الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
6- الإسهام في معالجة هموم الناس اليومية:

إن دعوة الإسلام لا تقف عند حد عرض موقف الإسلام من الدنيا وعمارتها، وجعل ذلك واجبا دينيا فلا رهبانية في الإسلام، بل الأمر يتجاوز ذلك إلى الإسهام في معالجة هموم الناس اليومية، وقد كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم مليئة بمعايشة هموم الآخرين ومن بعده الخلفاء الراشدون، ومن صفات الداعية الناجح أنه يبحث عن دوره المجتمعي الذي ينتظره الناس، فرب قيراط عمل خير من قنطار كلام، ورب صنيعة من صنائع المعروف أبلغ في الموعظة من خطب قس [ ص: 123 ] ابن ساعدة؛ وجمال الإسلام ليس فقط في تقديم مواعظ الزهد التي تعني عدم التهالك على الدنيا، ولكن أيضا في حسن إدارة الدنيا بالأمانة والعدل وإشاعة مبدأ التكافل والإيثار بين النـاس، وبعض الناس قد لا يتفهـم جماليات الدين إلا من خلال العطاء المادي المباشر ولو علم الداعية لوجد أن من الناس من يجر إلى الله بعقله، ومنهم من يجر إلى الله بقلبه، ومنهم من يجر إلى الله ببطنه، وهم أولئك الذين ينظرون إلى ما يخرج من يد الداعية أكثر مما ينظرون إلى ما يخرج من لسانه، وقد اعترف الإسـلام بـهذه الشريحة وسماهم المؤلفة قلوبهم، وإن لم يتأت التأليف بالعطاء المادي المباشر، فلا أقل من السعي للإسهام بتأمين حاجات الناس من غير طريق، والقرآن الكريـم يحدثنا عن أدوار حياتية قام بها بعض الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، منها (الناقة) معجزة نبي الله صالح "كانت الناقة لها شرب، فيوم تشرب فيه الماء تمر بين جبلين فيرجمونها.. ثم تأتي فتقف لهم حتى يحلبوا اللبن فيرويهم، فكانت تصب اللبن صبا، ويوم يشربون الماء لا تأتيهم" [1] ؛ ( قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ) (الشعراء:155). وهذا الشرب من اللبن الوافر إلى جانب كونه مدخلا دعويا صالحا، هو دليل على عناية الدين بالناس وأنه لا يغفل معايش الناس ولا يهمل نظرتهم للدنيا ومتطلباتها.

وإذا كان الطب معجزة عيسى، عليه السلام، قد جاء موافقا لنوع التطور السائد، كما سبق، فقد جاءت كذلك من نوع المنافع الحياتية المتصلة بحاجات [ ص: 124 ] الناس، فكان يبرئ الأكمه، والأبرص، ويحي الموتى في واحدة من أهم الخدمات الإنسانية الملحة.

ونتعلم من قصة الخضر، عليه السلام، مساعدة المساكين أصحاب السفينة بإفسادها، لكي لا يأخذها منهم الملك غصبا، وإقامة الجدار ليخفي كنـز اليتيمين في المدينة، تلك المدينة التي أبت أن تضيف الخضر وموسى، عليهما السلام، ولم يمنع ذلك أن يقوما بواجب النفع للآخرين؛ ونتعلم من قصة ذي القرنين إقامة السدين مجانا لحماية القوم الذين نالهم الأذى من يأجوج ومأجوج؛ ونتعلم من قصة يوسف أنه طلب إدارة دفة الاقتصاد من أجل مساعدة المصريين في اجتياز مجاعة محققة وذلك بقيامه بتدبير شؤون الدولة في سني الخصب والقحط.

ومن العجيب أن نجد الإسلام يتجاوب حتى مع ما يمكن عده من الطلبات الترفيهية، فهاهم بني إسرائيل يسألون موسى البقل، والقثاء، والثوم، والبصل، كأنما الدعوة ملزمة بتوفير مستلزمات المطبخ أيضا: ( وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم .. ) (البقرة:61)، قال ابن جرير: "اهبطوا مصرا من الأمصار، فإن لكم ما سألتم فلما خرجوا من التيه رفع المن والسلوى وأكلوا البقول" [2] . لقد تم تلبيتها كأمر [ ص: 125 ] من الأمور الطبيعية، وإنما عيب عليهم استبدال الذي هو أدنى من بقلها وقثائها، بالذي هو خير (المن والسلوى) وهو ما يعني أن الإسلام دين متفاعل مع حاجات الناس، فالدعوة مثلما هي رابط فكري وعقدي بين الخالق والمخلوق، هي أيضا ملتمس رزق، وتأمين مصالح، وجلب منافع، ومقتضاه أن يكون التعبير عن الهموم المعيشية للناس حاضرا أيضا في خطاب الداعية، وجزءا من مهام رسالته، وقد جعل الله الرزق محل اعتبار، ومجال إغراء وترغيب، عندما ربطه بالتقوى فقال: ( .. ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا ) (الطلاق:2-3)، وربطه بالعبادة: ( فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) (قريش:3-4).

فكانت المصلحة وحديثها بابا صالحا لمخاطبة عقول الناس، وتعزيز الدافعية لديهم، وليس الناس كلهم على نمط واحد في التفكير، فمن الناس من يجذبه حديث المكاسب وجني الأرباح ولا يهمل الدين هذه الخاصية، فإذا كان من الناس من يعبد الله حبا فيه، أو طاعة لأوامره، أو خوفا من ناره، فإن منهم من يعبده طمعا في عاجل رزقه وآجل نعيمه، ولا تعارض بين نص المصلحة ومصلحة النص، ولا ريب أن لهذا لغته في الخطاب كما للآخر.

إن مقومات الاستجابة لاسيما عند رقيقي الإيمان لا تقوم على مجرد الإذعان القهري، ولكن أيضا على باعث المصلحة الظاهرة التي هي غريزة في النفس، وهذا يقتضي التفريق في الطرح ومخاطبة النفوس حسب ميولها وتقييمها للأمور، وإن أخذ بالناس بمعيار واحد ونهج واحد خلل كبير وقصور لا ينبغي [ ص: 126 ] في حق الداعية سائس النفوس، وصائد القلوب إلى الخير، ويشمل ذلك حديث المصالح المجتمعية بما يقتضي التزام الدين منهجا وسلوكا من تحقيق الأمن والمساواة، وتحقيق الرفاه ورغد العيش، وإشاعة المحبة، والتكافل بين الناس.

التالي السابق


الخدمات العلمية