الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
2- الاستعانة بلغة الجسد:

من المهم تفعيل لغة الجسد الذي من شأنه أن يسهل نقل الأفكار وتمثلها، فالناس ليسوا فقط أسماعا ولكنهم أيضا أبصارا تشاهد، وترقب وتقرأ، وتحلل، وقد دلت الدراسات أن نسبة تأثير لغة الجسد وفاعليتها في التأثير وشد الانتباه تصل إلى 65%، أي أكثر من الكلمات تلقى جافة، فإشارات اليدين، وتعابير [ ص: 106 ] الوجه، من بسط، وقبض، ومن رسم علامات التعجب، والاستغراب، والفرح والغضب، ونبرات الصوت من خفض ورفع بما يتلاءم مع نوع الفكرة وأهميتها، كل هذه روافد دلالية ذات قيمة تأثيرية مهمة بالنسبة للخطيب، ولغة الجسد فوق أنها مؤشر الخطيب على صدق تجربته الوجدانية التي يعيشها، هي أيضا موهبة ليس كل الناس يجيدها، فقد تتناثر الأفكار وتخرج ميتة من فم خطيب متخشب رغم خطير ما قد يتحدث عنه.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب كأنه منذر جيش، كما يصفه الحديث، وفي هذا التعبير كفاية للتدليل على أي نوع من الإلقاء يحتاجه الخطيب لكي يكون مؤثرا؛ عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، قال: "...إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول: ( صبحكم ومساكم"، ويقول: "بعثت أنا والساعة كهاتين ) ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى.." [1] .

ومشهد آخر ينقله ابن عمر، رضي الله عنهما، عن خطابة النبي صلى الله عليه وسلم يدل على درجة من التفاعل مع مضمون الكلام، إلى حد يهتز معه جسد النبي صلى الله عليه وسلم ويضطرب المنبر؟

عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: ( يأخذ الجبار سماواته وأرضه بيده، وقبض بيده، فجعل يقبضها ويبسطها، ثم يقول: أنا الجبار، أين الجبارون، أين المتكبرون ) قال: [ ص: 107 ] "ويتميل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه وعن يساره حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى إني أقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم " [2] .

وشرط التأثير في ذلك أن تكون لغة الجسد متلائمة مع منطوق الكلام، فلا يقابل الخطيب حرارة الفكرة ببرود الأعصاب، ولا ينفعل في موقف حقه الهدوء والانبساط، وأن تتدرج نبرات الصوت خفضا ورفعا مع قوة الفكرة وضعفها، فإما أن يرفع أفكاره إلى مستوى صوته أو يخفض صوته إلى مستوى أفكاره، ومن التقليد البائس أن يعلو صراخ الخطيب في الموضوع التافه، وأن يشيع ارتفاع الصوت كمؤشر على جودة الخطيب وقوة تمكنه، والأفضل في كل الأحوال هو الانسيابية والاسترسال مع الخواطر والأفكار، وحضور صدق الإيمان ويقين الإخلاص مع القيم التي يرشد إليها الخطيب.

وقـد لا حظنا في حديث سابق أن الإشارات الجسدية مطلوبة في غير الخطابة كذلك، قال صلى الله عليه وسلم : ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى"، وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم : ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر -ثلاثا- الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور -أو- قول الزور ) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس، فمازال يكررها حتى قلنا: ليته سكت" [3] . [ ص: 108 ]

وقد حـرص الراوي على إيراد هذه الحركة الدعوية لمنط الجلسة؛ لأن فيها معاني إضافية لم تكن لتصل لو لم يجلس النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كان متكئا، وفهم منها أن شهادة الزور عظيمة من العظائم لا يجب أن يستهان بها، وبهذا ندرك كم هي معبرة لغة الجسد، ولأهميتها دخلت ضمن علم اللسانيات وصارت تدرس كلغة يمكن التخاطب بها بين الأقوام المختلفة، بل ودخلت قراءة الملامح وردود الأفعال العضوية ضمن القرائن الجنائية في الكثير من دول العالم، وما ذلك إلا لأهميتها.. وفي القرآن الكريم نجد لغة الجسد ممثلة في الأبصار الشاخصة، والقلوب الواجفة، والوجوه المسفرة والضاحكة، والوجوه الخاشعة والباسرة، إنها قراءات معبرة تغني عن التعبير عن الحالات النفسية التي يعيشها الناس يوم القيامة.

- ومن لغة الجسد الاتصال البصري بتوزيع النظرات بين أفراد الجمهور؛ لأن الكلام موجه للجميع، وتوزيع النظر مع ميول الجسد يشعر المتلقين بأن الخطيب يقدر وجودهم معه من كونه يكلمهـم لا يكلم نفسه، ينشد قناعاتهم لا يتفاعل فقط مع قناعاته، فينشئ بين الطرفين حالة من التعايش الفكري والوجداني، وبه يستطيع الخطيب أن يقيس حالات الرضا وعدمه من تفحص لغة الوجوه، فإذا وجد علامات الرضا استرسل في عرض فكرته، وإذا أدرك تململا عرف أن هناك خطأ فيعدل في كلامه أو يعدل عنه.

وتحـويل النظر مع الجسـد يرمز إلى وجـود حيـوية وثقة بالنفس؛ لأن التخشب علامة على الخجل والتوتر والخوف، وهذا بحد ذاته يقلق الجمهور أيضا. [ ص: 109 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية