تقديم
عمر عبيد حسنة
الحمد لله الرحمن، الذي خلق الإنسان، علمه البيان، فقال تعالى: ( الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان... ) (الرحمن:1-4)، وبهذه القابلية والقدرة التي منحها الله الإنسان على البيان والتي ميزه بها مكنه من الإفصاح عما في نفسه، وأمكنه من القدرة على التفاعل والتفاهم والتواصل وقراءة الحياة والتعبير عنها مع الآخرين.
فلقد جعل الله الكلمة واللغة والبيان هي نقطة الانطلاق وبدء الحياة والحركة وبناء الحضارة وإقامة العمران وتحقيق الاجتماع البشري؛ فهي مفتاح الحياة ووعاء الفكر ووسيلة الإقناع، ففي البدء كانت الكلمة، كما ورد في بعض الأسفار الدينية، وفي بدء الخلق: كان التعليم والتعلم وأداته اللغة، فقد علم الله آدم، أصل الإنسان وأبا البشر، الأسماء كلها (اللغات)، وكانت هذه الميزة للإنسان وراء مقدرته على الاختيار والانتقاء والتفكير والتعبير والتعلم والكسب المعرفي، وكانت السبب في الطلب إلى الملائكة السجود لهذا الخلق، على الرغم مما يحتمل الكسب الإنساني من فعل الإفساد وعمل الإصلاح، يقول تعالى: ( وعلم آدم الأسماء كلها .... ) (البقرة:31) ، ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم .... ) (البقرة:34) ، ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل [ ص: 5 ] في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ) (البقرة:30).
والصلاة والسلام على إمام البلاغة والفصاحة والبيان، الذي أعطي جوامع الكلم، فقال عليه الصلاة والسلام: ( فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون ) (أخرجه مسلم)، والذي كانت معجزته، التي تحققت من خلال عزمات البشر، عقلية ثقافية بلاغية بيانية، وكانت مهمته الأساس البيان لمعطيات الوحي وتكاليفه، بكل أشكاله وأجناسه وأنواعه، يقول تعالى: ( وما على الرسول إلا البلاغ المبين ... ) (العنكبوت:18) ، ويقول: ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم .... ) (النحل:44) ، وكان هذا الإنزال (القرآن) بحروفه المتعددة المتنوعة بكل ما تحمل من آفاق وأبعاد بيانية ومفتاحية لكل المغاليق البشرية ( أنزل على سبعة أحرف ) (أخرجه البخاري) ، وقراءاته العشر، المتواترة المتوافقة مع نطق العرب ولهجاتهم المتعددة، مستوعبا لحالات الإنسان المخاطب ولهجاته كلها، ومستوفيا لطرائق وأدوات فهمه، وكأن ذلك يعني من وجه آخر أهمية إعداد الداعية واستيفائه لوسائل وأساليب ومفردات وأجناس واستحقاقات الخطاب، الأمر الذي يعتبر من الأبجديات الأولى لتحقيق النجاح في مهمته الدعوية، وبناء أهلية مخاطبته للناس، وقدرته على التأثير والتفاعل معهم، فاللغة بكل أساليبها مفتاح الشخصية، بكل مكوناتها، عقلا ونفسا ومشاعر وعواطف وإحساسا وإدراكا. [ ص: 6 ]
وبعد:
فهذا "كتاب الأمة" الثالث والأربعون بعد المائة: "لغة الخطاب الدعوي" للدكتور بشير عبد الله المساري، في سلسلة "كتاب الأمة"، التي تصدرها إدارة البحوث والدراسات الإسلامية في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، في سعيها الدائب للاضطلاع بمهمة النهوض بأدوات التوصيل وحسن البيان لمعطيات الوحي، في الكتاب والسنة، والارتقاء بوسائل الدعوة إلى الإيمان بالله الواحد، ومعاودة إخراج الأمة، واسترداد خيريتها، وبناء وسطيتها، وتحقيق شهادتها على الناس بإبلاغهم وحي الله، استجابة لقوله تعالى: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ... ) (البقرة:143) ، وتخليص الناس من عبودية العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة؛ وتلك هي المهمة الكبرى التي عملت لها النبوة على تاريخها الطويل، وعمل ويعمل لها من بعدها ورثة النبوة والكتاب من العلماء العدول، في كل زمان ومكان، الذين يحملون أمر هذا الدين ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين ) (أخرجه البيهقي) ، يبلغونه الناس وينفون عنه نوابت السوء.
والأمر الذي نحب له أن يكون واضحا ابتداء أن وراثة النبوة، والقيام بأمر الدعـوة إلى الله، والاضطـلاع بمهمـة البيان تعتبر من أعـلى المهام، وأعظم المسؤوليات، وأثقل الصناعات، وأصعب المشاق لمن يدرك أبعادها، ويقدر آثارها، ويستوعب ما يترتب عليها من ثواب، يقول تعالى: ( ومن [ ص: 7 ] أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ) (فصلت:33) ، ويستوعب أيضا ما تتطلبه هذه المهمة من المؤهلات والقدرات وتستلزمه من الخصائص وبناء المهارات.
فأنبياء الله جميعا، الذين اصطفاهم الله سبحانه وتعالى لإبلاغ رسالته وصنعهم على عينه، أدركوا عـظم المهمة وما تتطـلبه من إعداد واستعداد وما يعرض لها من مواجهات: ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) (المزمل:5) ، ( فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا ) (الإنسان:24)؛ فسيدنا موسى، عليه السلام، وهو من أولي العزم من الرسل والذي صنع على عين الله ورعايته ( ... ولتصنع على عيني ) (طه:39) ، توجس خيفة بطبيعته البشرية في أكثر من موقف، وطلب إلى الله أن يشد عضده بأخيه هارون؛ لأنه أفصح منه لسانا وأقدر بيانا؛ مخافة أن يكذب ( وأخي هارون هو أفصح مني لسانا ... ) (القصص:34) ، ذلك أن الفصاحة وقوة الحجة والبيان هي المرتكز الأساس في الدعوة وتحصل الإقناع عند المتلقي.
ولقد آتى الله داود وسليمان، عليهما السلام، الحكم والحكمة وفصل الخطاب والقـدرة على مخـاطبة جميع خـلق الله والتفاهم والتفاعل معهم، قال تعالى: ( وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ... ) (ص:20)، وقال: ( ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد ... ) (سبأ:10). [ ص: 8 ]
وجاءت النبوة الخاتمة بجماع الأمر كله، وتميز الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم، وليس معنى جوامع الكلم -فيما نرى- القدرة على جمع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة فقط، وإنما امتلاك القدرة على الإحاطة بالفضاء المعرفي بأحوال الإنسان وحالاته وتقلباته، واختيار الخطاب الملائم الحكيم المؤثر في شخصيته، الموافق للهجته، القادر على تغيير حاله، وتحقيق انفعاله وتفاعله وانتقاله من الكفر إلى الإيمان؛ وليس نزول القرآن على سبعة أحرف -كما أسلفنا- وقراءاته العشر إلا إشارة ولو ضمنية إلى بعض أبعاد مستلزمات الدعوة واستحقاقاتها وبعض خصائص النبوة، محل القدوة، في دعوة الناس إلى مقاربة جوامع الكلم، التي كانت من خصائص النبوة الخاتمة.
ولعلنا نذكر هنا: أن الوسيلة الأهم في الإقناع والدعوة إلى الله في النبوات السابقة كانت المعجزات المادية، التي قد يتساوى الناس، على فوارقهم الفردية، في الإحساس بها، وقد يكون في ذلك الكثير من الحكمة الإلهية، ذلك أن تاريخ الإنسان مر بأطوار متعددة ومتعاقبة قبل بلوغ سن الرشد؛ أطوار كان يغلب عليها الإحساس بالأمور المادية ويغيب عنها بأقدار متفاوتة الإدراك والقدرة على التجريد، حتى إذا ما وصل الإنسان إلى طور الرشد، بتأهيل من النبوات السابقة، جاءت معجزة الرسالة الخاتمة عقلية فكرية بيانية بلاغية تجريدية خالدة، مجردة من حدود الزمان والمكان، تحاكي كل إنسان في كل زمان ومكان،وكانت اللغة العربية وسيلتها الرئيسة.
إن اختيار أن تكون المعجزة الخاتمة عقلية بيانية بلاغية لغوية، تعتمد الإبانة والفصاحة والبيان ومخاطبة العقل سبيلا للتفاهم والتفاعل والتعبير، له أكثر من [ ص: 9 ] مغزى، فاللغة والبيان هي مفتاح شخصية الإنسان، بل هي الإنسان، بكل فاعلياته، فجميع أنواع الكسب والإنتاج البشري من علوم وفنون وصناعات وتبادل الخبرات كان لا يمكن له أن يكون بدون اللغة، وسوف يصاب بالعطالة والبكم والصمم والجمود والمحاصرة لولا اللغة.
واللغة، بأبعادها المتعددة وآثارها الفاعلة، ليست اللسان فقط، وإنما هي الهوية والوطن وتواصل التراث ومكون الشخصية والذاكرة ومبعث الفاعلية والتأثير ومحركات التفكير.
واللغة كسبية تعليمية، وهي الميثاق والحبل الرابط بين الناس، ومشكل النسيج الاجتماعي للحياة الإنسانية، تميز الإنسان عن سائر الخلق (فهو الحيوان الناطق) وتؤكد قدرته على الاختيار، وليست اللغة قسرية إجبارية كاللون والجنس والقوم لا يد للإنسان في ممارستها، دفعا أو رفعا، كحال سائر المخلوقات، التي تحاكي أصوات الطبيعة.
وهذه القدرة على الاختيار تعني -فيما تعني- إمكانية الإنسان على حسن اختيار أسلوبه ومفرداته واختبار مدى ملاءمتها للحال الذي يعالجها، وتحقيقها للهدف الذي يرمي إليه.
فإذا كان تعريف البلاغة هو: مطابقة الكلام لمقتضى الحال أدركنا أهمية معرفة الداعية، صاحب الخطاب اللغوي، بحال المخاطب ومشكلاته ومعاناته وحاجاته وأهمية اكتشاف أزرار شخصيته ومكوناته والعوامل المؤثرة فيه، وأدركنا أيضا ما هو الأسلوب الأمثل للتعامل معه، وخصائص الخطاب المطلوب الملائم لحاله. [ ص: 10 ]
وإذا كان بعض تعريف الحكمة: وضع الأمور بمواضعها، ووزنها بموازينها: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة ) (النحل:125) ، وتلك هي عملية كبيرة وشاقة وغاية في الأهمية، أدركنا أهمية تحري الحكمة والعمل على إصابتها في العمل الدعوي.
وليست الدعوة بالحكمة أمرا ساذجا وعفويا وارتجاليا، كما أنها ليست فهلوة وقدرة على زلاقة اللسان والتمتع برفع الصوت والقدرة على إثارة الحماس...
إن الدعوة إلى الله علم ومعرفة وسلوك وقدرة على اختيار المفردات والأدوات الملائمة والمؤثرة.
فالخطاب الإعلامي بشكل عام، وخطاب الدعوة بشكل خاص، فن وعلم -كما أشرنا- بل لعلنا نقول: إن الخطاب الإعلامي اليوم، الذي تتبارى الأمم في بلوغه وترقيته وتعتبره ميدان المعركة الحضارية الأهم، فتحشد لذلك الإمكانات المادية والمعنوية الضخمة؛ لأنه أصبح يمثل اليوم ما يسمى "القوة المرنة"، ذلك أنهم أدركوا مدى تأثيره وقدرته على تغيير الواقع، هذا الخطاب أصبح اليوم ثمرة لمجموعة علوم اجتماعية وإنسانية ونفسية ولغوية، تختار له الشخصية والصوت والصورة والمفردات اللغوية واللباس والجلسة والنبرة والزمان والمكان، وتوضع له الاستراتيجيات: ماذا يقدم، وماذا يؤخر، وماذا يؤجل، وتقام له الدورات التدريبية، كما يوكل أمر تقويمه ومراجعته وتحديد مواقع الخلل فيه وبيان أسباب القصور إلى جهات محايدة علمية؛ ويكاد يكون [ ص: 11 ] العمل على الارتقاء بالخطاب وقياس مدى تأثيره الهاجس اليومي للأمم في ميدان السباق الحضاري.
وليس ذلك فقط وإنما أصبح لكل خطاب مفرداته ومتخصصوه وأصوله وعلومه وأدواته، بل وأشخاصه ولغته ولهجته ومعاجمه ودورات تعليمه ومراكز تدريبه، حيث لا مجال للأغبياء والسذج، في عالم الأذكياء.
ولا تكتمل العمـلية الإعـلامية وتبلغ مداها وتحقق أغراضها ومقاصدها ما لم يتضح هدف الخطاب، الذي يتمحور حوله، والمدى الذي يريد أن يبلغه، والنتائج التي يريد تحقيقها في هذه المرحلة، وما يستتبعها من مراحل، واختيار الأدوات والمفردات المناسبة لتحقيق هذا الهدف.
وليس ذلك فقط، وإنما المهم أو الأهم أيضا معرفة حال المخاطب ومكوناته وتاريخه وعقيدته، التي يدين بها، وتحديد أعمار النقلة المطلوبة له، ووسائل إغرائه بالتفكير، واستدعائه إليه، والاقتناع بضرورة التحول للارتقاء بالواقع وتغيير الحال.
ولعلنا نقول هنا: إن الدعوة إلى الحكمة المطلوبة والتي تحكم الخطاب الدعوي والتي تتطلب وضع الأمور بمواضعها ووزنها بموازينها، والبلاغة التي تقتضي مطابقة الكلام لمقتضى الحال تعني -فيما تعني- تحديد هدف الخطاب، وحال المخاطب، وأسلوب الخطاب ومفرداته، وموضوع الخطاب.
فالدعوة وأساليب البلاغ المبين للوحي الإلهي مشروطة بالحكمة والموعظة الحسنة والمدافعة بالتي هي أحسن، ذلك أن غياب أي عنصر من هذه العناصر لا يعني فشل العملية الدعوية فقط والحراثة في البحر وطحن الماء وإنما المساهمة [ ص: 12 ] السلبية في إنهاك وإجهاض قيم الوحي في الكتاب والسنة وإحباط العمل وتنفير الناس.. فمخاطبة الناس على قدر عقولهم، والأخذ بيدهم، وليس الأخذ على يدهم، والتدرج في إبلاغهم الحق، وأطرهم عليه هو الحكمة المبتغاة؛ ذلك أن الكثير من الدعاة إنما يظهرون وكأنهم وظفوا لتهريب الناس وتنفيرهم من دين الله، وقد لا يكون مستغربا أن يدخل ميدان الدعوة كل من هب ودب، كل من تأهل ومن لا أهلية له.
فالحكمة أن نخاطب الناس على قدر عقولهم، حتى لا يكذب الله ورسوله؛ وهذه الحكمة تتطلب الإحاطة بحال الناس ومستواهم، كما تقتضي معرفة أسلوب الخطاب -كما أسلفنا-واختيار المفردات الملائمة لهم.
أما الجنوح إلى خطاب التقعر واللجوء إلى الغموض والرصف الكلامي والأسلوب المسجوع المصنوع بعيدا عن ألف الناس فـلا يحقق شيئا؛ وليس أقل من ذلك خطورة أن يأتي الخطيب بالمفردات والمصطلحات اللغوية والأساليب التهديدية والتخويفية، التي تخص الكافرين والمنافقين وتحذرهم من مغبة سلوكهم، ويصبها فوق رؤوس المؤمنين الموحدين المصلين المقبلين على بيوت الله!
وعلى الرغم من أن الإنسان والعالم في تغير مستمر ومتسارع وأن لكل عصر مشكلاته وقضاياه وأهمية اختيار المفردات والمصطلحات، التي تناسبه، نجد في كثير من الأحيان الخطاب الدعوي أو الإعلامي الإسلامي اليوم، في معظمه، يعاني من غربة الزمان والمكان، فقد يأتي الخطيب بأمور وخطب جاهزة تخص زمنا غير زماننا، وتعالج مشكلات غير مشكلاتنا، ويلقيها على الجماهير المسلمة [ ص: 13 ] في المساجد والمنتديات ودروس الوعظ والإرشاد، فيكون هو في واد والمتلقين في واد آخر؛ وقد تجهـد نفسك -كمستمع- كثيرا لتحدد الزمان، الذي قيلت فيه، والمجتمع الذي أعدت له، أو ملامح المجتمع الذي تخاطبه، فلا تصل إلى نتيجة(!)
وإذا نزعت التاريخ المدون على كثير من صحفنا ومجلاتنا الدعوية لصعب عليك نسبتها إلى عصر معـين؛ فكيف والحال هذه أن توصف بالحكمة والموعظة الحسنة وقد طلقت ذلك كله طلاقا بائنا؟! إنها تعاني من غربة الزمان والمكان أيضا.
وليس ذلك فقط، وإنما قد يمتد الأمر إلى الاستهتار والاستهانة بعقول الناس وملكاتهم.. وتبلغ الجراءة ببعض الخطباء أن يصعد منابر الخطابة دون أن يفكر مسبقا بما يقول، ولماذا يقول، ومن يخاطب، ومدى ملائمة ما يقول لأحوال الناس وحاجاتهم(!)
وقد يهون ذلك من بعض الوجوه، إذا كان مجال الخطاب عاما، لكن الخطب يعظم أكثر فأكثر عندما يكون مجال الخطاب ومحله مؤتمرا محدد الموضوع ومقسم المحاور ومخصص المجالات، ومع ذلك يأتي بعض المشاركين بكلام قـد لا تكون له عـلاقة بعنوان المؤتمر ولا بموضـوعـه ولا بمحاوره ولا بالجانب المطلوب منه معالجته، ويقدم خطبة عصماء تصلح لكل المؤتمرات والمناسبات والمواقف، مهما اختلفت أزمانها وتعددت عناوينها وتنوعت محاورها، ومع ذلك- ولعل ذلك من لوازم التخلف- تتم دعوته لكل مؤتمر وكل ندوة؛ لأن مؤتمراتنا تحولت إلى مؤتمرات سياحية يرتادها محترفون، بعيدة [ ص: 14 ] عن أية جدوى وتقويم ومراجعة، وغالبا ما تتحكم بأشخاصها واختيارهم العلاقات والصلات والحزبيات وليس الكفاءات والإمكانيات.
فإذا كان واقعنا بهذا الشكل فمن أين لنا النهوض وحسن الأداء؟
لقد عقد اليهود مؤتمرا في بازل في سويسرا وقرروا العمل على إقامة دولة بعد خمسين سنة، فقامت الدولة في الموعد المحدد، وعقدنا آلاف المؤتمرات والندوات فجاء الحصاد هشيما؛ كنا دولة فأصبحنا دولا، والخطباء هم الخطباء؛ والتوارث الاجتماعي والديني لهذه الذهنية مستمر في حياتنا.
وقد تكون الإشكالية، التي يعاني منها الخطاب الإعلامي بشكل عام، والخطاب الدعوي بشكل أخص، هو في الطريقة التعليمية للغة الخطاب العربية بشكل عام ولغة الخطاب بكل علم وفن بشكل خاص؛ ذلك أن أساليب ووسائل وأدوات تعليم اللغة العربية بوضعها الحالي لا يمكن أن تنتج لغة سليمة وخطابا ملائما بأسلوبه ومفرداته ومصطلحاته للحال التي عليها الناس، وللموضوع المطلوب معالجته والهدف المراد تحقيقه.
وقد تكون المشكلة تاريخية؛ ذلك أنه من المعلوم أن اللغة توقيفية، المفروض أن تتلقى بالشكل السليم على نحو معهود العرب في الخطاب، وأن الإصابات اللغوية والخلل المحتمل أو الواقع يصوب ويبين وينبه صاحبه عند حصوله لئلا يقع فيه مرة أخرى، أما الأصل فسيبقى أن يتلقى المتعلم اللغة سليمة، وبذلك نقرأ لنتعلم، ونتكلم لنتفاهم ونتبادل المعرفة والخبرة والمهارة، أما ما انتهى إليه أمر اللغة فأصبح العكس، نتعلم لنقرأ(!) وبذلك أصبح هناك تداخل خطير بين علوم اللغة وقواعدها وبين اللغة. [ ص: 15 ]
فاللغة غير علوم اللغة؛ وعلوم اللغة وسائل وأدوات لحماية اللغة وليس لإنشائها، فإذا اقتصر الاهتمام والتعلم على علوم اللغة دون أدائها تحولت سلاسة اللغة وعفويتها وبساطتها إلى قوالب وأسوار تستغرق عقل الإنسان وتفكيره وتعقد لسانه عن الانطلاق مخافة اللحن والوقوع بالخطأ، وبدل أن يفكر بعقله وتعينه اللغة على ذلك أصبح يفكر بلسانه؛ ويلوك لسانه ويتقعر بدل أن يرسل كلامه بسهولة وانسياب إلى المتلقي.
وعلى ذلك فقد نجد كثيرا ممن تخصصوا في علوم اللغة قد لا يحسنون بناء أسـلوب مؤثر أو إلقاء خطـاب ذي قيمة وبلاغة وحسن بيان في أي مجال من المجالات.
ولعل ذلك التوجه إلى علوم اللغة وقواعدها إنما جاء بسبب من دخول الأعاجم وتفشي اللحن في العربية، ولهذا مسوغاته، ضمن حدوده والأسباب الداعية إليه، أما أن تتحول الوسائل (علوم اللغة) إلى غايات وتحل محل اللغة، اختصاصا ودراسة، فالأمر سوف ينتهي إلى عجز اللغة وعقمها، والنفور منها، وسوف يؤدي أيضا إلى انقراض علومها شيئا فشيئا إذا لم ندرك أن اللغة شيء وعلوم اللغة شيء آخر.
إن العدول عن تلقي اللغة السليمة مباشرة، بشتى صنوف البيان، والتدريب عليها، والاكتفاء بتصويب الخطأ حال حصوله، والتحول إلى التمحور حول علوم اللغة من نحو وصرف وعروض ... إلخ أدى إلى غياب اللغة، وأبقى على علومها، الأمر الذي انتهى إلى الخروج عليها واتهامها بالتعقيد والصعوبة والعقم عند كثير من شرائح المثقفين وانتهى إلى الانفجار صوب [ ص: 16 ] العاميات واللهجات المتعددة، التي مزقت أوصال الأمة، وبعثرت تفكيرها، وغيبت جمال اللغة العربية، والإغراء بها.
وليس الأمر أقل إشكالية في مجال تعليم القرآن الكريم من حيث تعلم أحكام تجويد القرآن قبل تلقي القرآن بشكل سليم، وتحويل بيان هذه الأحكام إلى ما بعد التلاوة للتصويب، حيث يسيطر على المتعلم الخوف، ويدفعه ذلك إلى الضغط على مخارج الحروف خشية عدم الإتقان، الأمر الذي حجب الكثير من فوائد التلاوة والتدبر وحال دون جماليات وعذوبة اللغة القرآنية.
وفي تقديري أن اللغة العربية تكافح وحدها وبقوتها الذاتية وتمتد بحفظ القرآن لها، وتستعصي عن الموت شأن كثير من اللغات التي سادت ثم بادت؛ أولا لأنها لسان الرسالة الخاتمة ووعاء النص الإلهي الخالد؛ وثانيا لأن أساليب القرآن ومفرداته تزود التالي له برصيد يضمن له التواصل الثقافي والتاريخي والتراثي والديني، ويمنحه قدرات وقيما تعبيرية عن كل الاحتمالات الشعورية والحالات النفسية.
وسيبقى القرآن الخالد، بمفرداته وأساليبه وتنوع وسائله في الخطاب واستخدام وتوظيف جميع الأجناس التعبيرية كتاب العربية الخالد، الحافظ للغة، القادر على تواصل الأجيال، الحامي لنسيج الحياة الإسلامية، المانع للغة من الانقراض، المثير للاقتداء.
هذا إضافة إلى أن بلاغة أساليبه وبيانه وتحديه اللغوي دفع العرب المخاطبين، مؤمنين وكافرين، ولا يزال، ولو بأقدار بسيطة، إلى محاكاة أبعاد المعجزة، والبحث في وجوه الإعجاز المتعددة، الأمر الذي طور اللغة تاريخيا [ ص: 17 ] وارتقى بها إلى درجة تكاد تكون الدراسات اللغوية جميعا ما تزال تتمحور حول القرآن وإعجازه واكتشاف كنوزه.
إن خلود اللغة العربية، وقدرتها على استيعاب حركة الأمة والمعطيات الثقافية والحضارية والإنسانية، في كل زمان ومكان، والتعبير عن علومها ومنتجاتها وعلاقاتها وقيمها الشعورية إنما يتأتى من خلود القرآن الكريم، وقدرته على الإنتاج في كل زمان ومكان، وإجابته عن أسئلة الإنسان بلسان عربي مبين، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، والله الذي حفظ القرآن حفظ البيان أيضا: ( إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه ) (القيامة:17-19).
فالله سبحـانه وتعالى، الذي اختـار العربية لتكون وعاء رسالته الخاتمة إنما اختارها لمجموعة الصفات والخصائص والمرونة والقدرة على العطاء والاستيعاب التي تتمتع بها دون سائر اللغات، وهي محفوظة بحفظ الله، لكن الحفظ إنما يتحقق من خلال عزمات البشر، فالقرآن بأساليبه ومواضيعه ومفرداته وطرائقه في التعبير ومناهجه في الخطاب سوف يبقى مصدر اللغة، ومعلمها، وحاضن أجيالها، وضامن الامتداد والتتابع؛ فالعودة للقرآن والنهل من معينه ومحاكاته ومقاربته هو الكفيل بالحفاظ على البناء اللغوي والثقافي للأمة وتمكينها من الخطاب الملائم.
ويبقى القرآن، الذي انتهت إليه أصول دعوات الأنبياء وخطابهم لأقوامهم وكيفية التعامل معهم، والسيرة النبوية وكيفية تعاطيها مع الواقع بكل متغيراته [ ص: 18 ] مصدر هداية ودليل عمل لخطاب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ فالقرآن كتاب الله المنـزل، ومنهجه للإنسانية؛ والإسلام دين الفطرة، والإنسان فطرة الله، والله أعلم بمكوناته وخصائصه وما يصلح له وما يفسده: ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) (الملك:14) ، وكأن بين كتاب الله المنزل وخطابه للإنسان وبين الإنسان بما فطر عليه تواعد والتقاء، وأن أي عزوف عن الإيمان وعدم الاستجابة له يعني - فيما يعني- عطبا في أدوات التواصل ووسائل الدعوة وأصول خطابها، الأمر الذي يقتضي باستمرار المراجعة والتقويم للأدوات والوسائل المستخدمة في توصيل الحقيقة وكشف خلل الخطاب الموجه للناس، وذلك أنه لانجاة للإنسان المؤمن إلا بالدعوة إلى دين الله وتبليغ الناس دعوة الله، يقول تعالى: ( قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا ) (الجن:22).
وهذا الكتاب دعوة لمراجعة لغة الخطاب الدعوي في ضوء الوحي الإلهي، في الكتاب والسنة، وأساليبه وتنوعات خطابه بما يلائم مقتضى الحال، ومحاولة إلقاء الأضواء على تنوع أسلوب الخطاب القرآني حسب موضوع الخطاب وأحوال المخاطبين، وبيان أهمية اللغة التي تعتبر الوسيلة الأهم في الخطاب الدعوي كأداة تفاعل وتفاهم وتعاون ووعاء تعبير عن القيم الشعورية والمعاني المقصودة، وقدرتها التعبيرية وأساليبها المتنوعة وبيانها المشرق.
فاللغة بكل مكوناتها ومفرداتها ومترادفاتها وتنوع ضمائرها وألوان بلاغتها مجال رحب لسياحة الفكر وحركة العقل وصياغة الأسلوب المناسب، فاللغة [ ص: 19 ] رافعة التفـكير ومحرك العقل وآسر القلوب ومفتاح الشخصية؛ ولعل العربية، وعاء الرسـالة الخاتمة، بما تمتلك من خصائص وميزات، تقدم لكل إنسان في كل زمان ومكان من الإمكانات الكبيرة ما يجعلها الوسيلة الأهم للتواصل والاتصال والخطاب.
فلقد كان القرآن، كتاب العربية الخالد ولسانها المعجز، هو خطاب الدعوة ووسيلتها المؤثرة على مر العصور، يقول تعالى: ( ولقد يسرنا القرآن للذكر ) (القمر:17).
وكان الجهاد بالقرآن من أعلى أنواع الجهاد ووسائل الدعوة إلى الله، وكانت الدعوة والمجاهدة في بعض مراحلها تقتصر على تلاوة القرآن على تجمعات الناس؛ وكان الخوف من أثر القرآن في التغيير يدفع الكفار إلى التشويش والشغب واللغو حتى لا يصل إليهم سحر القرآن وقدرته على التأثير والتغيير خاصة عند أهل العربية.
ويبقى الخطاب اللغوي الدعوي بشكل خاص والخطاب الدعوي بشكل عام ملفا مفتوحا قابلا للمراجعة والتقويم والإبداع وارتقاء الأداء، كما يبقى الوحي الإلـهي في الكتاب والسنة والسيرة، مصدر الدعوة الأول، محل الارتكاز ومجالا لاكتشاف أبعاد الخطاب وأنواعه وأجناسه، ومحل الاقتداء بالأنبياء، نماذج الدعاة، واستلهام تجربتهم في التعامل مع المجتمعات في أعمارها الحضارية المتعددة.
والحمد لله من قبل ومن بعد. [ ص: 20 ]