الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
تجديد فنون الخطاب التقليدي

أولا: طريقة الإلقاء:

1- بساطة اللغة وعدم التكلف:

إذا انتقلنا من لغة الأسلوب إلى أسلوب اللغة، فليس المطلوب من الداعية جماليات الأسلوب وحسب، ولكن سلامة اللغة أيضا، والاستعانة بلغة الإشارات المعبرة، ويعد فن الخطابة والمحاضرات من أكثر الأساليب شيوعا وأكثرها إنتاجا في ميدان الدعوة اليوم، وما يحتاجه هذا الفن هو التجديد في طريقة العرض، فقد أصيب هذا الفن بالجمود منذ عصر التدهور الحضاري للمسلمين، الذي يمكن أن يؤرخ له من أواسط عصر الدولة العباسية الثانية، مرورا بعصر الدول والإمارات التي غلب فيها حكم العجم والموالي، وانتهاء بعصر الدولة العثمانية، ففي هذه الفترة غربت شمس الفصاحة العربية، وحلت محلها أساليب سكونية ونمطية تمثلت بالتالي:

14 - الاعتماد على العامية بدل الفصحى 14 عند بعضهم، ومع أن المحتوى النصي مقدم على قالبه اللغوي في الدعوة إذا أدى الغرض، إلا أن العدول عن الفصحى يجب أن يكون مسألة اضطرار لا اختيار، إذ لا يمكن أن تقوم العامية مقام الفصحى في كل شيء، ناهيك عن أنها تمثل جهة بثقافتها ومفاهيمها وليس المجموع، والله يقول: ( إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ) [ ص: 99 ] (يوسف:2)، ( بلسان عربي مبين ) (الشعراء:195)، ووصفه بقوله: ( قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون ) (الزمر:28)، كأن فهم البيان محله اللغة العربية الفصيحة التي بها نزل القرآن، وأن العدول إلى غيرها لا يؤمن معه الخطأ لعوجها وعدم استقامتها.

إنني عندما استمع لأي داعية كان وأجد عوجا في لسانه وكثرة أخطائه اللغوية والنحوية، يرفع ما حقه النصب وينصب ما حقه الرفع... إلخ اسحب ثقتي من معلوماته؛ لأن اللغة مؤشر مهم على قوة التمكن، ولو كان على علم لكان مما اكتسبه مهارة اللغة؛ لأنها داخلة عليه من جميع الاتجاهات، ولتأثيرها فقد جعلوها أحد مصادر التشريع، وقد روي أن أعرابيا سمع من يقرأ ( أن الله بريء من المشركين ورسوله .. ) (التوبة:3) حيث قرأ (ورسوله) بكسر اللام، فقال الأعرابي: برئت مما برئ الله منه، من المشركين ومن رسوله، فانظر كيف تحول المعنى؟

وقيل: إن أعرابيا أيضا سمع من يقرأ بتحريف صيغة الفعل في قوله تعالى: ( ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ) (البقرة:221) فقرأ (تنكحوا) بفتح التاء والكاف فقال الأعرابي: لا والله ولو آمنوا.

وسمعت من يصلي بالناس ويقرأ في الفاتحة ( صراط الذين أنعمت عليهم ) (الفاتحة:7) (أنعمت) بضم التاء، فتحول الضمير من مخاطب إلى متكلم، وبهذا تبطل الصلاة، والأمثلة كثيرة وليس هاهنا مجالها. [ ص: 100 ]

وقد يقع بعض الدعاة في مزالق تعبيرية نتيجة الاعتماد على العامية، كقول أحدهم: (صعب على ربنا يعذبك)، ولا يصح في حـق الله مثل هذا التعبير؛ ولا ننفي أن العامية قد تنفع في بعض الأوساط، لا سيما تلك اللهجات التي تتسم بالمرونة، والقدرة على التصوير التي تبسط للمستمع المعاني وتقربها، غير أن ذلك ليس مطردا.

ولئن كان مرخصا على نحو ما أن يأتي الشرح باللهجات المحلية، فإن نطق النصوص الشرعية بالعامية يقدح في علمية الداعية وتمكنه، وقبل ذلك وبعده يقدح في إخلاصه لدينه؛ لأن اللهجة قد تصرف النصوص عن معانيها، وقد وجد من يصلي بالناس ويقرأ (إن هزا لزو حز عزيم)، (مزبزبين بين زلك)، (إن يأقوق ومأقوق..)، فهل مثل هذا يصح أن يقال عنه داعية، وهو يزيف وعي الناس ويفسد ذوقهم، ويلقنهم معلومات خاطئة؟

- الاعتماد أحيانا على الصنعة اللغوية المولعة بالمحسنات البديعية كالسجع، وأحيانا إيراد الغريب بهدف التفاصح، وأعني بالغريب الغريب عن لغة الناس المتداولة، وليس فقط غريب المفردات المعجمية، وصحيح أن من حق الداعية أن يتفنن في انتقاء ألفاظه وصوغ الجمل والعبارات الجميلة التي تلائم المقام، ولكن الصحيح أيضا أن اللغة الفصحى التي نعنيها هي السهل الممتنع، وليس التكلف في التقعير والتشديق، ونشدان الفصاحة لذات الفصاحة، فقد يرى بعضهم أن التزام قواعد الفصحى تعني التزام تلك اللغة الصارمة التي نجد فيها شيخ النحويين، الذي صنعها الخيال، وقد وجدنا بعضهم يلقي درسا فإذا سأله أحد المستمعين بصوت هامس، وأراد الشيخ أن يستوضح منه السؤال، [ ص: 101 ] قال الشيخ: عجبا لأمرك يا هذا! أتحدث نفسك؟ هلا رفعت صوتك يا رجل! ويخرج الصوت مفخما مجودا، على نحو ما نسمع في المسلسلات التاريخية، وإذا أخبر عن تعثر ابنه في صفة المسجد، قال: إن هذا لنا لغائض، هل أصابه أي مكروه؟ لطالما أرقنا أمر هذا الصبي. وفي مثل هؤلاء يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يبغض البليغ من الرجـال الذي يتخلل بلسـانه كما تتخلل البقرة ) [1] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن من أحبكم إلي، وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة: أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي، وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة: الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون ) [2] .

"(المتشدق): الذي يتطاول على الناس في الكلام، ويتكلم بملء فيه تفاصحا، وتعظيما لكلامه و (المتفيهق) هو الذي يملأ فمه بالكلام ويتوسع فيه ويغرب به، تكبرا وارتفاعا وإظهارا للفضيلة على غيره" [3] .

إن اللغة العربية الفصحى ليست في التفاصح الممجوج، ولكنها في مراعاة القواعد، أي التي لا ترفع ما حقه النصب ولا تنصب ما حقه الرفع، وهكذا على أن تكون اللغة بسيطة ومألوفة، فهل ليست من العربية أن يقال نحو: ارفع [ ص: 102 ] صـوتك يا (خالد) جيدا، ويقـول في تعثر ابنه: المولـى يرعاه، أو أرجو أن لا يكون به بأس، أو نحو هذا من البليغ الجميل السهل والمفهوم؟

إن الجمال في اللغة الدعوية يكمن في قوة الكلمة القريبة في وضوحها ودلالة حجيتها، مع القدرة على التوصيل، أما ذلك الضرب من التكلف فهو يشوه جمال اللغة، ويذهب برونقها، وينشغل الداعية في نحت العصي من العبارات نحتا يفرغ الفكرة من محتواها، ولا يلبث أن يدرك السامع عناء الترقيع، وفجاجة الأسلوب.

وقد ورد من حديث صحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل: ( يا فلان قم فاخطب، فشقق القول، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : اسكت، أو اجلس، فإن التشقيق من الشيطان، وإن من البيان لسحرا ) [4] .

قال صاحب اللسان: "واشتقاق الكلام: الأخذ فيه يمينا وشمالا. واشتقاق الحرف من الحرف: أخذه منه. ويقال: شقق الكلام إذا أخرجه أحسن مخرج. وفـي حديث البـيعة: ( تشقيق الكلام عليكم شديد، ) أي التطلب فـيه لـيخرجه أحسن مخرج" [5] .

ومن مظاهر التفاصح تعمد إيراد المهجور من اللغة بهدف استعراض مبلغ الثقافة والإطلاع، وأنه يمتلك مؤهلات التفوق على من يلم بدروسه؛ وأن ترد بعـض الكلمات غريبة عفوا فهـذا لا شيء فيه، مع محاولة تفكيك معانيها، [ ص: 103 ] أما إيرادها لإظهار جوانب النبوغ والتفوق فهذا ما لا يحتاج إليه المستمع، ويدخل في باب الرياء المحبط للأعمال.

- ترديد المصطلحات الأجنبية أحيانا لغير حاجة، وبما أن الداعية المسلم يمثل إرادة الشرع ويتكلم باسمه، فمن المهم أن تكون المصطلحات الشرعية مصدر ثقافته، وينبوع لغته، وعماد فلسفته، حيث ازدحمت المصطلحات الوافدة في حياتنا، وجاء بعضها كصناعة مخصصه لضرب المصطلح الشرعي وإفراغه من مضامينه، والأمثلة أكثر من أن تحصى..

والمشكلة أنه إلى الآن لا يوجد توجه جاد لسد هذه الثغرة، بل هناك قابلية لاستخدام الوافد أكثر من المصطلح المعجمي والشرعي، وصار (لوك) الأجنبي مظهر ثقافة بعض المثقفين، من هنا باتت تنتج المصطلحات في معامل الفكر التغريبي ليتم تصديرها إلينا كأمة مستهلكة، لا تسأل عن نوع هذا الوارد أو ذك، ويعود ذلك إلى وجود القابلية لتلقف كل غريب، ويحضرني في هذا السياق مثال ملفت حيث دأب الإعلام العربي على نطق (جزر القمر) بضم القاف والميم (القمر) على أساس النطق الفرنسي، وتعـني (الجزر الفضية)، فيما ينطقها القمريون بما فيهم رئيسها النطق العربي (القمر) بفتح الفم وليس بضمه ومده ومطه، وسرت العدوى إلى بعض الدعاة، فصار بعضهم يستخدم بعض المصطلحات الأجنبية بمناسبة وبدون مناسبة، ويعدون ذلك مؤشرا على التمكن، وما هو إلا مؤشر على أزمة ثقة بالنفس، وتحولنا إلى نقاط فراغ تتسابق على احتلالها كل أمم الأرض دون أن نمتلك خطوط دفاع أو مشاريع هوية، وقد يكون أيضا ناتجا عن سوء فهم لمعنى التعاطي مع ثقافات الآخرين، [ ص: 104 ] فأن تكون لدينا القدرة على تكلم اللغات الأخرى فذلك شيء محمود، ولكن فرق بين اللغة القومية واللغة المهنية، فاللغة القومية هي لغة التخاطب اليومي التي لا يجب أن تزاحمها أي لغة أخرى، وحاجتنا للغة المهنية كالإنجليزية تكون عند مزاولة المهنة المتعلقة بها وحسب، والعجيب أننا نتعلم من الغرب كل شيء إلا احترامهم لهويتهم والعمل على نشرها بين الآخرين، هذه فقط لا نتعلمها منهم!

وقد جاء في القرآن الكريم ما يدل على التحذير من المصطلح الموهم، قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم ) (البقرة:104) قال ابن عباس: "كان المسلمون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : راعنا، على جهة الطلب والرغبة -من المراعاة- أي التفت إلينا، وكان هذا بلسان اليهود سبا، أي اسمع لا سمعت، فاغتنموها وقالوا: كنا نسبه سرا فالآن نسبه جهرا، فكانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن معاذ وكان يعرف لغتهم، فقال لليهود: عليكم لعنة الله! لئن سمعتها من رجل منكم يقولها للنبي صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه، فقالوا: أولستم تقولونها؟ فنـزلت الآية، ونهوا عنها لئلا تقتدي بها اليهود في اللفظ وتقصد المعنى الفاسد فيه" [6] .

وقد ورد في السنة ما يبين أهمية تحري المصطـلح الشرعي، فقد روى عقيل بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه تزوج امرأة من بني جشم فقالوا: [ ص: 105 ] بالرفاء والبنين، فقال: "لا تقولوا هكذا، ولكن قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم بارك لهم وبارك عليهم ) [7] .

وعن عبد الله بن بريدة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقولوا للمنافق سيد، فإنه إن يك سيدا فقد أسخطتم ربكم عز وجل ) [8] .

- التكلف في تنغيم الصوت وتنميطه وفق إيقاع معين، أو اللجوء إلى تقليد أصوات مشايخ آخرين، فهذا الاختباء تحت المؤثرات الصوتية عيب أسلوبي يكشف ضعف الخطيب؛ فالخطيب المتمكن مشغول عن قولبة الصوت بقولبة الأفكار وتقديمها على سجيته، وهذا يريح المستمع، فالمستمع قد يعاني لمعاناة الخطيب المتشنج، الذي يعلب كلامه وفق مقاييس صوتيه معينة، فإذا اختل الإيقاع اختل توازن الخطيب وحدث الإرباك، ويجب التفريق بين صوت الخطيب الجبلي وبين المتصنع؛ فالجبلي- والأمثلة كثيرة - له صوته الخاص، ونبرته المميزة، وليس فيه تكلف ولا تقليد، فهو يتحكم فيه خفضا ورفعا، مدا وقصرا.

التالي السابق


الخدمات العلمية