة ، ونحو هؤلاء أن يدخلوا بغير إحرام فقيل له : إنهم يقولون : ابن عمر لم يكن بلغ الميقات فمن أجل ذلك دخل بغير إحرام فقال : الميقات وغيره سواء ، وإنما رجع لاضطراب الناس والفتنة فدخل كما هو .

وكان ابن عباس يشدد في ذلك ، فقيل له : فالنبي - صلى الله عليه وسلم - دخلها عام الفتح بغير إحرام ؟ فقال : ذلك من أجل الحرب ألا تراه يقول : " حلت لي ساعة من نهار " وهذا يدخل مع فعل ابن عمر .

وقال في رواية الأثرم في الرجل يقيم بمكة متمتعا أو غيره ثم يخرج منها لبعض الحاجة ، فيعجبني أن لا يدخلها إلا بإحرام ، وأن لا يخرج منها أبدا حتى يودع البيت ، فقد أمر بالإحرام كل داخل إليها ممن خرج عنها ، أو لم يخرج سواء كان رجوعه إليها من الميقات أو من فوق ، وهذا لأن المقصود بذلك تعظيم الحرم لشرفه وكرامته ، وذلك يستوي فيه كل داخل إليه ممن قربت داره أو بعدت ؛ ولهذا يستويان في وجوب الإحرام إذا أراد الحج أو العمرة .

وأما نفس مجاوزة الميقات فليس بموجب للإحرام بدليل ما لو لم يقصد مكة ، وإنما قصد بعض أماكن الحل .

[ ص: 345 ] فأما إن قصدها من نفس الحرم : فلا إحرام عليه ؛ لأن الحجيج يدخلونها من منى بعد أن حلوا الحل كله ، ولا إحرام عليهم واجب ولا مستحب ، ولأن الحرم كله شيء واحد ، فأشبه الانتقال في طرقات القرية ، ولأن ذلك فيه مشقة شديدة على القاطنين .

فأما إن أراد بعض مواضع الحرم خارج مكة ، أو أراد أن يخترق الحرم ابن سبيل ، أو أراد أن يخترقها من غير مقام .. .

فإن دخل مكة غير محرم لزمه قضاء هذا الإحرام ، نص عليه في رواية حرب قال : قلت لأحمد : فإن قدم من بلدة بعيدة تاجر فقدم مكة بغير إحرام قال : يرجع إلى الميقات فيهل بعمرة إن كان في غير أيام الحج ، وإن كان في أيام الحج : أهل بحجة .

وهذا هو الذي ذكره القاضي في خلافه ، وابنه وأبو الخطاب وغيرهم .

وذكر الشريف أبو جعفر أنه يثبت في ذمته الدم ، وهو إن لم يكن غلطا في النسخة فإنه وهم - والله أعلم - ، ولعل وجهه أنه ترك إحراما واجبا .

وقال القاضي في المجرد وابن عقيل - في بعض المواضع - وغيرهما [ ص: 346 ] من أصحابنا ليس عليه قضاء ولا دم ولا غير ذلك ؛ لأنها قربة مفعولة لحرمة المكان ، فوجب ألا تقضى كتحية المسجد ، ولأن الإحرام يراد للدخول فإذا حصل الدخول بدونه لم تشرع إعادته كالوضوء لصلاة النافلة ، ولأنها عبادة مشروعة بسبب فتسقط عند فوات السبب كصلاة الكسوف .

فعلى هذا بأي شيء يسقط ؟ هل يسقط بدخول الحرم ؟ وهل يجب عليه أن يعود إلى الميقات ؟ فإن أحرم دونه ... .

ووجه الأول : أنه إحرام لزمه ، فإذا لم يفعله لزمه قضاؤه كالنذر المعين ، ولأن من وجب عليه عبادة ، فإنها لا تسقط بفوات وقتها ، بل عليه إعادتها كسائر الواجبات من الصوم والصلاة والهدي والأضحية وغير ذلك خصوصا الحج ، وهذا لأن الواجب الثابت في الذمة لا بد من فعله على أي حال كان ؛ إما في وقته ، وإما بعد وقته ، وعكسه ما لا يجب من النوافل ، على أنا نقول : النوافل المؤقتة تقضى ، وتحية المسجد على أنه قد يفرق بين من يستديم المكث [ ص: 347 ] وبين من يخرج ، فعلى هذا ... .

فإن قيل : فهو إذا رجع إلى الميقات لزمه إحرام آخر ، قلنا : إنما يلزمه الدخول بإحرام سواء كان وجب عليه قبل ذلك أو لم يجب .

فإن أدى بهذا الإحرام حجة الإسلام ، أو حجة منذورة في سنته أجزأ عنه من عمرة القضاء فيما ذكره أصحابنا ، وهو منصوصه في رواية أبي طالب فيمن دخل مكة بغير إحرام ، وهو يريد الحج فإن كان عليه وقت رجع إلى الميقات فأهل منه ولا شيء عليه ، وهذا لأنه كان مأمورا أن يدخل بإحرام ، ولو أنه للحج المفروض فإذا عاد ففعل ذلك فقد فعل ما كان مأمورا به ، ودخوله حلالا لا يوجب عليه دما كما لو جاوز الميقات غير المحرم ، ثم رجع فأحرم منه .

وإن أخر الحج إلى السنة الثانية لم تجزه حجة الإسلام عنه ، ولزمه حجة أو عمرة ، ذكره القاضي وغيره ؛ لأن حجه في العام المقبل لا يسد مسد الإحرام في [ ص: 348 ] ذلك العام ؛ لأن الإحرام الذي لزمه بالدخول لا يؤدي به الحج في العام المقبل ، ويتخرج أن يجزئه ؛ لأن حجة الإسلام تسقط ما عليه من نذر ، وفاسد على إحدى الروايتين .

وإن أحرم بالحج عما وجب بالدخول : وقع عن حجة الإسلام ، وأما العمرة فمتى اعتمر فإن أحرم هذا بالعمرة أو بالحج بعد مجاوزة الميقات لزمه دم ، وإنما يستقر عليه القضاء بالدخول فلو رجع قبل أن يدخل لم يلزمه شيء .

التالي السابق


الخدمات العلمية