الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
3- مراعاة المخاطب في استبدال مفردات المنادى:

أ- أساليب النداء في القرآن الكريم:

النداء أسلوب إنشائي طلبي، يتضمن فتح خط التواصل بين طرفين لطلب أمر ما من المنادى، فبأي أسلوب يكون؟ إذا تتبعنا أسلوب النداء في القرآن الكريم الموجه إلى الناس وأهل الكتاب سنجد أن اختيار مفردة المنادى تنم عن أسلوب اتصالي إيجابي تصالحي؛ لأن المخاطب مدعو للاستجابة لمضمون الطلب فيجب أن يخلو من الجفاء والاستفزاز، وقد ذهب بعض المفسرين في تفسير قوله [ ص: 44 ] تعالى: ( فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ) (طه:44) أن المراد: خاطباه بأحب أسمائه. قال البغوي [1] : قال السدي وعكرمة: كنياه فقولا يا أبا العباس، وقيل: يا أبا الوليد، وقد جاءت أساليب النداء في القرآن الكريم من نحو: ( يا أيها الناس ) (21 مرة) ، ( يا بني آدم ) (5 مرات) ، و ( يا أهل الكتاب ) (12 مرة) ، و ( يا بني إسرائيل ) (6 مرات) ، وعلى لسان الأنبياء ( يا قوم ) (49مرة) ، وسنتناول الأسلوب الخير في حديثنا عن إضافة المخاطب إلى ضمير المتكلم، وهناك نداءات حكمية من مثل: ( يا أيها الذين آمنوا ) (89 مرة) ، ( ثم إنكم أيها الضالون المكذبون ) (الواقعة:51) ، ( يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون ) (التحريم:7) ، ( قل يا أيها الكافرون ) (الكافرون:1).

فالنداء الموجه للناس أو بني آدم يتضمن مفاتيح القلوب والأسماع لما يأتي من الإرشادات الدعوية؛ لأنه ورد بطريقة حيادية، مع أن القرآن الكريم يسجل حقيقة أن الغالبية العظمى من الناس كافرة بربها، صادة لدعوته، محاربة لدينه، وهو الذي قال: ( .. ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) (هود:17) ، ( .. ولكن أكثر الناس لا يشكرون ) (يوسف:38) ، ( .. فأبى أكثر الناس إلا كفورا ) (الإسراء:89 )، فلم تتضمن صفات حكمية، بل [ ص: 45 ] خاطبتهم بأصلهم الأول، إذ كيف ينتظر أن يلتفت المخاطب ويعير سمعه لمصدر النداء وهو يصفع بأحكام مسبقة، وعلام تكون الاستجابة إذا انتفى باعث الطـلب، فلـو جـاءت على نحـو: أيها الناس المجرمون اعملوا عقولكم، أيها السادرون في غيكم.. أيها المنحرفون الضالون.. أيها الجاحدون لأنعم الله... فمثل هذا النداء فيه إلغاء لحرية تفكيرهم ومصادرة حقهم في التأمل في فحوى الطلب، وأما الآيات الحكمية الثلاث فلها خصوصية المقام، كما سنرى.

ومجيء أسلوب النداء لليهود والنصارى بإضافتهم إلى الكتاب: ( يا أهل الكتاب ) فيه اعتراف بمكانتهم الدينية، وتذكير بأنهم أولى الناس بالاستجابة؛ لأنـهم على عـلم ودراية بصحـة دعوة الإسلام، وفيه إشارة إلى وحدة المصدر، فالذي أنزل التـوراة والإنجيـل هو الذي أنزل القرآن، وفي هذا ما فيه من ترغيب لسماع صوت الحق، مع ما في القرآن من توصيف غاية في الرداءة لموقف أهـل الكتاب من الإسـلام، وخاصة اليهود وسوء أدبهم مع خالقهم واضطهادهم لأنبيائهم، وربما كان سائغا في رأي قصيري النظر أن ينادى عليهم بـ (يا أهل الضـلالة.. يا أهل المكر واللؤم والخديعة.. يا عباد العجل..) وكثير من هذه الأوصـاف هي حقائق تاريخيه في الواقع، غير أن النداء بهذه الطريقة لا يتفق مع إرادة فتح التواصل معهم، فتوصيف واقعهم شيء، وظروف النداء شيء آخر لا يكون معه أحكام جاهزة، إذ كيف يقال: تعال أيها اللص لنتحاور إن كنت سارقا أم لا، فماذا بقي للحوار وقد صدر الحكم؟! [ ص: 46 ]

ثم إننا نجد المولى عز وجل في ندائه لأهل الكتاب ينسب اليهود إلى أبيهم إسرائيل، وهو نبي الله (يعقوب )، عليه السلام: ( يا بني إسرائيل .. ) وفي هذا اعتراف بشرف انتسابهم إلى هذا النبي العظيم، وهذا الشرف وهذا الفضل حقه أن يقابل بالشكر للمنعم، لا أن يحاربوا دينه، إذن ففي النداء نفسه أسلوب دعوي واستئناس وترغيب.

وأما أساليب النداء التي تضمنت أحكاما فعلى نوعين:

النوع الأول: الحكم الإيجابي، كقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا ) فهي شهادة لهم وتكريم أي تكريم، وتحفيز لهم على التمسك بالفضل الذي صاروا إليه.. وقياسا على مذاهب ومشارب الناس كان واردا أن يقال: (يا أصحاب محمد) بلغة تنكرية أو (يا أتباع محمد).

والنوع الثاني: الحكم السلبي، كقوله تعالى: ( ثم إنكم أيها الضالون المكذبون * لآكلون من شجر من زقوم ) (الواقعة:51-52)، فمناسبة الحكم قائمة، إذ الآية في معرض الحديث عن الجزاء، والجزاء الأخروي مبني على حكم هو الضلال والتكذيب، وإلا لماذا هم في النار لو لم يكونوا مكذبين وضالين, وأما النداء في قوله تعالى: ( قل يا أيها الكافرون ) فإذا عرفنا سبب النـزول سنجد أن المقام لم يكن مقام دعوة، بل جاء كرد حاسم، تضمن التفريق بالصفة والموقف بين الكفر والإيمان، ليقطع على الكفار أمل التأليف بين المفترق، فلقد عرض كفار مكة على المسلمين أن يعبدوا آلهتهم يوما ويعبد كفار مكة إله المسلمين يوما آخر! فكان في هذا التحديد والمباشرة [ ص: 47 ] تيئيس لهم وللمسـلمين، على أن لا صـلة قرابة بين الكفر والإيمان، بل أنتم يا أهل مكة كفار، وملة من غير المسلمين، ولا يوجد بين ملتي التوحيد والشرك صيغة من العبودية المشتركة.

من هنا نخلص إلى القـول: إن النداء الساخر أو الحكمي السلبي لا يمكن إلا أن يهيئ للقطيعة وتثبيت حالة التنافر، وبناء حواجز تمنع الاتصال، إنه صورة من صور إعلان الحرب، وهذا يفسر ما ورد في السيرة من أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى على اليهود في حصون خيبر بـ ( يا إخوان القردة والخنازير ) [2] ، فهذا الحديث وإن ضعفه الشيخ الألباني إلا أنه ورد في مقام حرب وله ما يبرره، حيث تشتبك فيها الأسنة والألسنة، وربما كانت لغة الموادعة في حالة الحرب بعد إفراغها في حالة السلم عدول عن الأصل.

ب- أساليب النداء في السنة النبوية:

عند البحث عن صيغ النداء في الأحاديث النبوية سنجد ما يزيد عن (155) نداء للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كلها باسم المنادى أو بكنيته، عدا مرة واحدة جاء (يا ابن الخطاب)؛ والعدول عن ذكر اسم المنادى إلى ذكر أبيه إذا كان بين متحابين فهو دلالة على مبلغ الود القائم بينهما؛ لأن كل طرف يتقبل من الآخر ما يحـلو له من الأسـاليب، وفي حـديث آخر (يا أعرابي) ، ربما لأنه لا يعرفه من قبل، ولم أجد في حدود بحثي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى على رجل بلفظ (يا رجل) أو (يا تميمي) أو (يا قرشي) أو (يا صاحب) أو (يا أخ) إلا أن [ ص: 48 ] يضيفه، وقد ورد (يا أخا سبأ) [3] و (يا أخا بني تميم) ، وهو بمعنى يا صاحب بني تميم [4] ؛ ولا مثل (يا هذا) إلا قوله لجحيفة وقد جعل يتجشأ في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا هذا، كف عنا من جشائك، فإن أكثر الناس شبعا في الدنيا أكثرهم جوعا يوم القيامة ) [5] . وفي هذا التجاهل ربما رد على إرادة التميز بإظهار حالة الامتلاء التي هو عليها، وفيه تربية وتعديل لانحراف التصور لمعنى التخمة.

والملفت أن من الصحابة من استحقوا بمواقفهم عتاب النبي صلى الله عليه وسلم لاجتهادات خاطئة، لكنه لم يخاطبهم في موضع العتاب إلا بأحب أسمائهم مثل: (يا حاطب).. (يا خالد).. (يا أسامة).. (يا أبا ذر) ، ولا يجب أن يفهم أن هذا اللطف جاء لأن هؤلاء مسلمون، بل إننا نجد الشيء ذاته مع غير المسلمين كما تحكيه قصة (عتبة بن ربيعة) عندما جاء مفاوضا في أمر الدعوة، وهو من هو في حربه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد خاطبه الرسول صلى الله عليه وسلم بأجمل ما يحب أن يسمع.

قال عتبة:

( اسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها، لعلك تقبل منا بعضها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قل يا أبا الوليد أسمع. حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله يستمع منه.

قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟

قال: نعم. [ ص: 49 ]

قال: فاسمع مني، فقرأ عليه: بسم الله الرحمن الرحيم.. ( حم * تنزيل من الرحمن الرحيم ) (فصلت:1-2) ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد. ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت.. )
[6] .

نادى النبي صلى الله عليه وسلم على عتبة بكنيته ثلاث مرات في هذا المأثور؛ والذي اشتهر عند العرب أن نداء الرجل بكنيته فيها إشعار لصاحبها بالاهتمام، وإنها لتنـزل صاحبها مكانة من التوقير لا يقوم بها إطلاق الاسم مجردا، بل ربما كان في إطلاق الاسـم مجردا إهانة أحيانا، ولا يأتي من صاحب الخلق العظيم أن يقول: (اسمع يا عتبة).. ولا يتصور أن يند من النبي صلى الله عليه وسلم غليظ القول مثل: (اسمع مني أيها المشرك) فرغم اتصاف الرجل بهذه الصفة إلا أنه لا يحب أن يسمعها، فاقتضى المقام التأدب ليتاح فيه نقل موقف النبي صلى الله عليه وسلم وعرض دعوته وإقامة حجته.

ج- إضافة المنادى إلى ضمير المتكلم:

ومن مظاهر التأليف الإشعار بالقرب المعنوي والمادي، ويتحقق القرب المعنوي في طبيعة الخطاب الذي يتضمن إضـافة المخاطبين إلى ضمير المتـكلم بما هو قائم من روابط الصلة المختلفة، ففرق بين أن تقول: (الأخ محمد) وبين أن تقول: (أخونا محمد) لأن فيه نسبة إلى العموم، وأفضل منه (أخي محمد) لأن فيه نسبة إلى ضمير المتكلم، وهذه من البدهيات التي لا قد لا يلتفت إليها.

وسنجد أن نسبة المخاطب أو المنادى إلى ضمير المتكلم أحد أهم أساليب الاتصال في حواريات النص القرآني، كخطاب إبراهيم لأبيه والأنبياء على أقوامهم رغم كفرهم. [ ص: 50 ]

قال بعض المفسرين [7] : كان (آزر) أبو إبراهيم ينحت الأصنام ويبيعها، وكان مقربا من الملك النمرود، وهو ما يعني أن أبا إبراهيم هذا كان من رموز الكفر، مع ذلك يضيفه نبي الله إبراهيم، عليه السلام، إلى نفسه في أربع عبارات بنداءات أربع (يا أبت) رغم انقطاع قرابة الدين بينهما، وفي ذلك ما فيه من معاني اللطف، والحلم، وأحاسيس المودة الظاهرة: ( إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا * يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا * يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا * يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا ) (مريم:42-45).

وفي القرآن الكريم ذكرت ( يا قوم ) المضافة إلى النبي أكثر من (49 مرة) نحو قوله: ( ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون ) (هود:30) ، و ( لقومه ) (14مرة) وغير ذلك كثير.

وتكررت ( أخاهم ) و ( أخوهم ) التي فيها إضافة أخوة الأنبياء لقومهم نحو (12 مرة)، مثل قوله تعالى: ( إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون ) (الشعراء:106) ، ( وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون ) (الأعراف:65). [ ص: 51 ]

والأخوة هنا هي الأخوة الإنسانية، وأخوة الانتماء القومي؛ واستعمال هـذا اللفظ تحـديدا لا يخـلو من بعد دعوي، ففيه تذكير بأنه منهم، وهو ما يفترض إخلاص النصيحة لهم ويبعد معه غشهم؛ لأن غش القريب فيه كلفة اجتماعية أكثر من البعيد؛ والبعد الثاني أن قرابته منهم تعني أنهم يعرفون سيرته ونشأته وصدقه وأمانته، وهو يذكرهم بها، قال الشيخ الشعراوي، رحمه الله: "قوله تعالى: ( إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون ) (الشعراء:106) يريد أن يحنن قلوبهم عليه بكلمة ( أخوهم ) التي تعني أنه منهم وقريب الصلة بهم، ليس أجنبيا عنهم، فهم يعرفون أصله ونشأته. ويعلمون صفاته وأخلاقه" [8] .

وذات الشيء في إضافة القوم إلى ربهم: ( وجئتكم بآية من ربكم ... ) (آل عمران :50) ، ( أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم ) (الأعراف: 63)، ( .. قد جاءتكم بينة من ربكم ... ) (الأعراف:73 )، كأنما يقول: إن الذي أرسلني إليكم هو ربكم وخالقكم والمتفضل عليكم وليس ربي وحسب، هو الذي رزقكم وصوركم وجاء بكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا، وإن ربا صفته الرحمة والإحسان لا يمكن أن يغش عباده في مصلحتهم.

وتأخذ الآيات طريقها في التدرج نحو مراتب الكمال في مزج الأخوة الإيمانية بعد ما رأينا من الأخوة الإنسانية، فنجد كلمة (النفس) تطلق على مجموع المؤمنين، وهو مزج لم يصل إليه الناس على مستوى لغة التداول، من [ ص: 52 ] ذلك قوله سبحانه: ( فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم ) (النور:61) ، وقال: ( ولا تلمزوا أنفسكم ) (الحجرات:11) ، ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) (التوبة:128) ، ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا ) (الروم:21)؛ إننا نقول: هذا أخي، هذا شقيقي، ولكننا لم نصل إلى مستوى التعبير القرآني ونقول: (هذا نفسي)، الذي يدل على التماهي، ولهذا المعنى وجوده في السنة، منه قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) [9] ، هذا هو رقي الخطاب الإسلامي في مجال فن التواصل والتعبير عن الحميمية الإنسانية والأخوية، فلا نجد بعدها مزيدا لمستزيد.

وفي القرآن الكريم نموذج آخر في طريقة إضافة الضمير مغاير للسابق، أي خالية من مراعاة تلك المعاني ونجدها على لسان اليهود، كقوله تعالى على لسان اليهود: ( فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض ) (البقرة:61) ، ( ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ... ) (البقرة:68) ، ( ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها .. ) (البقرة:69) ، ( فاذهب أنت وربك .. ) (المائدة:24) ، ( هل يستطيع ربك .. ) (المائدة:112) ، يقولون: (ربك) لا (ربنا)، وفي هذا الأسلوب محامل للتأويل، منها عدم القبول بإضافة الرب إليهم، ومنها أنه لا مكانة لنا عند الله فادعه أنت، وفيه من قلة الأدب وجفاء الأسلوب ما لا يخفى. [ ص: 53 ]

ومثل ما سبق القرب المادي، أي مخالطة القوم والصبر على أذاهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ( المسلم إذا كان مخالطا الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ) [10] .

وقد ذهب بعض الناشطين في العمل الإسلامي في (مبدأ الولاء والبراء) مذاهب سدوا معها كل منافذ الاتصال، وصارت المقاطعة الشعورية والمادية تطبق على جميع المخالفين، ولاشك أن التزامنا حدود مفاهيم الشرع هو العاصم من غائلة الغلو والتطرف؛ فالإسلام منهج حياة وليس مجرد مصفوفة من التعاليم يمكن أن تلقى عن بعد، ولو كان الأمر كذلك لما احتاج الإسلام إلى ثلاثة وعشرين عاما من الترجمة الحركية لمثل الدين، وإثبات قدرتها على ملاءمة الاستعدادات الإنسانية، والإجابة عن تساؤلات فلسفة الحياة المختلفة، وإعطاء رأي الدين في المفردات التي تحكم العباد ويتحاكمون إليها، فجاءت التوجيهات الملائمة وصيغت العبارات المناسبة، فأي داعية هذا الذي يدير ظهره للناس بحجة أنهم ضالون؟ فلعمري لو كانوا مهتدين لكان وجوده من باب لزوم ما لايلزم.

إن الهجر في هدي القرآن الكريم للكافرين إنما هو هجر أعمالهم المخالفة للدين، كما قال الله، على لسان لوط، عليه السلام: ( قال إني لعملكم من القالين ) (الشعراء:168)، أي من المبغضين، ولا يكون هجرهم ماديا إلا مع اليقين في استنفاد كل وسائل الاتصال، وأساليب الإيصال، كما قال الله تعالى [ ص: 54 ] على لسان نبي الله صالح، عليه السلام: ( فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين ) (الأعراف:79 )، وشعيب: ( فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين ) (الأعراف:93 )، وفي إبراهيم بعد أن وجد أن لا سبيل إلى هداية قومه: ( وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا ) (مريم:48) ، ومع اعتزاله لهم لم يهجرهم بقلبه، فلا يزال يدعو لهم.

والدليل على بداهة فكرة الاختلاط قول الله: ( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ) (النساء:140) ، فقد ورد النهي عن القعود مع قوم في مجلس يساء فيه إلى الثوابت وحسب، فإذا أقلعوا عن ذلك زال سبب هجرهم، وجاء في "أضواء البيان": "قوله تعالى: ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ) , نهى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة عن مجالسة الخائضين في آياته، ولم يبين كيفية خوضهم فيها، التي هي سبب منع مجالستهم، ولم يذكر حكم مجالستهم هنا، وبين ذلك كله في موضع آخر فبين أن خوضهم فيها بالكفر والاستهزاء" [11] ، بقوله: ( وقد نزل [ ص: 55 ] عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم ) (النساء:140).

وهذا نبي الله موسى، عليه السلام، يعود إلى قومه غضبان أسفا، وكسر الألواح حـين وجد قومـه يعكـفون على عبادة العجل من دون الله، وبعد أن سكن غضبه عاد إلى تأليفهم بعد أن كفروا: ( وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ) (البقرة:54) ، قال ( يا قوم ) أضافهم إليه، وقال: ( إنكم ظلمتم أنفسكم ) ولم يقل (كفرتـم) ، والظـلم وضع الشيء في غير موضعه، فهو يحتمل معان كثيرة، من ضمنها الكفر، حتى لا يقطع عليهم الأمل في عفو الله، وأعجب من ذلك ما كان من أمر هارون مع قومه، فحينما لم يستطع تغيير المنكر بقي مع قومه ولم ينعزل عنهم في زاوية، وذلك خوفا من تفريق كلمتهـم، وتشتيت وحدتـهم، رغم واقـع الشرك: ( قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * ألا تتبعن أفعصيت أمري * قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي ) (طه:92-94).

إن القرب المادي ضرورة دعوية تتيح للناس أيضا معرفة أخلاق هذا الذي يحدثهم باسم الله، فيلحظوا تطابق اللهجة مع صدق التجربة؛ وضرورة دعوية لإزالة حالة الوحشة وتحقيق مبدأ التكافؤ بين موقع الطرفين، فالدعوة عن بعد [ ص: 56 ] مع إمكان الاتصال فيه تعال وترفع، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف ) [12] .

ولنتأمل قوله تعالى: ( إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله ) (فصلت:14) ، ففي مكنون هذه الآية ملمح دعوي عجيب، إنها تقوم مقام الصورة في تجسيد أسلوب الداعية، وهو يتلمس منافذ الوصول إلى قلوب الناس ( من بين أيديهم ومن خلفهم ) فتارة يقابل الفرد عن يمينه، وتارة عن شماله، وقد يأتي فيربت عليه من خلفه فيناجيه ليعرض عليه دعوة الله، ومثل هذا المعنى نجده في طريقة دعوة نوح، عليه السلام، لقومه: ( ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا ) (نوح:9) ، وهذه صورة دعوية هامسة، والإسرار لا يكون عن بعد، بل من أقرب مسافة، يدرك فيها دفء المشاعر مع تصاعد الأنفاس، فعندما تضيق المسافة إلى حد الإسرار بالكلام تتأكد معها الرغبة الشديدة في كسب قلوب الآخرين، وينتفي معها الترفع أو النفور، وهذه هي أخلاق الأنبياء مع أقوامهم، بذل الوسع في إيصال الدعوة مع استنفاد شتى الطرق. [ ص: 57 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية