الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
تطوير فنون الخطاب الحديث

أولا: الطريقة الإعلامية:

الإعلام وسيلة اتصال جماهيري مباشر، يهدف إلى تزويد الناس بالأخبار الصحيحة، والمعلومات السليمة، والحقائق الثابتة، التي من سماتها إيجاد رأي عام جماعي وموحد، فقد كان هذا ولا يزال أسلوبا ينشده الكثير من الناس، الذين لهم حاجة في التأثير على الجمهور، فهو بهذا المعنى قديم قدم الإنسانية.

وعبر التجمعات الإنسانية تطور الإعلام، وجاء في مراسيم ومنشورات سلطانية يتم تعميمها، وبواسطة الإخباريين، والأشعار التي كانت تلقى في الأسواق والمنتديات فما يلبث أن يتلقفـها الركبان، وتطير بين القبائل وتلهج بها ألسنة الناس فترفع أقواما وتخفض آخرين.

وسنجد فعاليات دعوية في القرآن الكريم توخت المناسبات القومية لعرض الدعوة إلى الله والإعلان عنها، فقد اختار نبي الله إبراهيم، عليه السلام، يوم عيد أهل العراق للفت الأنظار إلى ما يحمله للناس من الدعوة إلى الله، فحطم الأصنام ثم رمي به إلى النار، وشهد كل ذلك فئات الشعب: ( قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون ) (الأنبياء:61)؛ وكانت المناسبة التي عرض فيها نبي الله موسى، عليه السلام، دعوته على قوم فرعون وأثبت برهان صدقه بآية العصا هو أيضا يوم الزينة، يوم يجتمع فيه الناس: ( قال موعدكم يوم [ ص: 143 ] الزينة وأن يحشر الناس ضحى ) (طه:59)؛ ومثل ذلك قصة الغلام المؤمن وأصحاب الأخدود ونحوها.

وتتجلى أساليب الدعوة المختلفة في الأنموذج الدعوي لنبي الله نوح، عليه السلام، من إعلان جماعي، وإسرار فردي وشغل مساحات الزمان من ليل ونهار.

و في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نجد أن مرحلة الجهر بالدعوة بدأت بطريقة الرسالة الإعلامية المباشرة، فعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: لما أنزل الله: ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) أتى النبي صلى الله عليه وسلم (الصفا) فصعـد عليه ثـم نادى: ( يا صباحاه ) فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني لؤي، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟ قالوا: نعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، أما دعوتنا إلا لهذا، فأنزل الله عز وجل: ( تبت يدا أبي لهب وتب ) (المسد:1) [1] .

ولا ريب أن في هذا النداء محملا لمراد النبي صلى الله عليه وسلم من جمع القوم، ذلك أن إنذار الناس من عذاب الله نظير إطلاقها للاستغاثة من حرب.

ولم يكن هذا الخبر المفاجئ ليلقى دون وجود قاعدة تبني عليها الرسالات، وهي الصدق والأمانة، وقد ورد في حديث أخرجه الشيخان قالوا: "نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا" [2] . [ ص: 144 ]

وكانت النتيجة المتوقعة أن حادثة الجهر بالدعوة بهذه الطريقة سينتشر خبرها سريعا بين العرب، وأن اهتمام الناس المتوقع سيعززه صدقية المصدر كونه جاء من إنسان صادق وأمين، عظيم في قومه، ومن أوسطهم حسبا ونسبا، ولو أن أحدا غيره قالها لربما ترك عاصفة من الضحك والتندر، ولتساقطت عباراته في التراب ميتة غير ذات فاعلية، ولما واجهوه بكل إمكاناتهم، لذلك كان لهذا البلاغ قوة الفاعلية في النفوس، فطار من مكة إلى غيرها؛ لأن مكة وهي أم القرى تدين لها العرب بالمرجعية الفكرية، والزعامة القبلية، وإليها يحج الناس من كل الأقطار فكان ذلك كافيا لإيصال خبر ظهور الدعوة إلى القبائل العربية.

وبعد هذا التمهيد الإعلامي كان النبي صلى الله عليه وسلم يغشى الأسواق والمنتديات العامة ليعرض الإسلام على الناس، مثل سوق عكاظ، ومنى، وأماكن الحجيج، وغشي الأماكن التي تجتمع فيها قريش، وسافر إلى الطائف ليعرض الدين على رؤسائها، وفي المدينة كان يذهب إلى أماكن تجمع العرب واليهود ليعرض عليهم الإسلام.

بهذا تتسع الرقعة الإعلامية الدينية لتتحقق فكرة إقامة الحجة على الناس.

على أن النبي، صلوات ربي وسلامه عليه، جدد من أساليبه، ولم يقف عند طريقة أو طريقتين، فقد روى الإمام أحمد في (مسنده) عن علي، رضي الله عنه: ( جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بني عبد المطلب، فيهم رهط كلهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق، قال: فصنع لهم مدا من طعام، فأكلوا حتى شبعوا، قال وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس، ثم دعا بغمر [ ص: 145 ] فشربوا حتى رووا، وبقـي الشراب كأنه لم يمـس، أو لم يشرب، فقال: يا بني عبد المطلب، إني بعثت لكم خاصة، وإلى الناس بعامة، وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم، فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي قال: فلم يقم إليه أحد، قال: فقمت إليه وكنت أصغر القوم، قال: فقال: اجلس، قال ثلاث مرات، كل ذلك أقوم إليه فيقول لي: اجلس، حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي ) [3] .

وفي هذه الحادثة نلحظ استعمال إحدى أهم الوسائل تأثيرا وجاذبية، وهي الدعوة إلى وليمة، فعنـدما يكرم المرء فإن ما هو متوقع منه هو أحد أمرين، إما مبادلة الكرم بمثله كالاستجابة لما يدعو إليه، أو على الأقل مبادلة الكرم بكرم أقل منه وهو السكوت عن مقابلة الكرم بإساءة، فإن لم يكن في المدعو خير فلا يكون منه شر، وهو ما حدث مع عشيرة المصطفى، صلوات الله عليه وسلامه، فقد عرض دعوته وطلب مبايعته، والتزموا الصمت، وفاز بالشرف الإمام علي، رضي الله عنه، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كرر إقامة الولائم لذات الهدف.

وقد كان يقابل الإعلام الدعوي على لسان الأنبياء بالإعلام المضاد، والدعايات المضللة.. وإطلاق التهم والأوصاف المنفرة، كالتي ذكرها القرآن الكريم مثل: (ساحر) (شاعر) كما سبق. [ ص: 146 ]

وسنلحظ أن صف مشركي قريش لم يقف أيضا عند أسلوب واحد في الهجمة المضادة، حيث استعملوا أساليب التشويش على الجهود الدعوية، التي استعملها الكفار، بتتبع تحركات النبي صلى الله عليه وسلم بين القبائل، فهذا أبو لهب يسير خلف النبي صلى الله عليه وسلم يحذر من اتباعه كل من لقيه من القبائل العربية، مرددا التهم التي اتفقت قريش على نشرها بين الناس.

ومن أساليب التشويش التي استعملتها قريش لصرف اهتمام الناس عن الدعوة، أسلوب التشويش المباشر ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) (فصلت:26). جاء في أضواء البيان: "فترى بعضهم ينهى بعضا عن سماعه، ويأمرهم باللغو فيه، كالصياح والتصفيق المانع من السماع لكراهتهم للحق، ومحاولتهم أن يغلبوا الحق بالباطل" [4] .

ومن ذلك أيضا محاولة محاكاة الأسلوب الدعوي، بأساليب تشويقية مماثلة، كما فعل النضر بن الحارث في محاكاته لقصص القرآن الكريم بقصص أخرى، ذكر ابن هشام في السيرة قال: "النضر بن الحارث بن علقمة، كان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا فدعا فيه إلى الله تعالى وتلا فيه القرآن وحذر فيه قريشا ما أصاب الأمم الخالية، خلفه في مجلسه إذا قام، فحدثهم عن رستم السنديد، وعن أسفنديار، وملوك فارس، ثم يقول: والله ما محمد بأحسن حديثا مني، وما حديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها، فأنزل الله فيه: ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا * قل أنزله الذي [ ص: 147 ] يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما ) (الفرقان:5-6)، ونزل فيه ( إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ) (القلم:15).

قال ابن إسحاق: وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما - فيما بلغني - مع الوليد ابن المغيرة في المسجـد فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم في المجلس، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر ابن الحارث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ثم تلا عليه وعليهم: ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون ) (الأنبياء:98-99)" [5] .

وعلى كل حال نحن أمام طرائق أسلوبية دعوية، هي الدعاية والإعلام، ومن أساليبها المستخلصة طريقة الإثارة، كالنداء في قريش (وا صباحاه) ومنها التشويق كالولائم، ومنها العقدة والحل كقصة الغلام التي تضمنت عقدة استعصائه عن الموت ولفت الأنظار إلى هـذه النادرة، ومن ثم مجيء الحل عند اجتمـاع الناس لمشـاهدة موته بواسطـة تعريف الناس بربـهم، كما تحكي القصة.

كان ذلك هو الممكن المتاح فيما مضى في أساليب الدعاية والإعلام، واليوم أصبح الإعلام ثروة وثورة هائلة، وتوسع دوره توسعا هائلا، وأدرك [ ص: 148 ] الساسة، وصناع القرار، وأصحاب الأفكار والنظريات، أهمية هذه الوسيلة، وسموها السلطة الرابعة، ومنهم من يعدل هذا التصنيف ويجعله السلطة الأولى، وبالدعايات التضليلية، والإعلام الموجه يمكن إعادة صياغة أذهان الناس، والتحكم كثيرا في اتجاهاتهم، والتأثير على آرائهم ومواقفهم، وهو ما تفعله الدول المهيمنة اليوم وتركز عليه.

أما الفضائيات فقد صارت جزءا من حياة الناس، تغزو البيوت.. وتقتحم على الناس خلواتهم، وتحتل نقاط الفراغ من مساحات أفكارهم .. وكل أمة تريد أن تغزو الآخرين بثقافتها الخاصة، وما أكثر ما يستأثر الإعلام اليوم بأوقات الناس طوال الليل والنهار، ومعظمه مكر ودعوة للمسخ والانحراف، كما يقول الله تعالى: ( .. بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا .. ) (سبأ:33)، ولا يواجه هذا المكر المتصل بغير منهج النبوة في الدعوة كما رأينا، وما لم تكن أمتنا محصنة بخطوط دفاع دعوية ومشاريع هوية، تعرضت للاندثار.

ولكن لا يغني مجرد الظهور، فالإعلام اليوم له أساليبه وطرائقه وقد جدنا بعضها في منهج الأنبياء، وظروف العصر وتعقيداته تقتضي البحث عن المزيد. [ ص: 149 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية