الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ثالثا: الدعاء للمخالفين قبل الدعاء عليهم:

عن عبد الله بن عبيد، رضي الله عنه، قال: لما كسرت رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشج في جبهته فجعلت الدماء تسيل على وجهه قيل: يا رسول الله، ادع الله عليهم، فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تعالى لم يبعثني طعانا ولا لعانا، ولكن بعثني داعية ورحمة، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ) [1] .

وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إن دوسا عصت وأبت، فادع الله عليها، فقيل: هلكت دوس، قال: ( اللهم اهد دوسا وائت بهم ) [2] . [ ص: 139 ]

عن جابر، رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم اهد ثقيفا ) [3] وثقيف هذه هي التي استقبلت النبي صلى الله عليه وسلم في الطائف شر استقبال، عندما خرج يدعو أهل الطائف إلى الله فقد سلطوا عليه غلمانهم يرجمونه بالحجارة، حتى أدموا قدميه وما كان للحقد والثأر أن يجد له مسلكا إلى قلبه صلى الله عليه وسلم بل دعا لهم بالهداية؛ لأن رسالته الرحمة.

وعن أبي هـريرة، رضـي الله عنه: أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجـل قـد شرب، قال "اضربوه". قال أبو هـريرة: فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، قال: ( لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان ) [4] ، وفي رواية ( ولكن قولوا: اللهم ارحمه، اللهم تب عليه ) [5] .

وعن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمـه عبد الله، وكان يلقب حمارا، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوما فأمر به فجلد، فقال رجل من القـوم: اللهـم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تلعنوه، فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله ) [6] . [ ص: 140 ]

ومن المظاهر الوعظية التي شاعت اليوم ظاهرة التعميم في الدعاء على أعداء الدين، ففي حين صار من الصعب أن تجد من يدعو لهداية الكفار صار من السهل أن تجد من يدعو على الكفار بأدعية شمـولية قد تكون غير شرعية لا أصل لها في الشرع.

إن مثل هذه الأدعية بدعية وعبثية، فإن كان هؤلاء الكفار أعداء محاربين فمواجهتهم ورد عدوانهم باتخاذ الأسباب، لا أن ننتظر خوارق العادات بالدعاء ونحن في بيوتنا، إذ ليست العناية الإلهية غطاء للتخاذل والعجز، ولا بأس أن ندعو بعد اتخاذ الأسباب على من عادانا، وإن كانوا غير محاربين فهم مسؤولية المسلمين: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) (آل عمران :110)، فالله يقول: ( أخرجت للناس ) ولم يقـل: (أخرجت على النـاس)، وأرسـل الله نبيه رحمـة للعالمين: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107)، ولم يقل: (نقمة على العالمين).

فواجب المسلمين أن يرشدوا الناس إلى خالقهم ويعرضوا عليهم البينة، ويقيموا عليهم الحجة، ولا يأتي العذاب إلا كنتيجة لمقدمة دعوية طويلة ثبت خلالها حجة الله على المعاندين: ( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ) (الأنعام:131)، ويقول: ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ) (الأنفال:42)، فأين البينة، وأين تنبيه الغافل عن دين الله؟ [ ص: 141 ]

إن ما ورد في السنة من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على بعض القبائل، لم يكن ذلك خلقا وعادة، كما رأينا، وقد أنزل الله في ذلك قوله: ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ) (آل عمران :128)، جاء في الشرح: "ليس إليك من إصلاحهم ولا من عذابهم شيء، ( أو يتوب ) حتى يتوب عليهم مما هم فيه من الكفر فيسلموا، ( أو يعذبهم ) في الدنيا والآخرة على كفرهم وذنوبهم إن بقوا عليها، ( ظالمون ) أي فيستحقون العذاب" [7] . [ ص: 142 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية