الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
7- مخاطبة الناس على قدر منازلهم:

اعترف الإسلام بالمؤثرات الوظيفية والاجتماعية للفرد، وقدر دورها في تحديد رؤى الفرد وتقييمه للأشياء، فيصير الناس بذلك على منازل، فرب طريقة ما في التخاطب أو في التصرف تجاه (الغير) تؤخذ عند الناس على محامل شتى، فتفسر عند هذا بمفهوم وعند آخر بمفهوم مختلف.. قد يكون عند هذا سـلوك ما به من بأس وفي حق آخر إهانة.. قد يرى المسكين الثياب المتواضعة على الرجل الغني تواضعا، ويراها غني مثله بخلا، ويراها السلطان في مجلسه إهانة في حقه.

إذن هذا التباين في أقيسة الناس للأمور لها أسبابها الخاصة، التي تحددها ظروف النشأة، فتختلف بسببها الرؤى ويترتب عليه اختلاف مراتب التصرف كالتالي.

- حفظ مقامات المخاطبين:

روي عن أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، أن سائلا مر بها فأعطته كسرة، ومر بها رجل عليه ثياب وهيئة فأقعدته فأكل، فقيل لها في ذلك، فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أنزلوا الناس منازلهم ) [1] ، وفي لفظ قالت: ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم ) [2] . [ ص: 127 ]

إن السمت المتواضع للرجل الأول مؤشر على أن صاحبه لا يحفل بنفسه، وحري به أن لا ينتظر ذلك من غيره، وقد لا يرى في إقعاده مكرمة أو ربما وجد فيه عكس المراد، بينما لا يبدو الأمر كذلك مع السائل الثاني.

والحديث التالي يفسر معنى الحديث الأول بشكل أوضح، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه ) [3] ، قال المناوي: "إذا أتاكم كريم قوم" أي رئيسهم المطاع فيهم، المعود منهم بإكثار الإعظام وإكثار الاحترام (فأكرموه) برفع مجلسه، وإجزال عطيته؛ لأنه تعالى عوده ذلك، فمن فعل به غيره فقد احتقره وأفسد عليه دينه" [4] . وقال السيوطي في شرح ابن ماجه على الحديث: "لهذا الكلام معنيان، الأول أنه إذا كان شخص ذا كرامة في قومه بأن كان رئيسا وسيدا فيهم فأكرموه، فإنه إذا لم يكرمه كان له ولقومه ضغن وحقد منه، ويحصل له الأذى من جهتهم هذا إذا كان القوم جهلة، ولكن ينبغي أن يحمل هذا الأمر بالإكرام على ما إذا لم يحصل له ضرر في دينه، فإن تبجيل الكفر كفر، وفي الحديث: ( من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام، ) هذا إذا كان الرجل شديدا في دينه" [5] .

وفي قصة وفد عبد قيس: ( ..قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتد فرحهم، فلما انتهينا إلى القوم أوسعوا لنا، فقعدنا، فرحب بنا النبي صلى الله عليه وسلم ودعا لنا ثم نظر [ ص: 128 ] إلينا فقـال: من سيدكم وزعيمكم؟ فأشرنا جميعا إلى المنذر بن عائذ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أهذا الأشج؟ فكان أول يوم وضع عليه هذا الاسم لضربة كانت بوجهه بحافر حمار.." قال الراوي: "ثم أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد بسط النبي صلى الله عليه وسلم رجله واتكأ، فلما دنا منه الأشـج أوسـع القوم له، وقالوا: ههنا يا أشج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم واستوى قاعدا، وقبض رجله: ههنا يا أشج، فقعد عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحب به وألطفه وسأله عن بلادهم وسمى لهم قرية قرية.. ) [6] .

ومما ورد في الاعتراف بمـكانة أهل الزعامات ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في سعد ابن عبادة: ( .. اسمعوا إلى ما يقول سيدكم، إنه لغيور وأنا أغير منه، والله أغير مني ) [7] .

وقال للأنصار في سعد بن معاذ: ( قوموا إلى سيدكم ) [8] .

وكل من السعدين سيد قومه، وصاحب مكانة في المدينة المنورة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يمنع أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحاكم الأول من أن يخاطبهما بمكانتهم الاجتماعية بين قومهما الأوس والخزرج.

مما سبق نصل إلى أن المبادرات الإيجابية تجاه الآخر رسائل لغوية، ذات أهداف تربوية، قد تكون أبلغ في النفس وأوقع في القلب من الكلام المجرد، فليست الدعوة لغة تحكى باللسان وحسب ولكنها أيضا حسن تصرف، ومهارة [ ص: 129 ] في تقدير المواقف، ومنها إنزال الناس منازلهم، وقد تكون إهانة الكريم صادمة للنفس، وجارحة للكرامة، فتوزن الأشياء بميزان الثقافة السائدة، وظروف النشاط الدعوي، فإذا كان في تشريف الكريم تأليف له كان ذلك محمودا، وإن ترجح عكسه كان مذموما، ويسري ذلك على المسلم والكافر، وسنجد أن النبي، عليه الصلاة والسلام، قد خاطب الملوك بألقابهم واعترف بمراسيمهم الخاصة.

- مخاطبة أهل السلطان بألقابهم:

من قراءتنا للسيرة النبوية سنجد إقرارا باللغة السياسية أو ما يسمى باللغة (الدبلوماسية) بالمصطلح الشائع اليوم، ونعني بها خطاب أصحاب الوجاهات الاجتماعية، والزعامات السياسية بما من شأنه الاحتفاظ بألقابهم الرسمية، ولعلنا نلمس شيئا من ذلك في الرسائل التي أرسلت إلى الملوك، إن هذه الكتب على أهميتها ولطافتها ودقة صياغتها لم يحفظ البعض منها سوى عبارة ( أسلم تسلم ) وفهمها بالمقلوب.

لقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم الفروق اللغوية لتلائم الفروق الاعتبارية، ووضع كل ملك في المكانة التي يلزم أن يجد نفسه فيها ثم اشتركت جميعها في المضمون.

وهذه بعضها:

رسالته صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ملك الروم:

( بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم الأريسيين ) [9] . [ ص: 130 ]

( من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم ) فيه اعتراف بمكانته في قومه، ( سلام على من اتبع الهدى ) لغة عامة مرنة تتضمن التعريض.

( أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسـلام ) ليست ذات غرض نفـعي أو سلطوي لبسط النفوذ بل أسند الطلب إلى الإسلام، ( أسلم تسلم ) فيه ترغيب وتذكير بالمسؤولية وليس بالضرورة تسلم من الموت بسيوفنا، بل تسلم أيضا من تبعات الشرك.. تسلم من عذاب الله.. يسلم لك ملكك، ( يؤتك الله أجرك مرتين ) تشجيع، وقد تكون تفسيرية لمعنى (تسلم) ( فإن توليت فعليك إثم الأريسيين ) . تذكير بالمسؤولية وإشارة إلى الشعوب المستهدفة بنور الحق، التي هي محل عناية الإسلام ورأفته، ثم ختم الرسالة بالآية: ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) (آل عمران :64)، وفي اختيار هذه الآية في ذيل الرسالة عن غيرها من الآيات التي فيها ذكر أهل الكتاب دعوة للتقارب والالتقاء على كلمة سواء، ولا يخفى أن ثمة آيات حكمية في أهل الكتاب لن يكون في اختيارها في هذا المقام حكمة دعوية مثل: ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ... ) (البقرة:120).

ونظير هذه الرسالة رسالة أخرى إلى النجاشي (الأصحم، عظيم الحبشة) ومثلها إلى (كسرى، عظيم فارس). [ ص: 131 ]

ونعثر على كتاب آخر إلى سيد آخر جاء بلهجة ولغة أخرى مختلفة نسبيا عما سبق، يفسرها اختلاف الموقفين، وتفاوت مكانة المرسل إليه، إنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن أبي شمر وفيه:

( بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى، وآمن به وصدق، وإني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقى لك ملكك ) [10] .

فهنا لغة مختلفة نسبيا لا يوجد فيها اللقب الرسمي، وتوجد عبارة (يبقى لك ملكك) التي يستشف منها نبرة تهديد أكثر من الكتاب المرسل إلى كسرى وقيصر؛ لأن قابلية الواقع لمثل هذه اللغة متوفرة، فهي واقعية، إذ أنه النقطة الأضعف، فإنما هو أحد عمال قيصر.

وربما كان عدلا أن لا تكون اللغة مع مثله لينة فتأتي بعكس المراد، فقد يجترأ ويظن أن جانبه مرهوب، فيكون أكثر استعصاء وأبعد عن الاستجابة، وهذا فقط لمن يملك قوة الفعل ويملك أن يهدد.

ولو نظرنا إلى العبارة من زاوية المصلحة، ربما اختلف تحليلنا للرسالة ووجدنا فيها طمأنة للحارث بن أبي شمر، إذ أنها تركز فقط على هدف الإسلام الأول وهو عبادة الله وتوحيده مقابل الاحتفاظ بالملك، فإن تحقق البعد الديني، بقي الشق الدنيوي لصاحبه.

وعلى كل، فإن لغة الترهيب إذا كانت أحيانا مطلوبة فإنها لا كالترغيب في فاعليتها، ولا يلجأ لمبدأ الترهيب إلا في نطاق استثنائي لأن مضمونه الشدة، والشدة مذمومة في أكثر من نص. [ ص: 132 ]

وإذا كان للملوك والرؤساء مراسيم (بروتوكولات) لا تتعارض مع الشرع فإن الحكمة تقتضـي مخاطبتهم بما يفهمون عند مخاطبتهم، فقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتما من فضة عندما أرسل رسله إلى الملوك، حيث قيل له: إن الملوك لا تقبل كتابا إلا مختوما.

عن قتادة قال: سمعت أنسا، رضي الله عنه، يقول: ( لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الروم، قيل له: إنهم لا يقرؤون كتابا إلا أن يكون مختوما، فاتخذ خاتما من فضة، فكأني أنظر إلى بياضه في يده، ونقش فيه محمد رسول الله ) [11] .

وقد ثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخير رسله إلى الملوك، فكان يرسل الأتم خلقا وخلقا، والأهيب جسما، والأحسن بيانا.

فكان دحية الكلبي معروفا بجماله، وكان جبريل، عليه السلام، يأتي على صورته وقد أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى عظيم الروم.

وكان عمرو بن العاص السهمي، رضي الله عنه، معروفا بذكائه ودهائه وقد بعثه إلى جيفر وأخيه عياذ الأزديين.

وكان معاذ بن جبل، رضي الله عنه، معروفا بالجمال والدين العلم وقد أرسله إلى اليمن.

وكان عبد الله بن حذافة السهمي، رضي الله عنه، جميلا مهيبا ذا دعابة وكان قد رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى عظيم الفرس.

وكان جعفر بن أبي طالب، رضي الله عنه، أشبه الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم خلقا وخلقا وكان هو من تكلم إلى النجاشي عظيم الحبشة. [ ص: 133 ]

وكان مصعب بن عمير معروفا بشبابه وجمال سمته ورائحته المميزة، وقد اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون سفيره إلى المدينة [12] .

هكذا خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الملوك باللغة التي يفهمونها، وهي الاهتمام (بالبروتوكولات) ومنها المظهر المقبول، فللمظاهر جاذبيتها أحيانا لدى هؤلاء، وإذا اجتمع في الشخص سمت المظهر وحسن المخبر حري أن يسمع له، وحقيق أن يكون له انطباع حسن لدى السامعين، والملوك لا تقبل بأقل من هذا لتعير سمعها لمن يريد مخاطبتها، وإن الاهتمام بهذه الناحية مجرد سد لذريعة الإعراض.

والثابت أيضا أن الأنبياء كانوا من أجمل الناس خـلقا وخلقا، ولو كانوا غير ذلك ربما أصبحوا مادة للسخرية، وذريعة من ذرائع التكذيب، قال الإمام البغوي: " ( وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون ) (القصص:34): كان هارون أكبر من موسى بأربع سنين، وكان أفصح منه لسانا وأجمل وأوسم، وأبيض اللون، وكان موسى آدم أقنى جعدا." [13] .

وجماع القول: إن تخير الشخصية القيادية والمقبولة علما، ومنطقا، وهيئة، فيه توخي شروط الأهلية، وتعزيز لقوة الحجية، وقد علم الله من طبيعة الإنسان أنه ميال إلى الجمال، نزاع إليه.. [ ص: 134 ]

ويلاحظ في عالمنا الإسلامي عدم التركيز على الشخصية القيادية الجذابة المؤثرة في أشياء كثيرة، ولربما ارتبط في الأذهان بسبب ذلك أن الدين والتدين هو ملاذ السلبيين والفاشلين، حتى صار الشاب الملتزم مرادفا للرجل الدرويش المنكمش على نفسه، ولا أراني متجنيا إن قلت: إن الكثير من الشباب المتدين اليوم انسحابيون سلبيون، أداروا للحياة ظهورهم وتركوا أمر مخاطبتها لمن يفهمون لغتها.

التالي السابق


الخدمات العلمية