الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
6- بعض طرق الاستدلال:

أ- قياس الأشياء بنظائرها:

يفيد قياس الأشياء بعضها ببعض تقريب الفكرة؛ لأن القياس يعـني قياس ما هو مجهول بما هو معلوم، فنأخذ من أحداث التاريخ وتجارب الحياة مادة للتمثيل، نفتح بها نوافذ جديدة على العقل والمنطق، جاء في كتاب التعريفات: "القياس: قول مؤلف من قضايا، إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر، كقولنا: العالم متغير وكل متغير حادث، فإنه قول مركب من قضيتين إذا سلمتا لزم عنهما لذاتهما العالم حادث، هذا عند المنطقيين" [1] ؛ ولأهمية القياس كان مصدرا من مصادر التشريع، فبه يمكن تهديف الأعمال، ويضاف إليها قيمة التجربة وصدقها، وسنفقد بغياب القياس أحد بواعث الاستجابة وأحد دوافع العمل والإتقان.

والبشرية تمتلك عبر عصورها رصيدا من التجارب الإنسانية والخبرات المتراكمة، التي يمكن ربط بعضها ببعض، فنكتشف المزيد من القوانين والمسلمات العلمية أو الدينية.

وكثيرا ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقيس الأشياء بنظائرها لتوضيح الفكرة وجلائها، جاء ذلك عبر مواقف كثيرة كما تدلنا عليه الأحاديث الآتية:

عن أبي أمامة، رضـي الله عنه، قال: ( إن فتـى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، قالوا: مه مه، فقال: [ ص: 174 ] ادنه، فدنا منه قريبا، قال: فجلـس، قال: أتحبه لأمك؟ قـال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قـال: أفتحبه لعمتك؟ قـال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم، قال: فوضع يده عليه وقـال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه.. فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء ) [2] .

فانظر كيف قادت هذه الأسئلة الرجل إلى الحق، وانتهى إلى أن نطق به على لسانه.

- عن أبى هريرة، رضي الله عنه، قال : ( جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم من بنى فزارة فقال: إن امرأتي جاءت بولد أسود، فقال: هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: ما ألوانها؟ قال:حمر، قال: فهل فيها من أورق؟ قال:إن فيها لورقا، قال: فأنى تراه؟ قال: عسى أن يكون نزعه عرق. قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عرق ) [3] .

وهذا الحديث معجز في أسلوبه وفي مضمونه، أما المضمون فالعلم الحديث يؤكد حقيقة النـزوع في الجينات الوراثية، وأما الأسلوب فقد نزل إلى [ ص: 175 ] مفردات الواقع البسيطة في نظر الرجل، وأتى بمثال من الواقع وعن طريق السؤال الذي ساقه إلى تقرير الحقيقة بنفسه.

ومما ورد في الأحكام الشرعية والعبادات:

- عن ابن عبـاس، رضي الله عنهما ( أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج, فلم تحج حتى ماتت, أفأحج عنها؟ قال: نعم, حجي عنها, أرأيت لو كان على أمك دين, أكنت قاضيته؟ اقضوا الله, فالله أحق بالوفاء ) [4] .

- وقال صلى الله عليه وسلم : ( أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شىء؟"، قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: "فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا ) [5] .

عن أبي ذر، رضـي الله عنه: ( ... وفى بضـع أحـدكم صدقة". قالوا: يا رسول الله، أيأتى أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر ) [6] .

ب- ضرب الأمثال:

تزدحم الحياة بالكثير من الأمثلة الصالحة للقياس منها الأمثلة التربوية والدعـوية، التي جمعت بين الحـكم الملقى والتشبيه المضروب والمثل السائر، وما أكثر النصوص التي اعتمدت على المخاطبين في تقرير الحكم، والوصول إلى النتيجة، دون تدخل لتكون أنموذجا تربويا يحتذى بها، كما سبق. [ ص: 176 ]

عن النعمان بن بشير، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذي في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا؟ فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ) [7] .

هذا المثل الدعوي التصويري يختزل فلسفة حياة الناس في كلمات موجزة، وقد ضرب لواحد من المبادئ العظيمة في الإسلام، وهو مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يركب البحر ولكنه اختار البحر لإجراء التشبيه، كأنه لاشيء يشبه مسيرة الحياة الإنسانية كالسفينة تسير في البحر، وفيها أنموذج من التباين الحياتي المصغر، أناس مستأثرون قصيرو النظر، والبقية نظير الرقابة المجتمعية التي هي مصدر من مصادر الأخلاق، وضمانة من ضمانات الحفاظ على القواعد العامة، فإن كان موقفهم سلبيا ولم يأخذوا على أيدي الاتجاه المدفوع بالهوى، ولم يمنعوا حدوث المنكرات ولم يقيموا حدود الشرع، وقع المجتمع كله، الأكثرية الصامتة، ضحية الأقلية المنحرفة، وإذا كانت الرقابة المجتمعية نشطة وفاعلة وأخذت على أيدي القلة المنحرفة كان ذلك ضمانا لاستمرار الحياة النقية للناس جميعا.

وعن أبي موسى، رضي الله عنه، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضا، فكان منها نقية [ ص: 177 ] قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به.. وفي رواية: وكان منها طائفة قيلت الماء ) [8] .

نلاحظ أن مفردات هذا المثل المضروب مستقاة من البيئة، وما يتصل بالتنوع الجيولوجي للأرض، ولا أجد أتم ولا أبدع من تشبيه (الـعلم) بـ (الغيث) وتشبيه (المتلقـين) للعلم بـ (الأرض) التي هي الحاضن الأول للماء، وذلك لشدة تطابق وجه الشبه بين طرفي التشبيه، فالماء مصدر الحياة الأول للمعاني المادية: ( .. وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ) (الأنبياء:30)، والعلم مصدر الحياة الأول للمعاني النظرية والإيمانية: ( .. أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس .. ) (الأنعام:122)، وعلاقة الشبه بين أنواع الأرض التي هي المكون الأول للخلق، وبين أنواع الناس الثلاثة تأتي من جامع الصفات، فلا يخلو إما أن يكون المتلقي للعلم كالأرض رمزا للنماء والخصب والثمرة، ومصدرا لحياة العقول والقلوب، أو عاملا مساعدا على أداء هذا الدور، أو طرفا سلبيا عديم النفع كالأرض الميتة، التي لا تمسك الماء ولا تنبت الكلأ.

وبالمحصلة فإن هذا التمثيل قد لخص في عبارات موجزة روح الإسلام وهدفه، فإذا كان الماء مصدر الحياة الأول في شقها المادي، فإن الإسلام مصدر [ ص: 178 ] الحياة الأول في شقها الروحي، فهاهنا أعطت اللغة الدعوية صورا واقعية كلية بين متماثلين يقرب كل طرف مجموع حقائق الطرف المقابل، وضرب الأمثلة طريقة أخرى لتجديد الخطاب وتنويعه، والعدول عن طريقة عرض المسلمات جافة، دون ربطها بالأمثلة المليئة بالحركة ونبض الحياة والتجارب الصادقة.

وقال المعلم الأول صلى الله عليه وسلم : ( إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة ) [9] .

وقد جاء القرآن الكريم كذلك مليئا بالأمثلة المضروبة، وجعل الله الأمثال طريقا لإقامة الحجة على الناس، سواء ما جاء منها باللفظ الصريح أو غير الصريح: ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) (العنكبوت:43)، ( وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا ) (الفرقان:39)، وغير ذلك كثير [10] . [ ص: 179 ]

وهكذا ندرك أن إسقاط الأفكار في ضوء المعطيات الحياتية المطابقة يكون لها مصداقية التجربة، كما سبق، وتأخذ وقعها، وموقعها في نفوس المخاطبين، إذ يستطيعون أن يقيسوا بها علل الأحكام ومحددات الدين، فما يقوله الداعية له مصاديق في حياة الناس وليس من بناة أفكاره.

ج- مخاطبة العقل بالآيات المبثوثة:

أرسل الله رسله إلى الناس معززين لا بالقوة المادية لمصاولة الخلق في البدء، ولكن بالمؤيدات والأدلة الفكرية لمصاولة العقل، فكانوا وسائط لعرض الآيات والشواهد، والآيات القرآنية تعج بمفردات العقل والعلم والتدبر، وباختصار فإن هذه المفردات تعد بالمئات، كلها تخاطب العقل وتوجه نشاطه نحو الآيات المبثوثة للتفكر فيها، والسؤال عن خالقها، ولم يكن تكذيب الرسل إلا بتكذيب الآيات والمعجزات التي أيد الله بها أنبياءه ( .. فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) (الأنعام:33)، وقد وردت ( كذبوا بآياتنا ) (26 مرة)، ومعنى الآية: أي العلامة وصدق البرهان، أما مادة (آية، وآيات) فقد بلغت أكثر من (350 مرة)، وهذا الكم في حديث الآيات دليل احترام الدين للعقل، والتعويل عليه في التفريق بين الخير والشر.

قال ابن حزم الأندلسي: "قوة العقل تعين النفس المميزة على نصر العدل، وعلى إيثار ما دلت عليه صحة الفهم، وعلى اعتقاد ذلك علما، وعلى إظهاره باللسان وحركات الجسم فعلا، وبهذه القوة التي هي العقل تتأيد النفس الموفقة لطاعته على كراهية الحود عن الحق، وعلى رفض ما قاد إليه الجهل والشهوة [ ص: 180 ] والغضب المولد للعصبية وحمية الجاهلية، فمن اتبع ما أناره له العقل الصحيح نجا وفاز، ومن عاج عنه هلك وربما أهلك، قال تعالى: ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) (ق:37)" [11] .

ولا أجد في المنتوج الفكري الإنساني كتابا خاطب العقل ومشتقاته، بلغة العلم، والتفكير، والتأمل، وأولاه درجة من الاهتمام والرعاية كالقرآن الكريم، فقد رفض التقليد في المعتقدات، ورفض مجرد الظن والتخريص والأماني الكاذبة، وشدد على دور العقل والتأمل الواعي وتحرير الإرادة من غلبة الهوى وسوء التعصب المذموم.

وعلى هذا المساق الفكري كانت لغة الخطاب الدعوي للأنبياء تعتمد العقل كطرف أول للتلقي، ومستندة على فاعليته في تحديد اتجاهات العباد، والوصول منه إلى محطات الإيمان بالله والتسليم بوحدانيته، ولطالما افتقده الأنبياء في أقوامهم واستنهضوه في سياق مكابرة الملحدين وإصرارهم على ضلالهم: ( أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ) (الأنبياء:67)، ( أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون ) (الطور:32)، ( قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ) (سبأ:46).

وفي منهاج الأنبياء حضور واضح لمفردات العقل، وتركيز على البعد التأملي الذي يرتفع بمستوى دور العقل من تسطيح النظرة للكون والحياة، ليصل إلى تجربة فكرية أعمق، فكانت هذه الصفوة المختارة أدلة خلاص [ ص: 181 ] للبشرية، ترمي إلى تحريرها من النظرة التقليدية للأشياء، إلى التأمل في الخلق، بدءا بتركيب الإنسان وانتهاء بخلق الكون الواسع، فكل مصنوع يدل على الصانع، وتشهد على وجوده كل أركان الوجود، من الذرة وما دونها إلى المجرة وما فوقها، وفي أكثر من موضع في القرآن نجد أمامنا مفردات المعجم العلمي والنظر إلى المخلوقات تتكرر، تحريرا للعقل من إدارة العواطف وإرادة الأهواء، يقول الله تعالى على لسان نوح، عليه السلام: ( ما لكم لا ترجون لله وقارا * وقد خلقكم أطوارا * ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا * وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا * والله أنبتكم من الأرض نباتا * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا * والله جعل لكم الأرض بساطا * لتسلكوا منها سبلا فجاجا ) (نوح:13-20).

يلفت نبي الله نوح، عليه السلام، قومه إلى مفردات الخلق الكونية، وفيه مخاطبة للعقول أن تتصفح آيات هذا الكتاب الصامت، المزدحم بملايين النواميس التي تؤلف كلها حياة مستقرة، لو يرفع الله قانونا واحدا من تلك القوانين المنظمة للحياة لانتهت قصة الوجود، وهل كثير على الإنسان أن يتساءل عن تلك اليد الخفية المسيرة لأطوار حياته بالحكمة والتدبير، ولنظام الكون بالقهر والتسخير.

وهكذا ينتقل نبي الله نوح في إدارة محاور الدعوة من الترغيب والترهيب في الآيات التي اشتملت على حديث الأمطار والأنهار والثمار، إلى محطة لفت الأنظار حول أبجديات التفكير في أوليات الخلق، من الذي خلق فقدر وملك [ ص: 182 ] فدبر، إن العالم كله محكوم بنواميس لا يستطيع أحد أن يدعي أي دور له فيها، فالإنسان ليس له دخل فيما يحدث بداخله من حركة نشطة مسيرة بقوانين محكمة غاية الإحكام، وكل ما يجري ما هو إلا مجرد استجابة غريزية لأجهزة تعمل بداخله لا قدرة له على إدارتها، يأكل إن شعر بالجوع، ويشرب إن شعر بالظمأ، وينام إن حس بالحاجة للنوم، ولا يستطيع أن يرفض أو يعدل من هذه التركيبة، وهو مع ذلك لا يدري شيئا عن هذه اليد التي تدير أجهزته الداخلية ناهيك عن التصميم الرباني للأرض وما حولها، وهي من الدقة والتعقيد بحيث يدخل في منظومتها المعقدة نـفـس الحوت في البحر؛ وهو إن أطلق نظره إلى معالم الوجود وجد هذه الأغلفة المحيطة به ووجد فيهن آيات مودعة لمصلحته، فمن سخرها، ومن جعلها وقفا لصيرورة الحياة أن تندثر وتبيد؟

وفي نقلات سريعة وبعد أن لفت نظرهم إلى آفاق جديدة في التفكير، يعود ليربط جوانب العقيدة بما اشتهر به قوم نوح وهو الزراعة، "قال الحسن: كان قوم نوح يزرعون في الشهر مرتين" [12] ، فتم استقاء حديث البعث من الثقافة التي عهدوها وهي مسألة الزراعة، فالإنسان كائن حي خاضع أيضا لقانون البدء والإعادة ( .. كما بدأنا أول خلق .. ) (الأنبياء:104) تماما كالزرع، يخرج الثمرة الميتة من الحي، وسيعود الإنسان نباتا إنسانيا من تحت الثرى كما هي دورة الحياة النباتية ( والله أنبتكم من الأرض نباتا * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا ) وهو البعث والإخراج من القبور، وهناك يأتي [ ص: 183 ] الحساب والجزاء، ولا يخفى ما في هذه النقلات من تدرج محكم ليقيم بعالم الشهادة، أدلة عالم الغيب.

ولما كان قوم إبراهيم، عليه السلام، يعظمون النجوم ويعبدونها ويحكمون بها في المنطقة التي هاجر إليها قبل منطقة حلب في الشام، فقد تعامل معهم أيضا من منظومة الأفكار التي تحكمهم، فاستعمل نفس المفردات الفكرية واللغوية، وأعطاهم درسا عمليا في التوحيد من خلال لفت أنظارهم إلى حركة النجوم: ( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين * فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ) (الأنعام:75-79).

اتجه سيدنا إبراهيم، عليه السلام، إلى عبادة التأمل وإعمال العقل في نظام هذه الأجرام السيارة، وتوقف مع قومه عند مسألة (أفولها) وعودتها من جديد؛ إن لسان مقامه ينطق بالقول: إن هذا الغياب لا يستقيم مع إله يجب أن يكون موجودا على الدوام، قائما على صروف حياتي، التي تبدأ من خلجات النفس وما دون ذلك إلى ما لا يعد ولا يحد من العنايات الإلهية، التي لا دخل لي فيها، ثم إن هذا النغم الإيقاعي في أفول يعقبه ظهور، يشير إلى أن هذا الإله المقترح [ ص: 184 ] يدار بقانون ثابت، والإله فوق القوانين، هو الذي يخلقها ليجبر بها ضعف مخلـوقاته، فكيف يقيد الإله بها نفسه؟! وأين مزيته على بقية المخلوقات الخاضعة لنفس النظام؟! وبالنتيجة العقلية والمنطقية، ثمة رب عظيم هو الممسك بناموس الموجودات كلها، وهو المنظم لشؤونها، إن لم تدركونه ببصركم فستدركونه ببصيرتكم.

ولقـد سمى الله ذلك حجـة وبينه لإبراهيم: ( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ) (الأنعام:83)، ( أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم ) (محمد:14).

وفي عصر الاكتشافات تتضاعف أهمية الربط الدعوي بالآيات المبثوثة، فالعصر محكوم بسلطان العقل، لقد تضخم دوره كثيرا، ودخل في شؤون الحياة وتفاصيلها، عدا ميدان واحد لا يزال دور العقل فيه مغيبا، ذلك هو ميدان الاعتقاد، نعم هناك خلل في تحديد مسارات العقل، ففي حين وصل الإنسان بهذا المعطى الرباني إلى أدق عنصر في الكون، ومنه إلى أكبر مكوناته، لم يفعل الكثير لتسخيره في الوصول إلى الله، ولم يربط حصيلة مكتشفاته بالمبدع الأول على الطريقة الإبراهيمية، ولسوء الحظ أن جمهور علماء الغرب يتحاشون المرور بهذه الحقيقة، وكأن هناك حلفا معقودا بينهم وبين الشيطان أن لا يقروا لله بوجود!

لقد صار العقل اليوم السلاح الذي يحتكم إليه العلماء والمتنطعون على السواء، نظرا للمكانة التي انتهى إليها، وبسبب الفاعلية الإنسانية في تكريسه [ ص: 185 ] لرفاهية البشرية والنهوض بواقعها، ومن مجمل رصيد الحضارة الإبداعية المعاصرة التي يرجع الفضل فيها للعقل، ندرك سر تركيز النص القرآني على العقل وحثه الأمم الجاهلة على إعماله رغم جهلها.

لقد كان ظهور الكثير من الحقائق العلمية في العصر الحديث بمثابة تحد فكري هائل أمام المسلمات التي رسخها رجال الدين ولم يكن مصدرها من الخالق عز وجل، وتسبب ذلك في عزل الكنيسة، وبسببها حدثت الردة البشرية الكبرى عن الدين في الغرب ممثلة (بالشيوعية الملحدة) وفي الوقت الذي كانت تلك المسلمات الدينية تتساقط كأوراق الخريف على مستوى الديانات المحرفة، جاء العلم ليقف منبهرا أمام الحقائق القرآنية، وكلما ظهرت حقيقة جديدة ضمت إلى مدونة الإعجاز العلمي في القرآن، فصار للمسلمين بسبب الاختراعات العلمية علم جديد، وهذا يزيدنا ثقة بما يملكه هذا الدين من مقومات التحدي، ويجعلنا ننصت بخشوع إلى نداء الآيات القرآنية وهي تحث على التأمل في الخلق لنصل منها إلى خالقها، ولنسهم كذلك في خدمة البشرية وتحقيق النفع لها، وما من شك أن الجهود التي تعمل في مجال الإعجاز العلمي هي جهود مقدرة ومطلوبة، وتستحق كامل التأييد والدعم. [ ص: 186 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية