الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
سادسا: أساليب الرد على إساءات الجاهلين:

يقص علينا القرآن الكريم أخبار الأنبياء والمرسلين وما لا قوه من صنوف الإيذاء المعنوي والنفسي من أقوامهم، وقد يتعرضون للإيذاء الجسدي أيضا، ورماهم الناس بعبارات السخرية والاستهزاء مثل هذه المفردات التي وردت في القرآن: (ساحر)، (شاعر)، (كاهن)، (مفتر)، (مجنون)، (مهين)، (كذاب أشر)، (في ضلالة)، (في سفاهة)، والشيء نفسه مع أتباع الأنبياء مثل وصف الكفار لهم بأنهم: (ضالون)، (سفهاء)، (شرذمة)، (غاوين)، (كاذبين)، (أراذلنا)، (الأرذلون)...

ولقد تعرض النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشتم ورجمه أهل الطائف حتى سال الدم من قدمه الشريف، ووضع أبو جهل السلى على عاتقه الشريف وهو يصلي، وبصق عقبة بن المعيط في وجهه، وكان رد النبي صلى الله عليه وسلم هو الدعاء المأثور: ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) ، لم يكن في رد الأنبياء على تلك الإساءات غير الأدب وعفة اللسان، وإظهار الشفقة على قومهم، وإذا تعدى ذلك لم يتجاوز حـدود الدفـاع عن النفـس، ونفي الشبهة، وتجنب الرد بالمثل: ( قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين * قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين ) (الأعراف:66-68)‏؛ ( قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين * قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين ) [ ص: 87 ] (الأعراف:60-61).

( قال يا قوم ) رغم توجيه الإساءة إليه لم يمنعه ذلك أن ينسبهم إليه، وفي هذا تذكير برابط الأخوة، ووشيجة القربى، مع أنهم لا يبادلونه نفس الشعور.. لقد منعه الأدب وحسن التخاطب من إلغاء هذا القرب القومي، وبقي رغم خشونة أسلوبهم على لهجته التصالحية ( يا قوم ) ، وقوله: ( ليس بي ضلالة ) قال الثعالبي: "مبالغة في حسن الأدب والإعراض عن الجفاء منهم وتناولهم برفق وسعة صدر حسب ما تقتضيه خلق النبوة" [1] .

قال الإمام الزمخشري: "في إجابة الأنبياء، عليهم السلام، من نسبهم إلى الضلال والسفاهة - بما أجابوهم من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء وترك المقابلة بما قالوا لهم، مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم - أدب حسن، وخلق عظيم، وحكاية الله عز وجل ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم، ويسبلون أذيالهم على ما يكون منهم" [2] .

وعندما وجهوا التهـم ضد أتباعه المؤمنين لم يقابل الإساءة صلى الله عليه وسلم بمثلها، ولم يتجاوز حدود الدفاع عن أتباعه بقوله: ( .. وما أنا بطارد الذين آمنوا [ ص: 88 ] إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون * ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون ) (هود:29-30)، وقد كان من السهل أن يرد النبي صلى الله عليه وسلم بعبارة استهجان على دعاوى هي محض افتراء، فكيف يصبح من هو طاهر السيرة نقي السريرة في ضلالة أو في سفاهة؟ وكان من السهل أن يسخر - وهم أهل لكل سخرية - من مطالب عدوانية تتضمن إلحاق الأذى بالمستضعفين، إذ يقيسون الحسن والقبح على القوالب دون القلوب، وعلى الأشكال دون الأفعال، وهذا دأب أكابر المجرمين من الناس، يناقشون ما هو عندنا في حكم الترف الفكري، فقد يبدو لنا، لنظرتنا القاصرة أن من ضياع الوقت محاولة إقناع نفوس مليئة بالعجرفة، مشبعة بروح الازدراء للآخر بعدالة قضيته، والأجدى نشر معايب كبرهم وغرورهم بدلا من ذلك، غير أن مبدأ التعامل بالمثل انسياق في غير الهدف الأساس الذي من أجله ينهض الدعاة والمصلحون؛ وأصحاب الدعوات الكبرى إذا أرادوا أن يصلوا إلى أهدافهم يحملون الإساءات على محامل شتى، فهم ينظرون إليها كعوائق في الطريق يجب تجاوزها، والانشغال بالحوادث العارضة، والتوقف عندها كفيل بتبديد الطاقات وإهدار الإمكانيات في غير ما سخرت له، مثلما أنها استجابة لرغبة الطرف الآخر في مجاراته والانحراف بصاحب الهدف عن هدفه المرسوم، فيمرون بمثل هذه العوائق العارضة مرور الكرام كما قال الله: ( .. وإذا مروا باللغو مروا كراما ) (الفرقان:72)، ( .. وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) (الفرقان:63)، ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه [ ص: 89 ] ولي حميم ) (فصلت:34)، وقال تعالى: ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) (الأعراف:199).

عن أسماء بنت أبي بكر، رضي الله تعالى عنهما، قالت: "لما نزلت ( تبت يدا أبي لهب ) أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول: مذمما أبينـا ودينـه قلينا.." [3] . هـذا الموقف العدائي العارض لم يصرف النبي صلى الله عليه وسلم عن الغاية التي كرس حياته من أجلها، بل ذهب إلى تحليل الشتيمة وصرفها عنه لتصبح غير ذات تأثير، فلا تكلفه الوقت ولا يحزن لها أصحابه، ففي الحـديث عن أبي هريرة، رضـي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا تعجبون كيف يصرف الله عنى لعن قريش وشتمهم؟! يشتمون مذمما ويلعنون مذمما وأنا محمد ) [4] .

فبدا النبي صلى الله عليه وسلم بهذه اللغة المتفائلة الفريدة كأنما هو الذي يوجه الأحداث العارضـة، ويتحـكم في مسـارها، ويمنحها الدلالات التي تخدم موقفه وليس العكس.

ومنه حـديث جابر، رضي الله عنه، قال: ( سلم ناس من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم (أي الموت عليكم) قال: وعليكم ) [5] .

وفي رواية عائشة، رضي الله عنها، قالت: ( استأذن رهط من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فقـالوا: السام عليـكم. فقلت: بل عليكم السـام واللعنة. فقال: [ ص: 90 ] "يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله". قالت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: قد قلت: وعليكم ) [6] .. كم من الناس تسعه عبارة كهذه التي صدرت من فم أقامه الله بميزان القسط والعدل؟ قليل من يفعل ذلك، فالنبي المعلم يرى في رده المتزن كفاية تغنيه عن مؤونة اللجاج، وجدلية الرد والرد المضاد، والغالب والمغلوب في معركة التلاسن التي تنشب بين الناس...

وتفسير تجنب الرد بالمثل من هؤلاء المصلحين هو أن أصحاب المشاريع الإنسانية النبيلة بعيدون عن التعامل بلغة الثأر؛ لأنهم مشاعل تحترق لتضيء للآخرين طريقها، علاوة على أن منطلق الدعوة قائم على أساس مدافعة جهل الناس بتقديم العلاج لهم، وجهلهم متوقع ابتداء، فكيف يضيق صاحب الرسالة الدعوية ذرعا بشيء معلوم بالبديهة، وإن الصبر والمدافعة بالتي هي أحسن علامة إخلاص رجل الدعوة إلى الله، ودليل مثاليته، ولهـذا تأثيره في الدعوة، قال الله: ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم * وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ) (فصلت:34-36)، فهذه ثلاث آيات ليس لهن رابعة في معناها، لقد اشتملت على الأمر بالرفق، والترغيب فيه، والتوجيه للتغلب على الشيطان الذي يوقع العداوة بين الناس، وكلها حاثة على مصانعة العدو والإحسان إليه، ليرده عنه طبعه الطيب الأصل إلى المودة والمصافاة. [ ص: 91 ]

أخرج ابن أبـي حاتم، وأبو نعيم في "الحلية" عن أنس، رضي الله عنه، أنه قال في الآية: "يقول الرجل لأخيه ما ليس فيه فيقول: إن كنت كاذبا فأنا أسأل الله تعالى أن يغفر لك، وإن كنت صادقا فأنا أسأل الله تعالى أن يغفر لي" [7] .

إن بريق الإسلام لا يظهر إلا بحسن تمثيله وصدق تمثله، ولو كانت الآيات القرآنية كافية بذاتها لإحداث التغيير في النفوس لكان يكفي القرآن أن يصبح كتابا متداولا كأي كتاب، ولكنه احتاج إلى ثلاث وعشرين سنة من الترجمة العملية ليتحول إلى معاني حية، تمثـلت في مجمـل السيرة النبوية، وقد لخصت أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، ذلك عندما سئلت عن أخلاقه فقالت: "كان خلقه القرآن" [8] .

وإذا تحدثنا عن الداعية القدوة بين أصحابه فقد تنـزله الظروف منازل تمتحن فيها قدرته على تحمل الإساءات، فجدير به أن يتفهم طبيعة المهمة التي وضع نفسه فيها؛ وفي قصة (ذو الخويصرة) مع الرسول صلى الله عليه وسلم الكثير من الدروس المستفادة في هذا الجانب، فعن أبي سعيد الخدرى، رضي الله عنه، قال: ( بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسما أتاه ذو الخويصرة، وهو رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله، اعدل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ويلك، ومن يعدل إن لم أعدل، قـد خبـت وخسـرت إن لم أعدل". فقـال عمر [ ص: 92 ] ابن الخطاب، رضي الله عنه: يا رسول الله، ائذن لي فيه أضرب عنقه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "دعه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية... ) [9] .

ألقى هذا الأعرابي الحكم بالظلم المؤكد بـ"إن" في وجه من تمثلت فيه معاني القيم الإنسانية، تشهد على ذلك بسـاطة حياته ونقاء ثوبه، وهو الذي لو شاء أن يتخوض في الحقـوق لأقره العرف السـائد آنذاك، في أن يتصرف بما في يده غير ملام، فقد كان ثريا زاهدا ولم يكن فقيرا فاقدا، ولكنه عاش على الكفاف، ولو صنفنـا حياته، عليه السـلام، بالمقاييس المعاصرة لقلنا: إنها كانت تحت مستوى خط الفقر، وهو الذي تجبى إليه الأموال من أطراف الجزيرة، فما الذي حمل الأعرابي على نفي صفة العدالة عنه؟ هل كان هذا الرجل رقيق الإيمان؟ أم حديث عهد بالكفر؟ يشير نص الحديث إلى أنه كان متدينا غاليا في التدين، ونبه الحديث إلى أن هذا الأسلوب أصبح يمثل ظاهرة يقودها هذا الرجل، وأن أبرز سمات أصحابها كثرة التعبد وقراءة القرآن، وإذن فهو غرور الادعاء وتزكية النفس، جعلت هذا الرجل يعدل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إنها حالة مرضية يحس المصاب بها بمستوى من الكمال الذي يتجاوز حتى أفضل النماذج فينظر إلى جميع الناس بدونية، وما يقف حتى يمنح نفسه حق النظر في الموازين العادلة ليعيد تقييمها بنفسه والحكم عليها، كأنما يجب أن تمر المفاهيم عن طريقه [ ص: 93 ] ليقول فيها كلمته، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاءت معه موازين العدالة السماوية يتلقى توجيها في العدالة من رجل أعرابي جلف فلم يزد الرسول صلى الله عليه وسلم أن قال: ( ويلك، ومن يعدل إن لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أعدل ) ثم تركه وشأنه.

ولهذه الحادثة مثيلاتها في سياق السيرة النبوية، وقد مثلت اختبارات انضباطية قاسية خرج النبي صلى الله عليه وسلم منها بأفضل النجاحات، كأنما كنا بحاجة إليها لنتعلم كيف يمكن مواجهة اللغة الحكمية الصدامية، التي تفتقر إلى مهارات التواصل مع (الآخر)، واليوم نعايش هذه الحالة المرضية وقد برزت كظاهرة أكثر من أي وقت مضى، شباب أغرار أخذوا ببعض أطراف النصوص، وقرأوا القرآن من دون فهم معانيه، وغالبا ما يخرج هؤلاء من محاضن خالية من منابع العلم، كثيرا ما تكون بيئات يغلب عليها الجهل والطيش، فينسحب التعصب الأعمى للقبيلة التي تقاتل على الشيء التافه، إلى التعصب للأفكار التي أخذوها بطرق ارتجالية، لم تتعمق في الدين وتأخذ بجميع أطرافه، ولا يبعد أن تجد أحدهم يختصر المسافات وبطريقة كيف تقيم الخلافة في خمسة أيام فيتوب يوم السبت، ويصلي يوم الأحد، ويتعلم العلم يوم الاثنين، ويفتي يوم الثلاثاء، ويكفر المسلمين يوم الأربعاء، ويقاتلهم يوم الخميس، ويريد أن يقيم الخلافة يوم الجمعة.. فتراهم يستعجلون الخلافة وهم يعملون بخلاف ذلك، ومع ذلك يظنون أنهم أول من اكتشف الدين وفهم حدوده، ولا قيمة لأقوال العلماء المجتهدين عندهم، فجعلوا من أنفسهم المخلصـين ومبعوثي العناية الإلهية، فهم [ ص: 94 ] من سيعيدون صياغة الكون من جديد؛ لأن الناس في نظرهم في جاهلية، فالتكفير من أمامهم والنار من ورائهم، والجنة والنار حقوق محفوظة لهؤلاء الأغرار؛ كل الناس هلكى إلا هم، فهم الفرقة الناجية!

التالي السابق


الخدمات العلمية