الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
2- الحوار كقيمة دعوية:

شاء الله أن تقوم الحياة على الثنائيات الضدية، فلولا الشر ما عرف الخير، ولولا الجهل ما عرف العلم، ولولا الباطل ما عرف الحق، وهكذا .. ولا معنى لشيء بدون وجود الآخر، وخلق الله الناس بصمات مختلفة ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) (هود:118-119)، ووجود الاختلاف يعني وجود الحاجة للحوار، فالحوار [ ص: 150 ] ضرورة إنسانية لا تقوم معايش الناس إلا به، وقيمة دعوية يسجل غيابه تراجع العمل الإسلامي وانكفاء أصحابه، وعن طريق الحوار يمكن الوصول إلى الحقائق كما هي على الواقع لا كما يحب كل طرف أن تكون.

وتظهر رداءة منتوج العمل الدعوي من خلال طغيان طريقتين كلاهما مغلقة، الأولى الإلقاء المباشر التي تكون من طرف واحد، والثاني التنظيرات الكتابية الموغلة أحيانا في العموميات التي نجد فيها المؤلف يكلم نفسه، وبينهما غاب الانفتاح الذي يأتي من فتح خط التواصل بين عقلين وفكرين وهو الحوار. والآن ومع تعدد الوسائط وتوسع نطاقها عبر الفضائيات وشبكة العنكبوت (الإنترنت) والمواقع الحوارية أصبح تصادم الأفكار وتقاطعها مسألة حتمية لا مناص منها، وهذا ما يشجع عليه الإسلام، لأن الحوار في الإسلام سنة من سنن الخلق، وحقيقة ثابتة تؤكدها المساحة الواسعة التي يحتلها الحوار في القرآن الكريم، وهل كانت دعوة الأنبياء إلا على أساس وجود طرفين وفكرين مختلفين، ولم يعب على الكفار الحوار العقلاني المنصف، بل عيب عليهم اللجج القائم على مجرد المكابرة وإلغاء العقل وتقليد طرائق من سبقهم.

والقرآن يحدثنا عن جولات حوارية عجيبة بين الخالق والمخلوق، بين الله والملائكة، وبين الله والأنبياء، وبين الله والشيطان، وإن الكافر ليأتي يوم القيامة ليجادل عن نفسه بالحلف الكاذب أمام محكمة القضـاء العادل، فيسمع لرأيه ولا يقمع؛ وفي القرآن أيضا نجد حوار أهل النار مع أهل النار، وأهل الجنة مع أهل الجنة، وأهل النار مع أهل الجنة، وحوار بين الأنبياء وخصومهم، ويكفي أن نجد في كتاب الله كلمة (قال) وردت أكثر من (700 مرة)، وكلمة (قالوا) أكثر من (300 مرة)، وهناك العشرات من مشتقاتها الأخرى. [ ص: 151 ]

حاور الله عز وجل الشيطان، مع أن الله هو صاحب العلم المطلق والحكمة المطلقة، فيما يمثل الشيطان عنوان الشر، ولم يحل ذلك دون محاورته، وتحاور المولى عز وجل مع عبيده من الملائكة والإنس، وهو الذي حكمه العدل، وقوله الفصل، وما العبيد كلهم إلا تحت سلطانه وملك يمينه، علمهم قبس من علمه، وتدبيرهم فيض من تدبيره، لا يعرفون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، ولا يملكون صرفا ولا تحويلا.. ومع ذلك يحاور عبيده.. فيا لعظمة الخالق العدل، ما أكرمه، وأحلمه، وأرفقه بعباده.

وكتب التراث تدلنا على أن الحوار مع (الآخر) لم ينقطع قط، ففيه الكثير من المناظرات الفكرية، التي كانت تدور في الحواضر الإسلامية، بين العلماء من ناحية والزنادقة وأهل الملل والنحل من ناحية ثانية.

إن اللجوء إلى أسلوب الحوار، إضافة إلى ما سبق، يعني وجود قاعدة حرة للتواصل ينتفي بوجودها وجود الحجر ومصادرة ما يؤمن به (الآخر)، وجر الناس على نواصيهم بالإكراه، وإنما اعتمد الإسلام القلوب لا القوالب في الاتباع، واشترط الاختيار الحر لنيل الجزاء من الله، وجعل العقل مناط التكليف؛ وإن ما يسترعي الانتباه حقا أن الأنبياء وهم يحملون إلى الناس الحقيقة الكاملة لم يكونوا يتصرفون بمنطق من بيده الحق ابتداء كما قد سبق معنا، ولا بمنطق من بيده التفويض النهائي لسوق الناس إلى الله بغير رضاهم، بل بكونهم أصحاب رسالة إلهية اختصهم الله بها من دون الناس، لتعريف الناس بخالقهم بالدليل والحجة الواضحة، وتلك هي القصة في جوهرها.. تعريف الناس بربهم. [ ص: 152 ]

ولقد قدم الإسـلام قواعد في إدارة الخصومة الفكرية مع (الآخر)، وبطريقة سماوية قوامها العدل، وأساسها الصدق، وهدفها الوصول إلى مكمن الحقيقة المنشودة.

التالي السابق


الخدمات العلمية