الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
5- استعمال أسلوب توجيه الأسئلة:

تتطلب الحاجة إلى تلوين الأساليب في الخطاب الدعوي الذي يأتي من ضمنه الانتقال من الخبر إلى الإنشاء، من إلقاء الأفكار وسرد الحقائق إلى إثارة الفكر بإلقاء الأسئلة، ومساعدة الآخر في إدارة عجلة فكره، فتشعره بالأهمية من ناحية وتخلصه من ربقة التقليد غير الواعي من ناحية أخرى.

والأسئلة الدعوية القصيرة والموجزة تشبه فن الرسم، الذي يختزل الأفكار في صورة واحدة معبرة فتغني عن الكتب والمجلدات.

وطرح السؤال كأسلوب دعوي لا يخلو معه أن يكون المخاطب عالما بالجواب أو جاهلا له، فإن كان جاهلا له فقد كشف للطرفين واقع العجز [ ص: 168 ] والإفلاس لدى المخاطب، وأنه بحاجة إلى أن يسمـع لغيره وإلى ترك الجدال فيما ليس له به علم.

وإن كان عالما به فإن لذلك فوائد أيضا منها:

- أن السؤال يعطي المخالفين فرصة للعصف الذهني، والمرور بتجربة فكرية يستنطق بها عقولهم، ويعطيهم المجال لتقييم واقعهم بأنفسهم، وعندما يبحثون عن الإجابة سيكتشفون كم هي ضعيفة تلك الأرضية العقدية التي يقفون عليها؛ لأنها لا تملك الإجابات الكافية التي تستوجب احترامها، وبعد إسناد الدور إليهم في تقييم الوضع يأتي تعزيز الداعية أو المصلح لما يفترض أن يكون قد هز من ثقتهم بمعتقداتهم، فيكمل هو ما بقي من أدلة البطلان على ضلالهم، كما نجد في هذا النموذج القرآني: ( إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون * قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين * قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون ) (الشعراء:70-73).

إن في هذا الأسلوب إلى جانب ما ذكر إنصافا لهم، حيث أصبحوا معه فاعلين في تحديد ما هو حق لا مجرد متفاعلين، وملقين لا مجرد متلقين، إذ كان ممكنا أن يتولى النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه تقديم التوصيف، وسرد الحيثيات، وإلقاء الأحكام بنفسه، ويختصر المسافة، غير أن ذلك سيكون شأنا خاصا به، لأنه تقييم من طرف واحد، لم يكن لعقولهم فيه دور، ولا بالمقدمات التي قادته إلى النتائج، أو حتى بالوحي الذي خص به من دونهم وإن بدا على حق.. إنها جبلة النفس التي تأبى أسـلوب الإلغاء والإقصـاء، والتخلي عن دوره للآخرين، وإنما تتجاوب عندما يتوفر واقع الاعتراف بها، وهذا من حيث المبدأ. [ ص: 169 ]

- إتاحة الفرصة للمتلقي للوصول إلى النتيجة باختياره سوف يقلل من فرص العودة إلى المعاندة والتكذيب؛ لأن ذلك سيعني تكذيبه لما توصل إليه تفكيره الحر، بينما سيـكون في حل من تكذيب أي رسالة تم تقديمها له جـاهزة، والعيب عندئذ سيكون فيمن قام بالتجربة بنفسـه ودون النتائج وقدمها للآخرين.

- توجيه السؤال بطريقة مهذبة سيشعر الطرف المتلقي بالأهمية، وأنه من الأهلية بحيث يعرف بنفسه مواضع الخير من الشر، وأنه يخاطب كإنسان راشد لا يحتاج إلى وصاية أو من يفكر له ويحدد خياراته.

- توجيه السؤال يشعر المخاطب أنه في حالة أمان من أي تدليس أو غش يمارس عليه، ومن أنه بات مسوقا إلى مجاهيل ليس له بها سابق علم ولا معرفة، وسيزول من الرسالة صفة (الملقي) كمسوق لأفكاره، وستصبح شأنا إنسانيا عاما سيدها العقل وميزانها الفطرة السليمة.

- المتوقع في الغالب أن لا يجيب المجيب عن السؤال إلا بما يراه حقا؛ لأنه سيكون معبرا عن سلامة تفكيره، حريصا على أمانته العلمية، وعن مصداقيته أمام الآخرين، وهكذا لم يكن أمام كفار مكة من بد سوى الإجابة عن السؤال بالإقرار عند سؤال الله لهم: ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله .. ) (الزمر:38)، ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله .. ) (الزخرف:87)، ( ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله .. ) (العنكبوت:63). [ ص: 170 ]

- طريقة توجيه السؤال:

من الطرائق التي تساعد على فهم مضمون الرسالة توجيه الأسئلة المباشرة، وقد جاءت الكثير من الأسئلة كأسلوب تبليغي في القرآن الكريم، سـواء منه ما دل على أصل معناه، ومنه ما جاء بطريق التوبيخ والتهكم والتهديد أو نحو ذلك، وما جاء على أصل معناه يكون المراد به طلب الفهم، ومعرفة المجهول.

إن إلقاء الرسـالة عن طريق السـؤال أوفق في بعض مقامات الدعوة من أن تأتي مقررات جاهزة وأوامر نهائية معلبة، ولنا أن نوضح ذلك على النحو التالي:

- خروج السؤال عن أصل معناه:

وقد يخرج الاستفهام عن أصل وضعه لمعان أخرى، تفهم من سياق الكلام ومما جاء في سياق الدعوة إلى الله ما يلي:

- الإنكار: ومعنى الاستفهام حينئذ معنى النفي وما بعده منفى، ولذلك تصحبه إلا، ويعطف عليه المنفي، ويكون معناه في الماضي معنى لم يكن، وفي المستقبل معنى لا يكون، ذلك قوله تعالى: ( .. أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ) (هود:28)، ( أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا .. ) (الإسراء:40) فيه إنكار الموقف، وإنكار الموقف تخطيء له وتسجيل موقف اعتراضي عليه، وهذا يؤدي إلى معاودة التفكير في صحته [1] . [ ص: 171 ]

- التوبيخ: ويكون على فعل وقع، وكان الأولى ألا يقع، أو على ترك فعل ما كان ينبغي ألا يقع، ومن ذلك قوله تعالى: ( أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين ) (الصافات:125)، ففيه تحقير للعقول، وتحقير للشيء الموبخ فيه، وهذا ينـزل من قيمته ويجعله محل نقد ومراجعة.

- التعجب: كما في قوله تعالى: ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون ) (البقرة:28)، قريب مما سبق.

- التهديد والوعيد: كقوله: ( ألم نهلك الأولين ) (المرسلات:16)، وفيه وضـع الإنسان في مواجهـة مع حقائق الأمور، وتذكره بضعف قوته وقلة حيلته، وتلفت انتباهه إلى أن متعة اللحظة لا يجب أن تنسي صيرورة الأمور وتقلباتها.

- التشويق والترغيب: كما في قوله سبحانه: ( هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ) (الصف:10)، فيه مراعاة لما في الإنسان من غريزة حب المصلحة، وأن الدين مؤداه تحقيق ما يصبو إليه الإنسان من مكاسب نفعية والتي منها الفوز بنعيم الدنيا والآخرة، وأنه لا يأخذ من الإنسان إلا لكي يعطيه أضعاف ما أخذ منه، كما تجد ذلك في موضعه من الكتاب الكريم.

- التحضيض في قوله: ( ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم ... ) (التوبة:13)، إثارة الدافعية لدى المخاطب بموقف استنهاضي، وتنبيه العقل إلى لازم من لزوم الاستجابة. [ ص: 172 ]

- الأمر: كما في قوله: ( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ) (المائدة:91).

والعدول عن المباشرة في توجيه الأمر وإيراده في صورة الاستفـهام فوق ما فيه من تعبير مؤدب فإنه يترك المخاطب بالخيار بين أن يفعل وألا يفعل، ومع أن النتيجة هو الطلب على وجه الإلزام إلا أن إشراك الإرادة الحرة هنا أمر بين وفيه إغراء بالعمل والحث عليه.

- التقرير: كقوله: ( أليس الله بأحكم الحاكمين ) (التين:8)، وهو حملك المخاطب على أمر قد استقر عنده، والاستفهام في التقرير للنفي فإذا دخل على النفي صار الكلام موجبا، ولذا يعطف عليه الموجب الصريح ويعطف هو على الموجب الصريح.

"ولعل السر في جمال أسلوب الاستفهام هنا والعدول إليه عن أسلوب النفي هو أن الاستفهام في أصل وضعه يتطلب جوابا يحتاج إلى تفكير، يقع به هذا الجواب في موضعه، ولما كان المسؤول يجيب بعد تفكير وروية عن هذه الأسئلة بالنفي كان توجيه السؤال إليه حملا له على الإقرار بهذا النفي وهو أفضل من النفي ابتداء"

[2] . [ ص: 173 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية