الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ثانيا: إظهار الشفقة والخوف على المدعوين:

في لغة الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، ما يشير إلى أن أقوامهم كانوا يشغلون حيزا من وجدانهم، وما يشير إلى أن دعوتهم لهم كان دافعها الخوف والشفقة عليهم، الخـوف عليهم من عـذاب الله، من شقاء أبدي لا ينقطع، فلا يألونهم نصحا وإرشادا بكل ما آتاهم الله من مؤهلات التبليغ، لقد كان باعث الحرص في دعوتهم هو سيد الموقف كما تجد في الآيات الآتية:

- نوح: ( .. إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ) (هود:26).

- هود: ( .. إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ) (الشعراء:135).

- شعيب: ( .. وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ) (هود:84).

- محمد: ( .. فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ) (هود:3).

- رجل من آل فرعون: ( .. إني أخاف عليكم يوم التناد ) (غافر:32). [ ص: 135 ]

( إني أخاف عليكم ) الخـوف على الآخر أيضا سجية العظماء والمصلحـين الذين لا تطيب لهم نفس، ولا يرتاح لهم ضمـير، حتى يأخذوا بأيدي الآخرين إلى ما فيه سعادتهم وخيرهم، وقد قيل في التعريف: العظيم هو الذي يتعب ليرتاح الناس، ويسهر لينام الناس، ويجوع ليشبع الناس، وقد يموت ليحيا الناس.

والأنبياء ومن سار على دربهم من الدعاة والمصلحين هم مصابيح الهدى والنور، أرسلهم الله لإنقاذ الناس من وهدة الضلالة، ولقيادة العالم إلى طريق الله المستقيم، لذا هم أكثر الناس حرصا بالناس وأكثرهم بلاء وتضحية.

ويدلنا النص القرآني على حقيقة أخرى في سياق هذا الشعور بقيمة الآخر وأهميته لدى الداعي، وهي إخلاص النصيحة للناس، وتسخير كل حياته للأخذ بحجزهم من الوقوع في النار، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله لم يحرم حرمة إلا وقد علم أنه سيطلعها منكم مطلع، ألا وإني آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النار كتهافت الفراش أو الذباب ) [1] .

فلا يدع النبي قومه حتى يوقن أنه استنفد ما عنده، وأن الحيلة قد أعيته، وأن مشيئة الله فيهم قد سبقت مشيئته، عندئذ لا حرج في أن يترك أمرهم إلى الله يفعل بهم ما يشاء، وكما جاء على لسان هؤلاء الأنبياء: [ ص: 136 ]

- نوح: ( أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون ) (الأعراف:62)، ( ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون ) (هود:34).

- هود: ( أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين ) (الأعراف:68).

- صالح: ( فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين ) (الأعراف:79).

- شعيب ( فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين ) (الأعراف:93).

"والنصح: الشفقة، وهو أن يكون الناصح - من بلوغ النصح - خائفا علـى المنصوح. تقول: أشفقت عليه أن يناله مكروه.. ونصح الشيء: خلص. والناصح: الخالص من العسل وغيره.. والنصح: نقيض الغش" [2] .

( إني أخاف عليكم ) ، ( وأنا لكم ناصح أمين ) عبارات قيلت للكفار فبلغت مسامعهم، فهل يدخل في خطاب الدعاة اليوم هذه اللغة الإنسانية المعبرة، ليعرف الكفار قبل المسلمين أن الدعوة دافعها الأول تحقيق مصلحتهم، وأن الدخول في الدين ليس مجردا عن هذه المعاني، ولا يمثل إرادة الله أن يجر إنسان إلى الدين بطريقة (مطلوب القبض عليك)، وقد تجلت هذه الرحمة النبوية في مجادلة [ ص: 137 ] نبي الله إبراهيم، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، عن قوم لوط، حين أرسل الله الملائكة لإنزال العذاب بهم: ( إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون ) (الأعراف:81)، أي يمارسون الشذوذ، ومع عظيم هذه الجريمة إلا أن ذلك لم يمنع هذا النبي الكريم من الدفاع عنهم، عل أمرهم ينتهي إلى حسن الخاتمة: ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط * إن إبراهيم لحليم أواه منيب * يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ) (هود:74-76).

قوله‏:‏ ‏ ( يجادلنا ) أخذ يجادلنا وأقبل يجادلنا‏.‏ والمعنى‏: ‏ يجادل رسلنا‏.‏ ومجادلته إياهم أنهم‏: ‏‏ ( إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين ) (العنكبوت:31) فقال‏: ‏أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلا من المؤمنين أتهلكونها؟ قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ فأربعون؟ قالوا‏:‏ لا، قال‏: فثلاثون؟ قالوا‏:‏ لا، حتى بلغ العشرة‏.‏ قالوا‏: لا‏،‏ قال‏:‏ أرأيتم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا‏: لا، فعند ذلك قال‏:‏ ‏ ‏ ( قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ) (العنكبوت:32)" [3] . [ ص: 138 ]

وبهـذا يتضح الفرق بيـن من يرفع صوته لدعوة الناس إلى دين الله بباعث الخوف عليهم، والنصح لهم وبين من يرفع سوطه لحمل الناس على الدين بدافع الكراهية لهم والنقمة منهم.. بين من يحمل الدين إلى الناس حبا فيهم، ومن يحمل الناس على الدين حملا خوفا على الدين منهم، دونما تسديد ولا مقاربة.

ومن استقراء ما سبق، فإن الدين منهج حياة للناس، لا مصدر تهديد لهم، فيجب حمله إلى الناس بالترغيب قبل حمل الناس إليه بالترهيب.

التالي السابق


الخدمات العلمية