الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ثانيا: التركيز على فعل السيئة بدل فاعلها:

لا تقل في سيـاق التوجيه التربوي المبـاشر: (أنت لا تعجبني) ولكن قل: (لا تعجبني تصرفاتك)؛ لا تقل: (أنت ظالم) ولكن قل: (إنما تفعله ظلم)؛ بل ولا (أنت كافر) ولكن (ما تفعله كفر). فإذا أمعنا النظر في الآيات التي تضمنت أحكاما كفرية سنجـد أن مدار الحكم يكون على الأفعال وعلى من اتصـف بهـا، مع إهمـال الإشارة إليهم، وتسميتهم ليتقرر واقعهم بالنتيجة لا المباشرة، نحو: ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ) (المائدة:72)، ( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ) (المائدة:73)، وبالنتيجة نعرف أن المراد بهم النصارى، ونأخذ هذا عن طريق المفهوم من قوله تعالى: ( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى [ ص: 72 ] المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون ) (التوبة:3)، وقوله: ( يضاهئون ) حكم استنتاجي أيضا مفهوم، وفيه عدول عن المباشرة، بينما المضمون يقود إلى تقرير هذا الواقع، مع تحقيق القيمة الدعوية في الفرق بين الأسلوبين.. أي بين قوله: ( لقد كفر الذين قالوا ... ) وبين "كفر اليهود والنصارى"، وقال الله: ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) (آل عمران:64)، وقال: ( فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) ولم يقل: "فإن تولوا فقولوا نشهد أنكم كفار"؛ لأن النتيجة تعطي ذلك، فالشاهد على إسلام المسلمين شهادة على شرك المشركين، بما أن الإسلام يعني توحيد الخالق.

ولا نكاد نجد نبيا من الأنبياء وجه حكما صريحا بالكفر على أشخاص بأعيانهم في مجال الدعوة والتأليف، بل عن طريق التضمين ( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين ) (الأنعام:74)، ومع أن هذه من الآيات الأكثر تأكيدا على واقع الانحراف، لكنها لا ترقى إلى الحكم الصريح الذي يخلو من الحكمة ومرونة الطرح، فقوله: ( إني أراك ) (أرى) هنا لليقين، ولكنها تأتي للظن، وقد تحمل عند المخاطبين [ ص: 73 ] على ذلك، وقوله: ( في ضلال مبين ) كقوله في سورة الأنبياء: ( قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين ) (الأنبياء:54)، ولا يخلو أن يكون قد تضمن أنكم قصدتم الحق فأخطأتموه ولم تدركوه، وفي هذا جبر لنواياهم، فندرك أن الحكم قد لطف منه كلمات غير حادة، لعل خط التواصل يستمر ممتدا دون أن يكون الأسلوب سببا في القطيعة ورفض سماع الموعظة، في الوقت الذي قدم فيه توصيفا كاملا للواقع.

إن الأمر يحتاج إلى فن التخاطب مع (الآخر) دون شك، وإن الحكمة تقتضي وصف الأفعال بدلا من وصف فاعليها، وذلك لمقاصد وغايات، منها عدم تحويل المواجهة من مواجهة أفكار إلى مواجهة أشخاص وأحكام، ومن ترك الطريق مفتوحا لهداية الناس إلى إغلاقه في وجوههم بالقرارات الجاهزة.

التالي السابق


الخدمات العلمية