الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
2- مراعاة المخاطب في اختيار مفردات اللين:

وردت أحاديث صحيحة جليلة تبين فضل الرفق، وجلال قدر صاحبه عند الله عز وجل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يحب الرفق في الأمر كله ) [1] ؛ ( حرم على النار: كل هين لين سهل قريب من الناس ) [2] ؛ ( من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من [ ص: 37 ] الخير ) [3] ، ( ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء ) [4] ؛ ( إن الله تبارك وتعالى رفيق يحب الرفق، ويرضى به، ويعين عليه، ما لا يعين على العنف ) [5] ؛ وفي رواية له قال لأمنا عائشة، رضي الله عنها: ( إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه ) [6] ؛ وقال: ( يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا ) [7] .

وإلى جانب اللغة اللينة والطبع اللين، نجد مفردات أخرى في المعجم الدعوي تنتمي إلى الحقل الدلالي السابق، ولكن من زاوية لا يخفى معنى الجمال فيها: ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم ... ) (العنكبوت:46).

وفي آية الإسراء يقول الله تعالى: ( وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ... ) (الإسراء:53 )، هاهنا حذف؛ وفي البلاغة الحذف أقوى من الذكر، وضرب في التوسع، فقولك: (فلان يأمر وينهى) أقوى من قولك (فلان يأمر الخدم وينهى العمال) مثلا، ففي الذكر يقع التحديد على معين، ومثله قول الله: ( فأما من أعطى واتقى ) (الليل:5) فلـو جـاءت بذكر محـدد في العطاء [ ص: 38 ] أو الخشية قلت دلالاتها بالحصر، أي أما من أعطى الدنانير ونحوه، فقوله (أحسن) بدون تعدي إلى مفعول تعني أحسن من جميع زوايا الأداء، فأفاد العموم ولم يخصص، ومن هنا تكررت عبارة (بالتي هي أحسن): ( ادفع بالتي هي أحسن ... ) (المؤمنون:96) ، ( ... ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) (فصلت:34)؛ ولو وردت الآية (ادفع السيئة بالسيئة) لم تكن قد تجاوزت ميزان العدل، ولو جاءت: ادفع السيئة بالحسنة لكان في هذا فضل، ولكنها قالت (ادفع بالتي هي أحسن) على صيغة المبالغة، أي ادفع بأحسن ما يكون الحلم والرفق.

يقول تعالى: ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ... ) (فصلت:34) ، ويقول: ( وجادلهم بالتي هي أحسن ... ) (النحل:125).

قال الدكتور يوسف القرضاوي: " ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن .. ) ، ( وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ) وهنا نجد تفرقة، في التعبير بين المطلوب في الموعظة والمطلوب في الجدال. ففي الموعظة اكتفى بأن تكون حسنة، أما في الجدال فلم يرض إلا أن يكون بالتي هي أحسن، بمعنى أنه إذا كان هناك أسلوبان أو طريقتان، إحداهما حسنة والأخرى أحسن منها وأفضل، فالمأمور به أن نتبع التي هي أحسن.

وسر ذلك: أن الموعظة ترجع عادة إلى الموافقين، الملتزمين بالمبدأ والفكرة، فهم لا يحتاجون إلا إلى موعظة تذكرهم، وترقق قلوبهم وتجلو صداهم، وتقوي [ ص: 39 ] عزائمهم، على حين يوجه الجدال - عادة- إلى المخالفين، الذين قد يدفع الخلاف معهم إلى شيء من القسوة في التعبير، أو الخشونة في التعامل، أو العنف في الجدل، فكان من الحكمة أن يطلب القرآن اتخاذ أحسن الطرائق وأمثلها للجدال أو الحوار، حتى يؤتى أكله.

ومن هذه الطرائق أو الأساليب: أن يختار المجادل أرق التعبيرات وألطفها في مخاطبة الطرف الآخر" [8] .

قال مجاهد في قوله تعالى: ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن .. ) (العنكبوت:46) قال: إن قالوا شرا، فقولوا خيرا، إلا الذين ظلموا منهم فانتصروا منهم، قيل ادعوا لهم وقدموا لهم الحجج" [9] .

أ- البعد الجمالي في كلمة (اللين) وما في معناها:

إن تلك الألفاظ ذات الحقل الدلالي الواحد الموصول بجامع الرفق: وهي (هين، لين، سهل - رفق - زانه) يتضح عذوبتها وخفتها على اللسان أكثر من خلال مقابلتها بالكلمات المضادة لها: (فظ - غليظ - شدة - فحش - عنف) كما وجدنا في النصوص المتضمنة لهذه الألفاظ.

ويظهر ما ينطوي عليه النوعان من بعد حسي، ففي النوع الأول نجد معنى السهولة واللين، كأي مادة طرية لينة يمكن بلعها وهضمها، وما كان سهلا لينا [ ص: 40 ] من الكلام أمكن تمثله وانسيابه إلى النفس رهوا هادئا، بعكس المعاني الثانية ذات البعد الحسي الخشـن والغـليظ، من الصعب هضمـه دون أن يخدش أو يجرح، كأي مادة جافة غير مستساغة.

إن الرفق يحـافظ على هـدوء النفس وحياديتها، ويتيح للمتلقي النظر فيما يعرض عليه بروية وتؤدة، بينما الشدة تقود إلى الانفعال، وهذا يعكر المزاج، ويعطل العقل ويقوي عامل الانتصار للذات؛ لأن العقل الباطن سيحلل الموقف على أنه اعتداء وإيذاء.

والمسلمة العقلية إذا جاءت بالعنف يمكن دفعها وردها بذات القدر من الشدة، وقد يكون من الصعب التقاط الحكمة إذا ألقيت كيفما اتفق، فالنفس البشرية حساسة وتحتاج إلى حكيم عليم بأمر تسييسها وتطويعها وسبر أغوارها، قد يقال لإنسان لا يعرف التعامل مع جهاز حساس: كن حذرا في التعامل مع هذا الجهاز لأنه حساس، وأي خطأ غير محسوب قد يتسبب في إتلافه، والنفس البشرية أكثر خطورة من أن توصف بجهاز حساس، ولكن لنقل إنها كجهاز حساس، أوليست تستوجب مراعاتها واختيار المناسب في التعامل معها؟ فكلمة واحدة قد تغـير اتجـاهها إلى الأبد، إما إلى الخير أو إلى الشر.. إن حسن الخلق هو أقرب الطرق وأوصلها إلى امتلاك أزمة القلوب وقيادتها.

ب- البعد الجمالي في كلمة (أحسن) ومشتقاتها:

لنأتي إلى الألفاظ ذات المصدر الاشتقاقي الواحد (حسنا، أحسن، حسنة).

كان القياس في المصدر المؤكد قولوا للناس قولا حسنا، والحسن من الجمال، ولا يقال: قولوا جمالا بل قولوا كلاما جميلا، إن هناك سرا موصولا بين الجمال والحسن في الآية. [ ص: 41 ]

قال ابن منظور: "حسن، الـحسن: ضد القبح ونقـيضه.. وفي القاموس المحيط الحسن، بالضم: الجمال، ج: محاسن" [10] . وقد تم اختيار هذه المعاني في هذا التوجيه القرآني، لما فيهما من تراسل بين المجرد والمدرك، ففي الكلام الحسن قوة تأثيرية مباشرة على الحالة العصبية، والنفسية، والانفعالية، وقد سبق الحديث "إن من البيان لسحرا"، فقد يكون في التعبير من حسن الاختيار، وجمال الأسلوب، وحسن التلطف، ما يمكن لمسه بالإدراك الذوقي المباشر، وهو ما يفسر طرب المستمعين أحيانا من عبارة تلقى أو شعر ينشد، هذا من ناحية.

ومن ناحية ثانية، أن الجامع بين جمال الأشكال وجمال الأخلاق هو ميل النفس إليهما، وأي سلوك تتعلق به معاني الحب والرفق فهو جميل؛ لأنه يقوم على مبدأ التضحية بحق النفس في سبيل الآخر، كالصفح سماه الله جميلا: ( فاصفح الصفح الجميل ) (الحجر:85)؛ والصبر: ( فاصبر صبرا جميلا ) (المعارج:5)؛ والهجر بالقلب مع حسن المحافظة وترك المجازاة على السيئـة، كما قال المفسرون: ( واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ) (المزمل:10).

وفي الحديث التالي جمع لما قلنا:

قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تعالى جميل يحب الجمال، ويحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها ) [11] . [ ص: 42 ]

وهكذا نجد أن للإسلام توجيهاته في اختيار نوع الكلمة في الدعوة إلى الله في مختلف ظروفها حتى مع أشد الخلق كفرا بالله، الذي كفر بالله وأضاف إلى ذلك ادعاء الألوهية، وهو فرعون، قال تعالى: ( فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ) (طه:44) ، ذلك أنه عندما يلقى الخبر ابتداء فحقه أن يلقى باللين، وهذه هي القاعدة التي يجب أن يبنى عليها، وفي مختلف ظروف النشاط اللغوي، حتى عندما يكون بين متخاصمين خصومة شخصية، فلا مقتضى لاستعمال الشدة لأول وهلة، أما في مواطن الدعوة فلا مقتـضى لاستـعمال غير اللين إذ الباعث هو حب الخير للناس، وتوجيه سلوكهم نحو الاتجاه الذي لا ينتهي بهم إلى زاوية من جهنم، وهذه الغاية لن تكون مفهومة إذا كان الداعية يحملهم على الإذعان بالزجر وسوقهم سوق العصا، فطريقة كهذه لابد أن تفسر بوجود مصلحة شخصية ما، قد تكون التعصب الفكري، أو الرغبة في التحكم وإملاء الرأي، رغم أن افتقاد الأسلوب قد يكون هو أساس القصة في غالب الأحيان، من هنا فلين الكلام هو باقة تهدى من مخزون الذوق الرفيع إلى إنسان يرجى له النفع، وفي هذا من الجماليات ما ترتاح له النفس، ويسمح بانسياب الكلام هادئا مستساغا، ويتيح جوا ملائما من التفكير المتزن، وحسن الإنصات، قال تعالى: ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ) (آل عمران: 159).

وقـد قيـل في القـول المعـروف فـي الآية: ( قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم ) (البقرة:263) [ ص: 43 ] ما خلاصته [12] : إنه القول الذي يطيب الخواطر وتأنس إليه النفس، كأنما هو الأصل الذي يجب أن يبنى عليه طيب الكلام، وهو معروف لأنه مستودع الفطرة السليمة، الذي وجد معها، فإذا خوطب الإنسان بهذا القول اتصل بالفطرة نقيا كما هي نقية، وحدث الانسجام والألفة، واستقرت له النفس وطابت خواطرها؛ وعكسه الكلام الوحشي النابي غير المعروف، فهذا يسبب النفور والاضطراب؛ لأنه غير مألوف صادم للفطرة، ويسبب الحزن لأنه يخدش ويجرح، ولذلك كان القول المعروف خيرا من الصدقة التي يتبعها أذى، فهي مع ما فيها من نفع إلا أن ضررها النفسي أشد على الفقير المحتاج، وهذا يدل على أهمية حسن الكلام في كل الأحوال.

التالي السابق


الخدمات العلمية