الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ثالثا: تحاشي أسلوب التعيين في النقد:

كان النبي صلى الله عليه وسلم ربما ساءه شيء من تصرفات عامة يقع فيها بعض أصحابه، فيقوم فيهم خطيبا بقاعدة ( ما بال أقوام ) فلا يزيد عن قوله: ( ما بال أقوام ) ، فيكتفي بالتلميح بدل التصريح، وبالتورية بدل التعرية، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل ما بال فلان يقول، ولكن يقول: ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا ) [1] ؛ ومن ذلك قوله: ( ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست فى كتاب الله؟ فمن اشترط شرطا [ ص: 74 ] ليس فى كتاب الله فليس له وإن اشترط مائة مرة ) [2] ؛ "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء فى صلاتهم" [3] ؛ ( ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية ) [4] ؛ ( ما بال أقوام إذا غزونا يتخلف أحدهم عنا له نبيب كنبيب التيس ) [5] .

ونزلت آيات في أعلام من المشركين والمنافقين، حاربوا الدعوة وأغلظوا لها الخصومة، سواء فيمن مضى من الأمم السابقة أو من كان من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وربما كان بأيدينا ملحمة من أسماء تلك الأعلام الجاهلية لو اقتضت الحكمة الإلهية أن يخلد أصحابها بالهجاء والتشهير، غير أنه لم يكن في هذا مصلحة دعوية فتوقف القصص القرآني عند مجرد استخلاص الدروس والعبر لعلها تكون لمن خلفهم موعظة وذكرى للذاكرين.

وسنجد في أسبـاب نزول بعض الآيات أنـها نزلت في أبي جهل وأبي ابن خلف والوليد وغيرهم، فنـزلت في أبي جهل: ( إن شجرت الزقوم * طعام الأثيم ) (الدخان:43- 44) [6] ، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي، رضي الله عنه، في قوله: ( أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو [ ص: 75 ] خصيم مبين ) (يس:77)، قال: نزلت في أبي بن خلف [7] ؛ وقوله تعالى: ( ذرني ومن خلقت وحيدا ) (المدثر:11) نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، أحد رؤساء قريش [8] ، وكان من أكثر الناس حربا للإسلام.. وقال عز وجل: ( ويل لكل همزة لمزة * الذي جمع مالا وعدده ) (الهمزة:1-2) قيل نزلت في الأخنس بن شريق [9] . وقوله تعالى: ( ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ) (الفرقان:27) نزلت في عقبة بن المعيط الذي خالف اتباع النبي إرضاء لأمية بن خلف [10] .

وأخـبر الله عن الذين جاءوا بالإفك عصبة في حـادثة الإفك بالمدينـة، ولم يسمهم لنا، واكتفت النصوص بالضمائر الإشارية، وكان منهم (عبد الله بن أبي) وهو رئيس العصابة: ( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ) (النور:11)، الذي تولى كبره ذكر في الصحيحين أنه رأس النفاق عبد الله بن أبي [11] . [ ص: 76 ]

فإذا كان في الرسـالة الإبلاغية كفاية لتحقيق المقـاصد الشرعيـة فقد لا يضيف ذكر الأسماء أحيانا سوى بلبلة في الصفوف، لاسيما إذا كان المعني منضويا داخل المجتمع المسلم.

وقد يضبط المسلم متلبسا بخطأ أيضا، ومن السنة عدم التشهير به أمام الناس، عن معاوية بن الحكم قال: ( بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فو الله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن... ) [12] .

يجب أن يلفت انتباهنا في هذا الحديث عدم سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن المتكلم في الصلاة، والاكتفاء بشرح ما يكون في هذه العبادة وفي هذا كفاية لإيصال الرسالة؛ إن القاعدة في لغة الخطاب الدعوي هو التركيز على مضمون الرسالة الدعوية، وتحاشي ذكر الأسماء طالما كان في ذكرها فتنة للناس أو تنفير.

وهناك حادثة أخرى عكس الأولى، مروية عن أنس: "أن رجلا جاء فدخل الصف وقد حفزه النفس فقال: الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، قال: ( أيكم المتكلم بالكلمات ) فأرم [ ص: 77 ] القـوم، فقال: ( أيكم المتكلم بها، فإنه لم يقل بأسا ) فقال رجل: جئت وقـد حفزني النفس فقلتها، فقال: ( لقد رأيت اثني عشر ملكا يبتدرونها أيهم يرفعها ) [13] .

في هذا الحديث نجد إلحاح النبي صلى الله عليه وسلم على معرفة من القائل لأن فيه خيرا لصاحبه وبشارة، وفي ذكر اسمه اعتراف له بهذه الخاصية.

وقد يحتج علينا في هذا المجال بأدلة مقابلة فيها ذكر أشخاص بأعيانهم وفي معرض القدح وليس المدح، سواء في القرآن الكريم أو السنة، فقد جاء في القرآن الكريم ذكر: (آزر، وفرعون، وهامان، وقارون، وجالوت، وأبو لهب)، والنبي صلى الله عليه وسلم أطلق اسم (أبو جهل) على أبي الحكم عمرو بن هشام، و (أبو لهب) على (عبد العزى بن عبد المطلب)، و (مسيلمة الكذاب) وهو مسيلمة بن حبيب الحنفي، وجاءت تسمية أبي جهـل من الجهل والطيش الذي تميز به صاحبه، وأبا لهب لحمرة في وجهه ولأنه من أصحاب النار، والكذاب لأنه ادعى النبوة.. وللإجابة عن إطلاق هذه الأوصاف القادحة على خصوم الدعوة يمكن تلخيصها في نقطتين:

الأولى: ما ذكر من أسماء المخالفين في القرآن الكريم على حجمه الكبير وفي السنة المطهرة على سعتها تعد قليلة ونادرة، وهو أمر مبهر أن نجد هذه التخلية الواسعة لذكر الأعداء، حتى المنافقين لم نجد كشفا بأسمائهم بل كانوا ضمن السر النبوي لا يعلمهم أحد غيره، عدا حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، الذي كان مستودع سره، جاء في شرح البخاري: "أن حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، [ ص: 78 ] كان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن المنافقين، وكان يعرفهم ولا يعرفهم غيره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أسر إليه بأسماء عدة من المنافقين وأهل الكفر والذين نزلت فيهم الآية ولم يسر إليه بأسماء جميعهم" [14] .

فلنسأل أنفسنا: لماذا هذه السرية؟ إن لم تكن الحكمة هي في الستر في الغالب وليست في التشهير.

الثانية: عندما يتبين أن المحارب لدين الله قد نصب نفسه رمزا للشر، وجعل من نفسه رأس حربة ضد الدين، وأنه صار مكمن فتنة ومجال تأثير في الناس، وتبين أن وراء هذا الموقف عداوة مترصدة، لا جهل بالحق فيرجى صلاحه، فإن الحكمة في وضع كهذا تكمن في فتح خط المواجهة الفكرية مع العدو الخبيث المترصد، ونشر أوساخه على حبل الغسيل، ونعته بما هو أهله، وقد وصف الله الوليد بن المغيرة في سورة القلم بأوصاف قاسية ألزمته الذلة والصغار، قال الله: ( ولا تطع كل حلاف مهين * هماز مشاء بنميم ) ، ( مناع للخير معتد أثيم * عتل بعد ذلك زنيم * أن كان ذا مال وبنين * إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين * سنسمه على الخرطوم ) (القلم:10-16).

( حلاف ) : كثير الحلف، ( مهين ) : حقير، ( هماز ) : عياب مغتاب، ( مشاء بنميم ) : ساع للكلام بين الناس للإفساد بينهم، ( عتل ) : غليظ [ ص: 79 ] جاف، ( زنيم ) : دعي في قريش، ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة، ( سنسمه على الخرطوم ) : سنجعل على أنفه علامة يعير بها ما عاش، فخطم أنفه بالسيف يوم بدر، قال ابن عباس: "لا نعلم أن الله وصف أحدا بما وصفه به من العيوب فألحق به عارا لا يفارقه أبدا" [15] .

إن ترك العدو المحارب للدين يصول ويجول ويسدد حربه وحرابه ضد الدين في مقابل حالة من التستر عليه بعبارات من نحو: (ما بال أقوام)، قد يكون سببا في التمادي واشتباه الغفلة، وقلة الحيلة، والعجز عن المواجهة؛ وإذا قسنا هذا العجز على واقع بعض رموز الدين من العلماء والدعاة الكبار في بلادنا الإسلامية، حيث صاروا يعانون من حالة احتباس في الألسنة، فلا يكادون يشيرون إلى أحد بكلمة حق إلا بعبارات عامة مائعة وفضفاضة اعتلالا بحجة عدم التشهير.. إن هذه الفئة من العلماء لا تسمي الأشياء بمسمياتها فيكونون جزءا من تضليل الناس بواقع أمتهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية