الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
4- أهم قواعد الحوار مع (الآخر):

وتكمن في التالي:

- الحوار بالحكمة واللين، وقد سبق تفصيله.

- عدم الدخول في الحوار بحكم مسبق.

- تقديم الحجج والبراهين.

- أن يكون هدف الحوار الوصول إلى الحق.

- عدم السخرية بالآخر وبحجته.

- البدء من المتفق عليه قبل المختلف فيه.

- كل طرف حر في رفض أو قبول النتيجة.

وتفصيلها كالتالي:

أ- عدم الدخول في الحوار بحكم مسبق:

لا يسمى الحوار حوارا إذا كانت الأحكام جاهزة، بل هي جلسة نطق بالأحكام، بل الحوار الحقيقي هو الذي يبنى على قاعدة "إن كنت ناقلا فالصحة، وإن كنت مدعيا فالدليل"، من هنا لا ينبغي أن يجلس الداعية لمجرد [ ص: 154 ] تقديم المواعظ والنصائح لمن يحاوره، على أساس أنه يمثل الحق، والطرف (الآخر) يمثل الباطل، فهو وإن كان الحال كذلك إلا أن المطلوب تقمص الرجل الباحث عن الحقيقة، وافتراض الخطأ على نفسه ولسان حاله يقول: إنني إذ أدعوكم للحوار لن أجلس إليكم ابتداء بحكم مسبق، بل بقاعدة أن أحدنا لا يخلو أن يكون على حق والآخر على باطل، وتحت قاعدة رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب، وهذه القاعدة أثبتها الخالق سبحانه كأحد ضوابط الحوار، قال تعالى: ( .. وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) (سبأ:24)، وفائدته تشجيع الطرف الآخر على تعاطي الحوار عن طريق طمعه في كسب المحاور إلى صفه، ومنها إعطاء (الآخر) الفرصة ليقول كامل حجته دونما تحفظ أو خوف، ليسهل بذلك الإلمام بكامل أطرافها وتفنيدها.

وقد وجدنا بعض المناظرين الذين جندوا أنفسهم للدفاع عن الإسلام من أباطيل أهل البدع والضلالات، لا يكاد أحدهم يترك للطرف الآخر طلقة نفس ليقول فكرته كاملة، ويقعده أمامه لا ليسمع منه بطريقة المناظرة المتكافئة، بل ليضعه في قفص الاتهام ويقيم عليه دعاواه، ولو تركه لساعده على إفراغ ما في جوفه ليكون أدعى للوقوف على كامل الصورة، وأي قمع فكري عن طريق الاستئثار بالوقت وحصر الطرف الآخر في زاوية الاتهام، سيكون بمثابة ضعف وهروب من مواجهة حجج الطرف الآخر، رغم أن الطرف الآخر قد لا يكون على شيء، فأحسن طريقة أن يترك كل طرف يتكلم حتى يتوقف، ثم يأخذ المدة الزمنية الذي أخذها لعرض حجته. [ ص: 155 ]

ب- تقديم الحجج والبراهين:

من البدهي في الحوار البناء أن تجد مع كل طرف معطياته من الحجج والبراهين، فالحوار معادلة قائمة على مقدمات ونتائج، والأدلة هي المقدمات التي يفترض أن تقود إلى النتائج: ( .. قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) (النمل:64)، ( أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي ) (الأنبياء من 24)، ( قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ) (الأنعام:148)، ( ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين ) (الأحقاف:4)، ( قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) (آل عمران:93).

وتنقسم الأدلة إلى عقلية ونقلية، فالأدلة العقلية هي المشترك العام المتفق على حجيتها، أما الأدلة النقلية فالطرف الآخر على تفاوت بين ما يقبل منها وما يرد، فإذا كان ملحدا لا يؤمن بالقرآن أو مبتدعا لا يؤمن بالسنة، فإن النص الشرعي للقرآن أو للسنة أو لكليهما لا معنى له؛ لأنه ليس له عند الطرف الآخر صفة الإلزام، ولذلك فإن أولويات أدلة الاحتجاج تتفاوت بين مناظر وآخر، فإذا كان الطرف الآخر لا يؤمن بالأدلة الشرعية فلا مكان للنصوص الدينية في المناظرة إلا ما وافق منها الأدلة العقلية، وإذا كان الطرف المحاور مسلما وللنص حجيته، فإن البدء يكون بالنص، فالمفترض أن يكون وقافا عند كلام الله ورسوله. [ ص: 156 ]

ج- أن يكون هدف الحوار الوصول إلى الحق:

من أهم عناصر نجاح أي حوار هو أن تسوده اللغة العليمة الهادئة، واحترام كل طرف للآخر، وليس مجرد إفحام الخصم، وتسجيل نصر ضده هو الهدف من الحوار، بل الوصول إلى الحق المنشود هو الهدف والغاية، لذا فإن الحوار إذا أدى إلى مراء ولجج عقيم يكون قد خرج عن الهدف المنشود، الذي هو استمالة القلوب وتأليفها وليس استعداءها ووضعها في قفص الإدانة؛ إن كسب نقطة انتصار على المحاور لا يعني كسب قلبه بالضرورة، بل قد يكون خسارته، ما لم يؤخذ باللين المشفوع بالمحبة والإخلاص.

وقد كان العلماء يرجون أن تظهر الحجة على لسان الخصم ومما حفظ عن الإمام الشافعي قوله: "ما كلمت أحدا قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان، وتكون عليه رعاية الله وحفظه.

وما ناظرني فباليت ! أظهرت الحجة على لسانه أو لساني".

ويقول الغزالي، أبو حامد: "التعاون على طلب الحق من الدين، ولكن له شروط وعلامات؛ منها أن يكون في طلب الحق كناشد ضالة، لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد معاونه. ويرى رفيقه معينا لا خصما. ويشكره إذا عرفه الخطأ وأظهره له.." [1] .

ويقول ابن رجب الحنبلي: استحسن الإمام أحمد ما حكي عن حاتم الأصم أنه قيل له: أنت رجل أعجمي لا تفصح، وما ناظرك أحد إلا قطعته، فبأي شيء [ ص: 157 ] تغلب خصمك؟ فقال: بثلاث: أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ لساني عنه أن أقول له ما يسوؤه، فقال أحمد: (ما أعقله من رجل).

فرد المقالات الضعيفة، وتبيين الحق في خلافها، بالأدلة الشرعية، ليس هو مما يكرهه أولئك العلماء، بل مما يحبونه ويمدحون فاعله ويثنون عليه"

[2] .

وقد قصر فهم البعض عندما ظنوا أن قوة الحجة تكمن في قوة الصوت، فاستبدلوا نداء العقل بصراخ العواطف، نعم ربما اضطر المحاور إلى رفع صوته ولكن يشترط أن يكون ذلك مواكبا لقوة حجته، وكم يكون حجم الخلل واضحا عندما يرتفع الصوت في مقابل ضعف الحجة، فإما أن يخفض المحاور صوته إلى مستوى حجته، أو يرفع بحجته إلى مستوى صوته.

وإذا عدنا إلى نوع اللغة التي يجب أن تكون بالحسنى فإنه يتعين علينا التذكير بالاستثناء المذكور في الآية: ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم ... ) (العنكبوت:46)، فمراعاة الذوقيات بالخطاب المؤدب يكون مع الطرف المؤدب، الباحث عن الحقيقة، الذي لا يحمل ضغينة أو موقفا مسبقا من الدين، أما الذي يطلب الحوار بهدف النيل من الإسلام ومقدساته بالشتائم والاستـهزاء، وفتنة الناس بتلفيق الأباطيل، وقلب أوجه الحقائق، فهذا من الذين ظلموا، ولغة الملاينة مع طرف كهذا بمثابة خذلان للدين، وترك ظهره مكشوفا لسهام الأعداء، والله يقول: [ ص: 158 ] ( والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ) (الشورى:39)، ويكون الانتصار بالرد بنفس الأسلوب، من غير اللجوء إلى الكذب، وكشف أهدافه الخبيثة، وإن كان في هذا خروج عن الاعتدال إلا أنه مطلوب لتحجيم أصحاب الباطل، والله يقول: ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما ) (النساء:148).

وما أكثر أصحاب التضليل الفكري اليوم من أبناء جلدتنا، الذين صاروا يتباهون على بعض القنوات الحوارية بأنهم يتعرون من هويتهم جهارا، ويتاجرون بكرامتهم في أسواق النخاسة بثمن بخس دراهم معدودة، فيمجدون أعداء الإسلام، بل أعداء الحياة والإنسانية الذين يتلذذون بقتل أطفالنا، الذين يحملون قلوبا سوداء ملتاثة بهوس الحقد، ما أكثر ما تجد اليوم من يمجدهم ويبارك أفعالهم، ممن يسمون بالمفكرين وأصحاب المراكز البحثية، وليس في الحقيقة كذلك.

د- البدء من المتفق عليه قبل المختلف فيه:

إن مما يعمق العداوة والشقاق بين متنافرين، هو النظر إلى الآخر من زاوية الافتراق، وتحاشي النظر إليه من زاوية الاتفاق، فلا يبقى فيه إلا الخصم الألد.

ولا ريب أن ثمة مشتركا إنسانيا بين إنسان وآخر، ومشتركا أخويا بين مسلم ومسلم، وعند الحوار يكون من الجميل المرور على المشترك أولا، ولفت النظر إلى المتفق عليه قبل المختلف فيه؛ لأن ذلك خليق أن يقرب الطرفين من بعضهما، وأن يحرص كل واحد على ردم ما بقي من هوة إن توفر فيهما عامل الإخلاص. [ ص: 159 ]

أما إذا حرص كل طرف على إعطاء إشارة أن لا اتفاق ولا التقاء في نقطة، فإن النيات عندئذ تكون مبيتة لعدم الوصول إلى كلمة سواء.

ومن حمل هم الدعوة إلى الله ليست مصلحته في عدم تقريب المسافة بينه وبين (الآخر)، وليس من المصلحة الدعوية المواجهة الضدية مع المجتمع المحيط، فثمة متسع للتذكير بالأخوة الإسلامية أو الإنسانية، والإغراء بما هو قائم في الناس من نظم القيم الثابتة التي لا يختلف معهم فيها، ثم ينتقل إلى غيرها عندما تواتيه الفرصة، فهذا جعفر بن أبي طالب، رضي الله عنه، يخاطب النجاشي في ما هو محل اتفاق بين عامة الناس، مثل صلة رحم وترك الفواحش، ولم يكن يشأ أن يكلمه في المفترق فيه من أمر عيسى، عليه السلام، والقول بنبوته في الإسلام أو ببنوته في الفكر المسيحي، قال:

"أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله عز وجل لنوحده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دون الله، من الحجارة، والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وشهادة الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه، على ما جاء به، فعبدنا الله وحده، لا نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فغدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى [ ص: 160 ] عبادة الأوثان، من عبادة الله عز وجل، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا، وظلمونا، وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.. " [3] .

بدأ جعفر، رضي الله عنه، بقواعد إنسانية عامة لا ينكرها أحد من الناس، ثم تأمل كيف أتى على ذكر توحيد الخالق وعدم الشرك بالله بعد ذلك، فذكر مزايا الدين المعروفـة عند الأمم والشعوب، لا بد أنـها مما تحظى بالاحترام، وبما أنه دخل من المتفق عليه أولا فإن ورود المختلف فيه ضمنا جدير أن يغتفر، إما لأنه اكتسب قيمته من سابقه، أو لأن ورود المتفق عليه قبل المفترق فيه ضيق من الهوة، ثم ختم جعفر، رضي الله عنه، كلامه بالثناء الضمني على النجاشي، من أنهم اختاروا جواره على من سواه، حتى أن عمرو بن العاص مبعوث قريش قبل إسلامه فطن إلى هذه اللغة المشتركة، واللغة التصالحية، فلفت نظر الملك إلى المفترق فيه معهم بالقول الصريح، أنهم يقولون في عيسى قولا عظيما، ويريد وصف القرآن بأن عيسى، عليه السلام، (عبد الله ورسوله)، كما هو معروف في القصة، ولم يتطرق إليها جعفر بالقول الصريح، لأن الوقت لم يكن ملائما لفتح جدل فكري كبير كمسألة عقيدة النصارى في عيسى، ولكن بعد أن طلب منه ذلك صدع بالحق، ولم يزد على رأي الإسلام في عيسى ولم ينقص. [ ص: 161 ]

والقرآن الكريم يخاطب أهل الكتاب في المشترك الأول، وهو عبادة الله وحده، وعدم الإشراك به قبل تقديم التفاصيل، وعبادة الله لا ينكرها أحد منهم، ثم ضيق الخلاف في نقطة واحدة وهي الشرك بالله: ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) (آل عمران :64).

ومن أدلة ذلك قوله: ( وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون ) (البقرة:41).

فجاء طلب الإيمان بالقرآن من وصفه مصدقا لما معهم وهما التوراة والإنجيل، أي أن ميزة هذا الكتاب هو أنه معترف بالكتابين ويلتقي معهما في وحدة المصدر، وأنه لم يأت ليلغيهما بل مصدقا لهما، مصدقا بالآيات غير المحرفة أو التي هي باقية عندهم ولكنهم أخفوها.

فما بقي من مبررات الرفض، والعجيب أن عبارة ( مصدقا لما معكم ) تكررت في القرآن الكريم في غير موضع، كنقطة اتفاق مرضية لأهل الكتاب، لأنها ضمان لهم بأن هذا الدين يعترف بما يعتدون به من شرف الاختصاص بالرسالات، وما لهم مع السماء من سابق عهد، فلعل تفسير مراد الله هو أن هذا الدين يقر لكم بهذه المكانة الدينية التي كانت لكم، ولن تكون محل خلاف، وأن نظرة الإسلام إليهم ليس كالكفار الأميين، وأن القرآن يحفظ للكتابيين صلة القربى بما تضمنه من مؤكدات التصديق لو أنهم آمنوا بالله. [ ص: 162 ]

ولنتأمل في الآية التالية: ( قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم .. ) (المائدة:68) قد يتبادر إلى الذهن أن الآية تدعو أهل الكتاب إلى تفعيل شريعة العهدين كشريعة باقية غير منسوخة، بل المراد إذا أقمتم التوراة والإنجيل ففيها لزوم التصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم والعمل بشريعته، وإنما لم يأمر أهل الكتاب رأسا بذلك؛ لما ذكرنا وهو الانطلاق مما عندهم، الذي يؤمنون به ويؤمن به المسلمون، أي الذي لا خلاف عليه فهذا أدعى للإذعان وتقريب المسافة، قال ابن كثير، رحمه الله، في تفسير الآية: "أي من الدين حتى تقيموا التوراة والإنجيـل، أي حـتى تؤمنـوا بجميع ما بأيديكم من الكتب المنـزلة من الله على الأنبياء، وتعملوا بما فيها، ومما فيها الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان بمبعثه، والاقتداء بشريعته، ولهذا قال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: في قوله: ( قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ) : يعني القرآن العظيم" [4] .

على أن هذا الأسلوب في ملاينة أهل الكتاب، لا يعني أنه مفض دائما إلى الهدف، بقدر ما هو قاعدة أخلاقية دعوية ثابتة لا يقوم على حساب النتائج ونوعها، ولئن كانت مواقف أهل الكتاب هي العداء التاريخي للمسلمين، والتربص بهم، والحقد عليهم، فإن ذلك لا يلغي المنهجية الثابتة، خصوصا في مجال لغة الخطاب الدعوي، ويبقى لفكرة التدافع ميادينها، فلغة الدعوة غير لغة الجهاد (جهاد اللسان وجهاد السنان). [ ص: 163 ]

هـ- عدم السخرية بالآخر وبحجته:

يقول الله تعالى في شأن محاورة أبينا إبراهيم للملك النمرود: ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين ) (البقرة:258).

إن حجة النمرود في مسألة الإحياء والإماتة متداعية، إذ الدليل على حدوث هذه الأشياء أن ترى مشاهدة بعد عدمها، وعدمها بعد وجودها، وهذا دليل على وجود الفاعـل المختـار ضرورة؛ لأنها لم تحدث بنفسها، وأما دليله فسلوك إجرائي لما هو قائم حيث أتى باثنين أمر بقتل أحدهما، وترك الآخر، ولا علاقة لهذا بالإحياء والإماتة ومعناهما، إلا أن هذا النوع السـاذج من الاستدلال لم يجعله أبونا إبراهيم، عليه السـلام، مادة للتفكه والسخرية، ولم ينشغل به بل تركه له وسلم له تسليم جدل، فشواهد عظمة الخالق من الاتساع بحيث لا تستحق مراجعة ملك بابل فيها، فانصرف إلى مشيئة أخرى ليثبت عجزه وقدرة الخالق.

وهذا عكس الإنسان المكابر، فبضاعة الاستهزاء والسخرية بالمحاور هي كل رصيده، كما قال الله تعالى: ( ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين * وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ) (الحجر:10-11)، ( ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ) (الأنعام:10). [ ص: 164 ]

و- كل طرف حر في رفض أو قبول النتيجة:

لا يوجد بيد الداعية سلطة دينية على إجبار أحد على ما يدعو إليه، مهما بدت حججه قوية، والهدف من إقامة الحوار يتحقق بإقامة الحجة، والتذكير بسوء العاقبة لمن لا يذعن لسلطان العقل والنقل، وإن أفضى إلى التسليم للحق فهو الغاية، وإن أفضى إلى العنت والاستكبار فأمره موكول إلى الله، يحاسبه على محض اختياره: ( قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ) (هود:28)، ( ... وما أنت عليهم بجبار ... ) (ق:45)، ( ... أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) (يونس:99)، ( فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ .. ) (الشورى:48)، قال شيـخ الإسـلام ابن تيمية: "لم يكن عندنا نزاع في أن الأقوال لا يثبت حكمها في حق المكره بغير حق، فلا يصح كفر المكره بغير حق، ولا إيمان المكره بغير حق، كالذمي الموفى بذمته، كما قال تعالى: ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي .. ) (البقرة:256)" [5] .

وقال في تفسير الآية: "ثبت أن هؤلاء كان آباؤهم موجودين تهودوا، ومعلوم أن هذا دخول بأنفسهم في اليهودية قبل الإسلام وبعد مبعث المسيح، عليه السلام، وهذا بعد النسخ والتبديل، ومع هذا نهى الله عز وجل عن إكراه [ ص: 165 ] هؤلاء الذين تهودوا بعد النسخ والتبديل على الإسلام، وأقرهم بالجزية" [6] ، ذلك أن الحرية شرط الثواب والعقاب، فلو أجبر الله العباد على الطاعة لبطل الثواب، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب، ولكنه أمرهم تخييرا ونهاهم تحذيرا، وجعل للإنسان اختيار مساقه بيده، إما إلى الجنة أو إلى النار، وليست العبرة في النهاية بقوة الحجة، بل تكمن أولا في الاستعداد لسماع الحجة وتقبلها، فقد تكون الأدلة ظاهرة، ولكن المحاور يحمل استعداد مسبقا لغير التسليم مهما ظهرت شواهد الحق على لسان الداعية إلى الله، كما قال تعالى: ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون * ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ) (البقرة:6-7).

والإنسان المعاند صاحب القلب المريض المحكوم بهواه لا يقبل لكل مشكلة حلا بل يضع في كل حل مشكلة، ويحول الدليل إلى دليل على شبهة جديدة ليتفلت من شباك التسليم، كما جاء في سورة الحجر: ( ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ) (الحجر:14-15)، وقال عز من قائل: ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا * أو تسقط السماء كما زعمت [ ص: 166 ] علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا * أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ) (الإسراء:90-93).

وقد يقول القائل، ولماذا لم ينـزل الله عليهم كتابا ليقرؤوه إذا كان هذا هو شرطهم الأخير، وقد جاء الرد في قوله تعالى: ( ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ) (الأنعام:7)، فلا هذا الشرط ولا غيره يمكن أن يضع نهاية للجدل العقيم، وقد حسموها بالرفض القاطع للتسليم: ( وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين ) (الأعراف:132)، بل قد لا تزيدهم كثرة الآيات والأدلة إلا عنادا واستكبارا ونفورا: ( وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ) (نوح:7)، إذن ما الحل إذا كانت حتى المعجزات الخارقة لنواميس الطبيعة الدالة على صاحب القدرة المتصرفة في شؤون الكون غير مجدية؟ وما الحل إذا كان التحريض على تفعيل العقل وإلغاء المورثات البالية والانحياز للمنطق ونداء الفطرة السليمة لم يجد فتيلا؟ الحقيقة لا حل إلا ما قال الله: ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها .. ) (الكهف:29).

لقد تولى الله القضية وحسمها بنفسه، وجعل لكل صاحب وجهة هو موليها نظير ما اختار من الجزاء، وما جعلت الحياة إلا لهذا النوع من الابتلاء [ ص: 167 ] وهو المفصل في الآية: ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) (هود:118-119).

وعلى هذا الأصل فليس على من أراد للناس الخير أن يحمل نفسه العنت ويجعل من عدم اقتناع فرد أو جماعة بفكرته مادة لليأس وجلد الذات، فهناك ميادين يمكن خوضها لتحقيق نفس الغاية، وإذا كانت هذه البيئة أو تلك كالأرض التي لا تمسك الماء ولا تنبت الكلأ، فعسى أن تجد بذرته الأرض النافعة التي تثمر فتقر بها عينه ويسر بها خاطره، والنبي صلى الله عليه وسلم بذر بذرة التوحيد في مكة فأنبتت في المدينة زرعا: ( أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه ) (الفتح:29)، كما تذكر الآية الكريمة.

التالي السابق


الخدمات العلمية