الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
لغة الخطاب الدعوي

بين التعزيز والتشهير

أولا: تعزيز الحسنة بتشجيع فاعلها:

الناس بالنسبة لحاجتهم إلى مخاطبة جوانب الخير فيهم على ثلاثة أضرب:

الضرب الأول: بلغ درجة من التميز في جانب من جوانب الخير، بحيث صار يحمل لواءه، وهذا يحتاج إلى تعزيز سبقه بعبارات الاعتراف والإشادة.

الضرب الثاني: تبدو سائر أعماله على خير، ويحتاج إلى إكمال بعض النواقص.

والضرب الثالث: تغلب سيئاته على حسناته، ويحتاج إلى إيقاظ جوانب الخير فيه بإثارتها من مكمنها.

أما الضرب الأول: فالمطلوب تعزيز القيمة الفاضلة بالإشادة بها والثناء عليها؛ لأن ذلك يعني المصادقة على الفضل والاعتراف بالتفوق، فمن العدل أن يذكر الإنسان بما فيه من مكارم الأخلاق، ولذلك انعكاسات عدة منها:

- أن ذكر ما في الإنسان من مظاهر التفوق يؤدي إلى زيادة التمسك بها ورعايتها من صاحبها. [ ص: 65 ]

- إعطاء رسالة مفادها أن مكارم الأخلاق هي عصارة الدين؛ لأن العبادة مقدمة والسلوك نتيجة، وإنما جاء الدين ليقيم الخير مقام الشر، والفضيلة مقام الرذيلة، والعدل مقام الظلم، وأن كمال الأخلاق وسموها ليس في غير هذا الدين.

- نفي ما قد يفهم عن صاحب الرسالة الدعوية من أنه إنما ينظر إلى الناس من منظار الخطيئة، وأنه راصد مثالب ليرفع من نفسه ويخفض من الآخرين.

- إشعار صاحب الفضيلة أنه يتبوأ مكانة من الإسلام بما لديه من رصيد الخير، وهذا يجعله يحافظ على هذه المكانة ولا يفرط بها.

- طالما تطلع الإنسان الصالح للنظر إلى نفسه من مرآة الآخرين، ومعرفة وضعه السلوكي من ميزان الدين والمجتمع، فإن عثر على مكانته المتقدمة، حمد الله وأثنى عليه وزاد من عمل الخير.

- إن إهمال ذكر سابقة الرجل الصالح وعدم الاعتراف بها يعني شهادة سلبية أنه خالي الوفاض.. بادي الأنفاض.. صفر اليدين.. عديم النفع، وقد ينعكس ذلك سلبا على النفسية الضعيفة، ويكون عليها فتنة.

ولنا في رسول الله أسوة حسنة، فقد أسند إلى صاحب كل فضيلة فضيلته، قال صلى الله عليه وسلم : ( أرأف أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي بن أبى طالب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ) [1] . [ ص: 66 ]

والشيء الذي يسترعي الانتباه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أطلق الألقاب بكثرة على نفر غير قليل من أصحابه، التي تعـكس ما فيهـم من جوانب الخير، وتميزهم بها عن غيرهم مثل: (أبو بكر الصديق)، (عمر الفاروق)، (عثمان ذو النورين)، (علي رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله)، وقد وردت هذه الأوصاف في أحاديث منها:

قال صلى الله عليه وسلم : ( خالد بن الوليد سيف الله وسيف رسوله، وحمزة أسد الله وأسد رسوله، وأبو عبيـدة بن الجـراح أمين الله وأمين رسـوله، وحذيفة ابن اليمان من أصفياء الرحمن، وعبـد الرحمن بن عوف من تجـار الرحمن عز وجل ) [2] ، وقال في الزبير: ( لكل نبي حواري وإن حواري الزبير ) [3] ، وقال: ( ...خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد ) [4] ؛ ( ...الحسـن والحسين سيـدا شباب أهـل الجنة، وفاطمـة سيدة نساء أهل الجنة ) [5] .

وكتب الأحاديث مليئة بفضائل ومناقب بعض الصحابة والصحابيات، وفضائل بلدان، وأماكن، وقبائل كثيرة، لا يتسع المجال لذكرها ذكرت على لسان المربي الأول محمد صلى الله عليه وسلم . [ ص: 67 ]

الضرب الثاني: هو الذي على خير، ولكن قصرت به همته عن إدراك معالي الأخلاق، ولا يزال تنقصه بعض الخلال، فإذا أراد المربي أن ينصحه فيها، فإن من السنة أن يبدأ الحديث معه من رصيد الخير الذي فيه، فذلك مدخل آمن للحديث عن السلبيات، ولو كان البدء بالمثالب لفهم منه غمطا له وإنكارا لفضله، ولنتأمل في الطرق التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم لمعالجة هذه الأمور، من ذلك قوله في عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما: ( نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل" فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلا ) [6] .

وعن خريم بن فاتك الأسدي، رضي الله عنه، قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( نعم الرجل أنت يا خريم لولا خلتان فيك، قلت: وما هما يا رسول الله؟، قال: إسبالك إزارك وإرخاؤك شعرك ) [7] .

الضرب الثالث: وهو الذي تغلب سيئاته على حسناته، كأن يكون كافرا بالله أو عاصيا، فمن الحكمة البحث عن المداخل الإنسانية التي تحبب إليه الخير، فالإنسان مهما تغلبت عليه نوازع الشر لا يخلو من نوازع خير، ولو بحثنا سنجد في مكنون ضميره جماليات سرعان ما تظهر على السطح إذا وجدت من يجلو عنها صدى الإهمال، وقد ورد عن الخليل بن أحمد، رحمه الله: "الناس أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري فـذلك عالـم فاتبعوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك نائم فأيقظوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري [ ص: 68 ] فذلك مسترشد فأرشدوه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فارفضوه" [8] . والناس يقعون كثيرا في مغبة الانطبـاع الأول عن الفرد، سـلبا أو إيجابا، فيأخذ هذا الانطباع كمثال للتعميم، فإذا كان الانطباع سلبيا أحاطه المجتمع بالأحكام الجائرة، فيصدقهم بدوره، وتنسحب أوهام الناس سلبا على سلوكه، وربما أحجم عن فعل الخير؛ لأنه لن يجد من الناس رضا، فالانطباع الذي لم يأخذ وقتا لنقشه في الذهن يحتاج إلى الكثير من الوقت لتعديله.

أما المربي فدوره تجاوز الانطباع السلبي والبحث عن كوامن الخير في الإنسان، فإذا اكتشف شيئا من ذلك سلط عليها أضواءه الكثيفة، وعززها بالإشادة والتشجيع، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم شواهد دعوية من ناحية التأليف المشار إليه آنفا، فلو سئل الصحابة عن خالد بن الوليد قبل إسلامه، فلا أراهم يجدون فيه سوى العدو الألد الذي أثخن في المسلمين الجراح، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوب نظره إلى خالد من زاوية أخرى، كما يحدثنا خالد بن الوليد، رضي الله عنه، عن نفسه قال: "كان أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، فطلبني فلم يجدني، فكتب إلي كتابا فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد؛ فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام وعقلك عقلك، ومثل الإسلام جهله أحد؟ وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك وقال: ( أين خالد؟" فقلت: يأتي الله به، فقال: "مثله جهل الإسلام؟ ولو كان جعل نكايته وحده مع المسلمين على المشركين كان خيرا له، ولقدمناه على [ ص: 69 ] غيره ) فاستدرك يا أخي ما قـد فاتك فقد فاتك من مواطن صالحة. قال: فلما جاءني كتابه نشطت للخروج، وزادني رغبة في الإسلام، وسرني سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عني" [9] .

لنتأمل في الكلمات التي عبر بها خالد، رضي الله عنه، عن مضمون كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نشطت للخروج" "زادني رغبة في الإسلام" "سرني سؤال رسول الله" وهكذا انطوى سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خالد على قيم دعوية منها:

- حب الإسلام الخير لجميع الناس حتى الأعداء، وقد كان خالد هو الذي أوقع النكاية بالمسلمين في غزوة أحد، ومهما كانت سوابق الشر فإنـها لا تغلق باب التوبة أمام العبد.

- تعزيز قيم الخير في خالد والاعتراف بها، وهي الإشادة برجاحة عقله وذكائه في الحرب.

- إعطاؤه وعدا أنه سيأخذ مكانه الطبيعي في الإسلام لو أسلم، وسيقدم على غيره في المجال الذي يجيده وهو القيادة العسكرية، وقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على كبار الصحابة بعد إسلامه.

- إعطـاؤه الأمـل في إدراك ما فـاته من الخـير وتعويضه ذلك بصالح الأعمال.

وأختم بالإشارة إلى ضرورة التفريق بين الإطراء المذموم، والمبالغة في التمجيد بهدف المجاملة أو النفاق، وبين الأسلوب الدعوي الذي قوامه العدل [ ص: 70 ] والإنصاف ووضع الأمور في نصابها، وتحبيب الناس إلى الخير وإيجاد الدافعية لنشدان الكمال، فهذا مطلوب، والله عز وجل قدم للنبي صلى الله عليه وسلم أعظم شهادة على عظمة الخـلاق فقال: ( وإنك لعلى خلق عظيم ) (القلم:4)، وشهادات غير مسبوقـة في تاريخ الرسالة لأتباعه فقال: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله .. ) (آل عمران:110)، ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود .. ) (الفتح:29)، وعشرات الآيات من مثل: ( أولئك هم الصادقون ) ، ( أولئك هم المفلحون ) ، ( أولئك هم المؤمنون ) ، ( أولئك هم المتقون ) ، ( وأولئك هم المهتدون ) ، ( وأولئك هم الفائزون ) ، ( وما بدلوا تبديلا ) ، ..إلخ.

إن عدم الاعتراف لأهل الفضل بفضـلهم فقدان للنـزاهة الأخلاقية، ولا أراني أخطأت الصواب إذا قلت: إن النـزاهة الأخلاقية التي أتحدث عنها هاهنا قد فقدت من الكثيرين اليوم، وصار من السهل رصد سلوك الهضم والإلغاء على مستوى الأفراد، أو على مستوى القادة والتنظيمات الفكرية والسياسية المختلفة، وتقاطعت العدالة مع عامل الخوف من الرقم التالي، فذكر ما في الآخر من فضائل مظنة لدى بعضهم من تراجع مركزه وقيمته الاعتبارية لحساب (الغير)، يجب أن يستمر وحده الرقم الأول، وهذا الوباء السلوكي هو نفسه الذي يقود صاحبه إلى خانة الصفر، فما كان الحسد وغمط الآخرين [ ص: 71 ] حقوقهم يوما رافعة مجد لأحد، ولقد سرت هذه الآفة في الناس سريان النار في الهشيم.. فالعالم صار هو فريد عصره ووحيد دهره.. والزعيم صار فلتة الزمان والرجل الذي لا يتكرر.. والقائد صار هو المخلص ومبعوث العناية الإلهية.

وقد يرى بعضهم من ذوي النظر القاصر أن الاعتراف بما في الآخر من فضائل، وما له من إيجابيات هو اعتراف بشرعية ما عليه من أخطاء من ناحية، وهذا مخالف للمأثور، كما رأينا، ثم إن ألمعية الداعية المربي تستطيع تقدير الأمور، فإذا كان الثناء سيؤدي إلى الغرور والرياء أمسك عنه، أو قدمه بدرجة خفيفة، وبلغة السوق بالتقسيط المريح، فيكون قد أدى ما عليه من إعطاء شهادات حسن السيرة والسلوك، وبحيث لا تجر العدالة إلى مفسدة.

التالي السابق


الخدمات العلمية