الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
رابعا: تحاشي لغة التعميم في النقد:

وفي نفس السياق تصادفنا الكثير من النصوص القرآنية التي تشير إلى عدل الإسلام، ودقته في وصف سلوك الطرف الآخر، فيندر أن تجد صيغ العموم في مواجهة أمة بأكملها مثل (كل، جميع) وأشباهها، بل ما نجده صيغا مرنة تفيد النسبية والتبعيض، مثل (ومنهم من) وقد تكررت هذه (24 مرة)، أما كلمة (منهم) فقد وردت (176) مرة، (وكثير منهم) تكررت (5 مرات)، وسيتضاعف [ ص: 80 ] العدد مئـات المرات لو بحثنا عن (من) التي للتبعيض، إنها قاعدة قرآنية: ( ليسوا سواء ) ، يقول تعالى: ( ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ) (آل عمران :113)، ( وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق .. ) (التوبة:101)، ( ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به .. ) (المائدة من: 14)، ( .. منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ) (المائدة من:66)، ( وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ) (الأعراف:102).

ومحل الشاهد أن (كل) (جميع) وما في حكمهما ليس أسلوبا دعويا في الأحكام، واللغة النسبية تخرج الداعية من كثير من المآزق، ولا يلتقي الناس بالمطلق على قاعدة من الإجماع، حتى على مستوى أصحاب الديانة الباطلة، ( ليسوا سواء ، ) إنها حقيقة خالدة، فبالرغم من جامع الكفر إلا أن منهم شديد العداوة لله ورسوله، ومنهم الأقرب مودة إلى المسلمين ويمكن التعامل معهم والإفادة منهم، ومنهم من تنقصه المعرفة بالطرف المقابل.

وصحيح أن أي صفة حميدة أو عمل صالح لا يدخل من بوابة الإسلام ليس شيئا في ميزان الدين: ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) (الفرقان:23)، ولا يترتب عليه دخول الجنة، إلا أن الصحيح أيضا أن الكفار يختلفون قربا وبعدا من مراتب الشر، وأن النار من أجل ذلك جاءت [ ص: 81 ] دركات، مثلما جاءت الجنة درجات، وتلك سنة الله في خلقه: ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) (هود:118-119).

وصفة الكفر لا تحول دون إقامة ميزان العدالة مع الكافر، أو مع أمة تميزت ببعض مكارم الأخلاق، وإذا صح أن نقول: ليس بعـد الكفر ذنب، فلا يصح أن نقول: ليس مع الكافر فضيلة، فقد يكون هذا كافرا وهذا كافرا ولكن هذا غير هذا في القيم الإنسانية المشتركة، مثل العدالة، والإنصاف، والوفاء، والصدق، والالتزام، بل إن بعض المجتمعات الغربية في المعاملات اليومية تتفوق على بعض مجتمعات المسلمين رغم ما يمتلكه المسلمون من رصيد ديني في مكارم الأخلاق ليس له نظير، من هنا لا يجب أن يستنكف الداعية من وصف الكافر بما فيه من الصفات وتعزيزها بالثناء، وعلى أساس هذه المشتركات الإنسانية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يهاجروا إلى الحبشة فرارا بدينهم، أمرهـم بالفرار من دار كفر إلى دار كفر، ولو لم يكن ثمـة فرق بين مجتمـع كافر وآخـر ما أمرهم بذلك.. بل قال: ( إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعـل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه" [1] ؛ وإن في الجاهلية لأخيار: "...فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا ) [2] . [ ص: 82 ]

والحديث في هذا يسري على المؤمنين والكافرين، أي النسبية وتوخي العدالة في الأحكام، فالله تعالى ذكر في محكم كتابه أن من عباده الذين اصطفى الضعيف، والقوي، والسابق بالخيرات، فقال: ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير ) (فاطر:32)، وعلى لسان الجن: ( وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون .. ) (الجن:14).

هذه هي منهجية القرآن الكريم قائمة على الإنصاف ومبدأ النسبية، وهي المنهجية التي أدارت لها بعض الجماعات الدينية ظهرها، فكل جماعة ترفع سيف الأحكام المطلقة وتشتغل بإحصاء خطايا ومثالب الجماعة الأخرى، وأوشك الفرز الفئوي أن يوقف الناس على لونين لا ثالث لهما، إما أبيض وإما أسود، إما محض خير، أو محض شر، إما ملـك يمشي على الأرض، أو شيطان نبت من تحت الأرض، وصار الانتسـاب إلى الجمـاعة، أو الطائفة هو الذي يمنح أو يمنع الفرد صفة الصلاح والتقوى، حتى ليكفي الفرد جملة من المظاهر الشكلية ليأخذ طابع الانتماء إلى إحدى الجماعات، ويعنون نفسه على أساسها، فيحصل على درجة الملائكية، وشهادة الائتمان على سلامة الإيمان، وهذا السلوك العصبوي القائم على تزكية النفس وإلغاء الآخر، الذي لا يلتزم بالقيم العلمية الضابطة للتعامل مع الآخر، سلوك شائع بين الكثير من التكوينات الفكرية والسياسية: "إن كل الأفراد سواء المتعصبون منهم أو غير المتعصبين يدعمون اتجاهاتهم ومعتقداتهم ويبررون سلوكهم بنمط معقد من [ ص: 83 ] الشعارات التي تجعل من الصعب أحيانا إزاحة هذه الاتجاهات والمعتقدات، فالحاجة إلى الحفاظ على معتقداتهم تصبح في الغالب جزءا متكاملا من بناء شخصياتهم، وهذا يؤثر في إدراكهم وحكمهم على الأمور، فإدراكهم إدراك منتقى؛ ذلك لأنهم يدركون ما يؤيد معتقداتهم وحسب، فالمتعصبون يشعرون بأن العالم من حولهم مؤهل بجماعات بغيضة، فهم يحرفون المواقف ويسيئون فهمها، وهذا يزودهم ببدائل زائفة، لكن بالنسبة إليهم تصبح دلائل مقنعة"

[3] .

وفي واقع الجماعات الإسلامية ساد الشعور بامتلاك الحقيقة، وكل جماعة تقريبا ترى رأيها حقا لا يحتمل الخطأ، ورأي غيرها خطأ لا يحتمل الصواب، وعشعشت في الأذهان فكرة الفرقة الناجية، وأصبحت الدعوة إلى الدين الحق مسؤولية تشرفت بحملها هذه الجماعة من دون الناس، إذ كيف يدعو إلى الحق من كان على باطل، يقول الدكتور طه جابر العلواني: "إن فكرة البديل وأحادية العرض قد شاعت في العمل الإسلامي؛ إذ أصبحت كل فئة تدعي أن غيرها أخطأ وجانب الصواب وضل عن الهدف، وأنها وحدها التي سوف تنقذ الأمة، وتعيد ما انتقض من عراها، وأنها وحدها جماعة المسلمين، أو الجماعة التي على حق. وقد أوجد هذا حالة من الفرقة والخلاف -بل والصراع- بين مختلف الفئات؛ إذ نجد أن كثيرا من الحركات الإصلاحية أخذت تؤصل لفكرة كونها البديل عن سائر الحركات في أدبياتها وخطابها، وأطروحات قادتها. [ ص: 84 ]

ومظاهر الفرقة والتناحر والصراع التي نشهدها على الساحة الإسلامية بين فصائل الحركة ذاتها، وبينها وبين فصائل الأمة الأخرى، تنذر بأوخم العواقب للحركة الإسلامية، بل وعلى مستوى الأمة كلها. وهذه الأحادية، واعتبار كل فريق نفسه البديل عن كل ما عداه، والناطق الرسمي باسم الله، جعل سائر الفئات تتصارع وتبدد جهودها في نزاعاتها، وتضيع أهداف الأمة العليا على مذابح النـزاعات والفتن الداخلية. وقد ساعد على ذلك تلك التوجيهات التي جعلت الولاء للحركة وقيادتها تعبيرا عن الولاء للإسلام، وتحولت التكتلات من وسائل إلى هدف، وصارت التنظيمات الحركية هي الهدف الأساسي" [4] .

التالي السابق


الخدمات العلمية