الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
4- التدرج في الخطاب حسب درجة التقبل:

إن الله تبارك وتعالى عندما أنزل هذا الدين أنزله كاملا ليكون مستودع الخير كله؛ ولأن الإنسان خلق ضعيفا فمهما اجتهد ليترقى في كمالاته فسيعجزه شمولا واتساعا، وهذا عندما يريد أن يجمع بين جميع فرائض الدين ومندوباته في وقت واحد، وأما فرائضه فإن الله يقول: ( .. لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ... ) (الطـلاق:7)، ( لا يكلف الله نفسا إلا [ ص: 114 ] وسعها ) (البقرة:286)، أما ما عدا ذلك من فضائل الأعمال فهي تشغل أضعاف مساحات زمن الفرد المتاح، فمن أقام الليل كله لزم أن يترك العمل بالنهار، ومن تفرغ لصلاة الضحى سائر وقت الضحى لزم أن يترك ما أوجبه الله عليه من العمـل والسعي على الأهـل وعمارة الأرض؛ نعم قد يلم بأطرافـها كلها ولكن ليس في وقت واحـد، فمن ظن أنه سيقوم بشرائع الدين كلها جمـلة واحـدة، فقد حمل نفسـه ما لا تحتمل، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن هـذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبـت لا أرضا قطـع، ولا ظهـرا أبقـى ) [1] ، وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبـي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسـددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة ) [2] .

من هنا كان على معلم الناس الخير أن يقتصد في التوجيهات، وليعلم أنه إذا رغب الناس في طاعة فلا يفرط في التوسع فيها؛ لأنها ستكون على حساب عبادات أخرى، ورسالة من رسائل التعجيز والتيئيس، وما أكثر القصص التي تتحدث عن رجل أو امرأة يقوم الليل لا يفتر ويصوم النهار لا يفطر، ويختم القرآن كل يوم، ولا ينام حتى يسبح الله ألف مرة، ويحمده ألف مرة، ويكبره [ ص: 115 ] ألف مرة... إلخ، ويا له من فضل عظيم ولكن من يدري لعل هذا الإفراط في جانب من الطاعات يقابله تفريط في أخرى هي أهم منها، كالعبادات المتعدية إلى الآخرين، من إعانة المحتاج، والسعي في نصرة المظلوم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسعي في الأرض، عن إبراهيم التيمي قال: لقي عيسى بن مريم، عليه السلام، رجلا، فقال له: "ما تصنع؟ قال: أتعبد. قال: من يعولك؟ قال: أخي. قال: أخوك أعبد منك" [3] .

وكان النبـي صلى الله عليه وسلم يقـدم للنـاس واجبـات الدين أولا رفقا بهم، عن طلحة بن عبيد الله، رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس، نسمع دوي صوته ولا نفقـه ما يقول، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خمس صلوات فى اليوم والليلة". فقال: هل على غيرهن؟ قال: "لا، إلا أن تطوع، وصيام شهر رمضان". فقـال: هـل على غيره؟ فقال: "لا، إلا أن تطوع". وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، قال: هل على غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تطوع". قال فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أفلح إن صدق ) [4] .

وإذا كان المخاطبون حديثي عهد بالدين فإن من سنة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم تقديم الفرائض أيضا بشكل متدرج كما ورد في حديث معاذ، رضي الله [ ص: 116 ] عنه؛ عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: ( إنك ستأتي قوما أهل كتاب؛ فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب ) [5] .

وموضع الاستشهاد في قوله " فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم.." ففيه سياسة التدرج، والعمل بسياسة النفس الطويل، وعدم تقديم الإسلام جملة واحدة؛ وأدلة التدرج كثيرة من الصعب دفعها أو منعها ممن يقول بأن التدرج كان في بداية الإسلام وهو في حكم المنسوخ بعد أن أكمل الله دينه وأتم نعمته، وهذا فهم قاصر؛ لأن علة التدرج باقية، فلإنسان هو الإنسان، والحالات هي الحالات، والإيمان يبدأ نقطة ضوء في القلب ثم تنمو وينمو معها حب الدين وقابلية الالتزام، وإذا كان التدرج قد حدث والوحي ينـزل فهو من باب أولى اليوم بعد أن صار الإنسان عرضة لسيل الفتن المتدفقة، ولن يكون مبدأ الكل مقابل الكل سوى فتنة جديدة ولكنها فتنة في الدين هذه المرة.

والقرآن نزل منجما، ونزلت بعض الأحكام متدرجة، كحكم تحريم الخمر، ( روى ابن جرير في قوله تعالى: ( يسألونك عن الخمر والميسر [ ص: 117 ] قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ) (البقرة:219) قال: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن ربكم يقدم في تحريم الخمر، قال: ثم نزلت: ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون .. ) (النساء:43)، قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن ربكم يقدم في تحريم الخمر، قال: ثم نزلت: ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه .. ) (المائدة:90) فحرمت الخمر عند ذلك ) [6] .

وعودة إلى النظر في المستويات الأسلوبية في الآيات، فالأولى لأنها ممهدة لتحريم الخمر اشتملت على حديث المنافع، وهو ما يعود على الناس من الأرباح من تجارتها، ولم تتضمن الحديث عن الرجس وكونها مدخلا للشيطان؛ لأنه لا يتوافق مع مسألة تركها حلالا، ولأن الإسلام يجيب عما قد يشكل عائقا في المستقبل، فيضع المعادلة بين المنفعة أمام المفسدة ويرجح مضارها تهيئة للنفوس، وفي الآية الثانية يظهر جزءا من مفاسدها في تشويشها على العبادة وحدوث التخليط الذي لا يستقيم مع استحضار القلب والقنوت لله، وكلها أساليب تصعيدية متدرجة إلى أن يأتي التحريم النهائي المتمثل في آية التحريم ( إنما الخمر والميسر ... ) .

ويقاس على ما سبق من التدرج مع حديث العهد بالدين، يقاس عليه الأخذ بسنة التدرج مع المسلم الجاهل، أو العاصي المسرف على نفسه، فهذان [ ص: 118 ] هما مجال الدعوة لتصحيح التصور لمعنى الانتساب للدين ومن ثم الالتزام بالفرائض ثم المندوبات.

وإذا وجد من يقبل على الواجبات كلها من أول عهده بها فهو فضل من الله ونعمة، وليس الإنكار إلا على إلقاء التكاليف كلها مشروطة بوقت واحد لمن لا تسعفه همته على التقبل، فيكون عليه شاقا، وإنما يريد الله من العبد صدق التوجه وسلامة النية، فإذا أراد الله به خيرا أكمل له دينه وأتم عليه نعمته.

التالي السابق


الخدمات العلمية