الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ثانيا: مراعاة اختيار المفردات الدعوية:

1- مراعاة المخاطب في استبدال صيغ الأحكام:

تتضح أهمية تعدد المفردات المعجمية للداعية من تعدد الظروف التي قد تواجهه، ومثلما يجب أن يكون ذا مخزون وافر من المفردات المترادفات، من المهم أن تكون لديه مهارة في حسن الاختيار للمفردة وتوجيهها نحو الظرف الملائم، وهذه من أدق المهمات الاتصالية وأكثرها حساسية؛ لأن الكلمات قد تكون متقاربة في الظاهر إلا أن المسافات الفاصلة بين معنى وآخر قد يترتب عليها أحكام وتوصيفات متباعدة، وكمثال على ذلك كلمة (الإيمان) أخص من كلمة (الإسلام)، وكلمة (الإحسان) أخص من كلمة (الإيمان)، مثلما تختلف كلمة (كفر) عن (فسق) عن (عصيان)، فهذه الأخيرة يصل بينها جامع الانحـراف، ولكن كل مفردة تختلف عن الأخرى في المعنى، وفي لغة الاقتصاد - مثلا- تختلف عبارة (تذبذب قيمة العملة) عن (تراجع).. عن (ضعف).. عن (انهيار)، وهذه المترادفات قد تستعمل من قبل أطراف عدة، كل طرف وفق فهمه أو أسلوبه، أو وفق مصلحته في اختيار نوع اللفظة المختارة، فقد تختار الصحف الحكومية مثلا كلمة (تذبذب) بينما قد تختار صحف المعارضة لفظ (انهيار)، فهذا التدرج في المعاني يلبي حاجات المتكلمين، وما يتفق مع مواقف الناس وطبائعهم، وأذواقهم، وأساليبهم، وأفهامهم.

والشيء ذاته ينطبق على المفردات الدعوية، فهي مواد خام، حيادية بذاتها حتى تصاغ في قوالب معينة، وتفرغ في ظروف لغوية خاصة، ونسوق لذلك [ ص: 32 ] بعض الأمثلة الكاشفة لنفرق بين الأحسن والأخشن في الاستبدال الرأسي، وهو الذي يكون على مستوى استبدال مفردة بأخرى مرادفة لها، فلو أن إنسانا أخطأ وأردنا أن نوصل إليه الرسالة بتقرير حدوث الخطأ، فإن العبارات الاستبدالية التالية تختلف عن بعضها في دقائق التبليغ رغم أن مؤداها واحد، حيث نلحظ الفرق على نحو تصاعدي من التضمين إلى المباشرة من قولنا: (لم يتم فعل الصواب) إلى (لـم تفعل الصواب) إلى (فعلت الخطأ) إلى (لقد فعلت الخطأ).

فقولنا: (لم يتم فعل الصواب) فيه حذف الفاعل، كأنما هناك خطأ قد حدث، ولا يشير اللفظ إلى الفاعل منعا للإحراج من ذكره، ونفي فعل الصواب لا يلزم منه وقوع الخطأ، ولكنه محتمل، وقولنا: (لم تفعل الصواب) ذكر فيها الفاعل، ولكن استبدل تقرير فعل الخطأ الذي في العبارة التالية: (فعلت الخطأ) بنفي فعل الصواب، والعبارة محتملة لفعل الخطأ ولكنها ليست بحتم كالعبارة (فعلت الخطأ)، وأوضح مما سبق في المباشرة العبارة الأخيرة؛ لأن فيها ذكر الفاعل وتقرير الحكم وتوكيده باللام و"قد".

ولا تقف صور الاستبدال عند وجه، فقد يتم استبدال أسلوب الإيجاب بأسلوب النفي، مع عكس معنى الكلمة الموجبة أو المنفية - كما سبق - وكذا استبدال اسم بفعل، فأن تقول: (أنت تعصي الله) غير قولك: (عصيت الله)؛ لأن عصيت فعل ماض انتهى، ولا يفيد التكرار بخلاف الفعل المضارع الذي يفيد تكرار الفعل، ولكن أشد منه أن تقول: (أنت عاص لله) فـ (عاص) اسم فاعل يفيد دوام الحدوث وفيها ذكر الذات؛ لأن الصفة المشتقة فيها معنى الفعل والاسم، والفعل مقترن بالحدث، والاسم يفيد الثبات والسكون. [ ص: 33 ]

وإذا انتقلنا إلى أساليب الخبر والإنشاء، سنجد مساحة واسعة للاستبدال، فمعلوم أن الإنشاء صيغ طلبية، والإكثار من الطلب لا سيما في الأمر والنهي من شأنه أن يفسر بتوجيه الأوامر والنواهي على وجه الإلزام، مع أن المسألة مخاطبة العقل لإحداث استجابة طوعية، فما بال كثرة الأوامر، ولسنا هنا في معرض الحديث عن الأوامر الشرعية بل عن التوجيه الإرشـادي الذي يقود إلى الله، فـ"قد يقتضي المقام تحاشي إيراد الطلب بصيغة الأمر لما فيه من معنى الإلزام؛ لأن الأمر إنشاء طلبي، وهو في علم البيان على أوجه: من الأدنى إلى الأعلى، بمعنى الدعاء على سبيل التضرع، ويأتي بمعنى الالتماس عند استواء المتكلم والمخاطب، ويأتي من الأعلى إلى الأدنى إذا كان من جهة الآمر على المأمور، ويأتي لمعان أخرى، وقد يكون في إلقائه بصيغته مظنة للتأويل واللبس، إذا جاء ممن ليس في موقع من يأمر، فيعدل عنه إلى الماضي أو إلى المضارع، وذلك إجلالا للمخاطب لمـكانته، - أو تأليفا له - فتستبدل صيغة: (افعل) بـ (فعلت) أو (تفعل) مع أداة قلب نحو: (لو فعلت كذا) بصيغة الماضي بدلا من (افعل كذا) أو (لو تفعل كذا) بصيغة المضارع، وقد يأتي بصيغة المبني للمجهول (هلا فعل كذا) (أرى أن يفعل كذا)" [1] . وقد حفل النص القرآني بأسـاليب العرض والتحضيـض عوضا عن المباشرة في التوجيه من مثل: ( هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ) (الصف:10) ، ( من ذا الذي [ ص: 34 ] يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ) (البقرة:245) ، ( ألا تحبون أن يغفر الله لكم ) (النور:22) ، ( أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ) (المائدة:74).

من هنا فإن ثمة فروقا دقيقة يجب مراعاتها، على أن من يدعو الناس إلى الخير من حيث المبدأ لا يوجد ما يضطره إلى إطلاق الأحكام، أو توجيه الأوامر؛ وصحيح أن للمقام دورا أيضا في اختيار العبارة، ولكن إذا كان في العدول عن العبارة الشديدة إلى اللينة فيه مصلحة دعوية فهي الأصل التي يبنى عليها.

يقول ابن خلدون في المقدمة: "إذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة، ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال، بلغ المتكلم حينئذ الغاية من إفادة مقصود السامع، وهذا هو معنى البلاغة" [2] .

والنظر الدائم في الظروف المحيطة بالنشاط اللغوي ومراعاتها ينمي من مهارات الاتصال الإنساني والقدرة على التحويل والاستبدال اللغوي، ويعزز من قواعد التخاطب، التي تتوخى وضع الأمور في نصابها؛ ولسوء الحظ أن بعضا ممن نسبوا أنفسهم للعمل الإسلامي يرمون الكلام أحيانا على عواهنه، كحاطب ليل، لا يدرون على أي شيء تقع ألسنتهم، فرموا غيرهم بسهام التجريح، وكثرت عبارات التكفير، والتفسيق، والتبديع، ضد أناس من أهل القبلة، ووقع في مزالق الأسلوب الخاطئ غير قليل من أصحاب الأهواء، وكان [ ص: 35 ] من ضحاياهم علماء عاملون تم تقصدهم بالجافي من القول، وتم رميهم بأحكام طائشة، أتت على أيمانهم من القواعد، وقيل عنهم إنهم أخطر من أهل الضلالات والأهواء؛ لأن أولئك واضحون لكن هؤلاء أئمة ضلالة يقودون الناس إلى محدثات البدع باسم الدين، وهذا من تلبيس إبليس.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال وإلا رجعت عليه ) [3] .

ومما يزيد من الإحساس بواقع السلبية في صعيد إذكاء التراشق الفكري وإنتاج المصطلحات التبديعية بين المسلمين أن يستأثر هذا الوضع بالكثير من الجهد والوقت على حساب التفرغ لقضايانا الكبرى، والتصدي لشلال الشبهات والأباطيل التي يقذفها أعداء الأمة كل يوم بالإسلام وأهله، ويصر البعض إلا أن يتفرغ لما هو شأن إلهي من التدخل في علم السرائر، وإصدار الأحكام يمينا وشمالا ولا يبالي على أي عرض وقع لسانه.

قال الإمام ابن تيمية، رحمه الله، في الفتاوى: "لا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة فإن الله تعالى قال‏: ‏ ‏ ‏ ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) ‏ (‏البقرة‏:285‏)‏‏. وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم‏. والخوارج المارقون الذين [ ص: 36 ] أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم، قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحـابة والتابعين ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص وغـيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين‏،‏ فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار، ولهذا لم يسب حريمهم؛ ولم يغنم أموالهم" [4] .

وقال الإمام الذهبي، رحمه الله: "...ثم إن الكبير من أئمة العلم، إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه، وورعـه، واتباعه، تغفر له زلته، ولا نضـله ونطرحـه وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك"

[5] .

التالي السابق


الخدمات العلمية