الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
1- تبادل المواقع بين ضميري الملقي والمتلقي:

وتدخل الأساليب الدعوية في فن التركيب والترتيب، من ذلك تبادل المواقع بين ضمير المتكلم والمخاطب، وبين ضمير المخاطب والغائب، وذلك لتحقيق مقاصد دعوية منها التواضع، ونفي تهمة الادعاء والتنطع، وسياسة التأليف للقوم وغير ذلك كثير.

ففي معرض الحديث عن الواجبات والتكاليف مثلا، نجد ذكر النبي يأتي أولا، ثم قومه ثانيا، وربما حدث العكس لمقتضى دعوي آخر: ( وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ) (يونس:41). [ ص: 59 ]

كان مقتضى المطابقة أن يستمر تقديم ضمـير المتكلم على المخاطب (لي.. لكم) (أنا.. أنتم) غير أنه حدث قلب للضمير في آخر الآية فلماذا (أنتم..أنا) هذه المرة؟

في المقابلة الأولى: كان الحديث عن تحمل المسؤولية فتقدم ضمير النبي صلى الله عليه وسلم ( فقل لي عملي ) تأكيدا على أنه يتحمل وحده مسؤولية نفسه، فإلى جانب التواضع فيه تأكيد على التجرد وعدم استقواء النبي صلى الله عليه وسلم بمكانته من الله، وأنه لن ينفعه إلا عمله، ثم جاء ذكر اختصاصهم بشأنهم ( ولكم عملكم ) ، وسماه عمل ولم يصفه بصفته،أي لم يقل: ولكم كفركم ونحوه، تأكيدا لحيادية الخطاب الحواري من الأحكام.

وفي المقابلة الثانية: ( أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ) ، لأن فيها تخلية مسؤولية كل طرف تجاه الآخر قدم ضميرهم، لا مسؤولية لكم في ما أعمل ولا مسـؤولية لي في عمـلكم، لست أنا الذي يحدد مساقكم، ولا سلطان لي عليكم فأحملكم على ما تكرهون؛ لأن إسلام المكره لا يقبله الله؛ ويلتقي مفهوم هـذه الآية بآيات أخرى كثيرة تدل على أن طبيعة المهمة لا تزيد عن عرض الأدلة وإقامة الحجة.

ومثل ما سبق قوله تعالى: ( أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون ) (هود:35)، وقوله جل ذكره: ( قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون ) (سبأ:25). [ ص: 60 ]

في آية هود قال: ( فعلي إجرامي ) ، إن افتريت القرآن فأنا لا سواي أتحمل جريمة ذلك، لن يحمل عني أحد سواي عاقبة جرمي، حيث تقديم الضمير هنا أيضا يفيد الاختصاص، ولم يقل بالمقابل: (وعليكم إجرامكم)، بل قال: ( وأنا بريء مما تجرمون ) ، قال المفسرون: لا أؤاخذ بذنوبكم أو بمقولتكم فيما قلتم عني. هذا كل ما قاله فيما يتعلق بهم أنه غير مسئول عن تقولاتهم فيه.

وفي آية سبأ قال تعالى: ( قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون ) ، قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية: "أضاف الإجرام إلى النفس، وقال في حقهم: ( ولا نسأل عما تعملون ) ذكر بلفظ العمل لئلا يحصل الإغضاب المانع من الفهم، وقوله: ( لا تسألون ) ، ( ولا نسأل ) زيادة حث على النظر، وذلك لأن كل أحد إذا كان مؤاخذا بجرمه، فإذا احترز، نجا ولو كان البريء يؤاخذ بالجرم لما كفى النظر.." [1] .

إن محصلة هذه الشواهد التي يذكر فيها (عملي - إجرامي) تشير إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم ظهر للناس في وضعية محايدة، وتأويله: لا تنظروا إلى الدعوة كما لو كانت انعكاسا لشخصي، بل لكل منا ظروفه البشرية، ولكم أن تفترضوا في الخطأ، وبالمحصلة لا يخلو أن يكون أحدنا على صواب والآخر على خطأ ( .. وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) (سبأ:24)، تعالوا نبحث عن الحقيقة مجردة عن الأهواء، ننظر إلى مضامين الدعوة بمنظار العقل والعدل، ونقيس النص الصريح بالعقل الصحيح. [ ص: 61 ]

ونتعلم من ذلك عدم تزكية النفس، والزعم المبدئي بامتلاك الحقيقة، أي ترك الباب مفتوحا لدور العقل والقناعة الذاتية، ويتأكد التجرد من الإملاء والتوجيه في أنه لا سلطان ولا إملاء لأي طرف على الآخر، وليس في يد أي طرف أن يحاسب الآخر على جرمه، هناك طرف ثالث هو الذي سيضع الجميع في ميزان العدالة ( ... إن علينا حسابهم ) (الغاشية:26)، حـتى إننا نجد نبي الله نوح لا يتدخل في الدفاع عن أصحابه الذين اتهمهم الكفار بما ليس فيهم في حقيقة الأمر: ( قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون * قال وما علمي بما كانوا يعملون * إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون ) (الشعراء:111-113)، وفي هذا تخلية كاملة عن التعصب النابع من تزكية النفس، إننا أمام أرقى قواعد الحوار الفكري بين أصحاب الأفكار المتباينة، تقوم على عمق الإدراك بحق كل طرف أن يحترم رأيه ابتداء، ثم يطالب بالإنصات للرأي الآخر، لكي تبسط بين يديه الأدلة وتقام عليه الحجة، وتبقى الدعوى محل نظر وإعمال فكر، سواء كانت دعوى حقيقية أو تهمة باطلة.

ذلك هو كمال أخلاق الأنبياء، حيث أقام الله ميزان خطابهم بلغة عمادها الشعور بالمسؤولية.. وقوامها الحيادية.. وتجنب حشر الآخر في زاوية القطعيات، بل هي من المرونة بحيث تخلو من تعريض الناس لطائلة القمع الفكري، وتتركهم يقبلون على الإسلام بحريتهم الكاملة، وإرادتهم الحرة، ومنها نأخذ الدروس ونتعلم (كيف نقول) فنجعل من جماليات الأسلوب، وصوغ العبارات، وانتقاء الجمل في صعيد التخاطب مع الآخرين، مشاريع دعوية تختصر الجهد، وتقرب المسافات. [ ص: 62 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية