الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
- التوفيق بين الموادعة وآية السيف:

المراد بآية السيف هي قوله تعالى: ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) (التوبة:29).

وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن النصوص الحاثة على استعمال الرفق مع أهل الكتاب وغيرهم قد نسخت بآية السيف، على كثرة تلك النصوص، من ذلك ما ذكره القرطبي في قوله تعالى : ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ) (الأنفال:61)، قال: "قد اختلف في هذه الآية، هل هي منسوخة أم لا. فقال قتادة وعكرمة: نسخها ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) (التوبة:5)" [1] ، وقال السمعاني: "روي عن الحسن وقتادة أنهما قالا: هذه الآية منسوخة بآية السيف" [2] ، وذكر القرطبي ( وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء [ ص: 95 ] مما تعملون ) (يونس:41) أنها منسوخة بآية السيف؛ في قول مجاهد والكلبي ومقاتل وابن زيد [3] ؛ ورد هذا القول آخرون، قال الألوسي في تفسير الآية: "فيها تأكيد لما أفاده لام الاختصاص من عدم تعدي جزاء العمل إلى غير عامله، أن لا تؤاخذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم، وعلى هذا فالآية محكمة غير منسوخة بآية السيف، لما أن مدلولها اختصاص كل بأفعاله وثمراتها من الثواب والعقاب، وآية السيف لم ترفع ذلك" [4] .

وذكر ابن كثير، رحمه الله، في قوله تعالى: ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) (العنكبوت:46): "قال قتادة وغير واحد: هذه الآية منسوخة بآية السيف، ولم يبق معهم مجادلة، وإنما هو الإسلام أو الجزية أو السيف. وقال آخرون: بل هي باقية محكمة لمن أراد الاستبصار منهم في الدين فيجادل بالتي هي أحسن ليكون أنجع فيه كما قال تعالى: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن .. ) (النحل:125) الآية، وقال تعالى لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون: ( فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ) (طه:44)، وهذا القول اختاره ابن جرير وحكاه عن ابن زيد وقوله تعالى: ( إلا الذين ظلموا منهم ) أي [ ص: 96 ] حادوا عن وجه الحق، وعموا عن واضح المحجة وعاندوا وكابروا، فحينئذ ينتقل من الجدال إلى الجلاد ويقاتلون بما يمنعهم ويردعهم" [5] .

وقال المولى تبارك اسمه: ( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون ) (الجاثية:14)، قيل: "نزلت قبل آية القتال ثم نسخت، قال ابن عطية: ينبغي أن يقال: إن الأمور العظام، كالقتل والكفر، ... ونحو ذلك، قد نسخ غفرانه آية السيف والجزية، وإن الأمور الحقيرة، كالجفاء في القول ونحو ذلك، يحتمل أن تبقى محكمة، وأن يكون العفو عنها أقرب للتقوى" [6] .

وقد علق الإمام بدر الدين الزركشي في كتاب "البرهان"، على آيات الموادعة وآيات القتال بقوله: "ويعود هذان الحكمان، أعني المسالمة عند الضعف والمسايفة عند القوة، بعود سببهما، وليس حكم المسايفة ناسخا لحكم المسالمة بل كل منهما يجب امتثاله في وقته" [7] .

وما يحسن التنبيه عليه هاهنا، في مسألة نسخ آيات التسامح، أننا حينما نستقرئ أقوال التابعين والصحابة ومن خلال ما رأينا سنجـد أن تلك الأقوال لا تعدو كونها آراء اجتهادية موقوفة، ولا يكاد يخلو أن تجد من يخالفها، ومع ذلك فقد اشتغل الاتجاه الغالي كثيرا بمقولة النسخ لآيات الموادعة، وجعل آية [ ص: 97 ] السيف كأنها هي كل القرآن، ويعود الافتتان بفكرة النسخ لنـزعة المواجهة العنفية التي يجنحون إليها، والحقيقة لا ينقطع عجبي من القول بأن آية السيف جاءت لتنسخ عشرات الآيات أنزلها الله في حسن الخلق وجمال التأدب مع (الغير)، الذي يتفق مع نداء الفطرة، كأنما قـطع اللسان بالسنان، وصار لآية السيف قوة السيف، فبضربة واحدة حصدت عشرات الآيات والأحاديث الصحيحة!

يقول الأستاذ راشد الغنوشي في قوله تعالى: ( لا إكراه في الدين ) (البقرة:256): "إن ما دار من جدل حول نسخ هذه الآية العظيمة أو نسخ سواها من النصوص الناطقة بحرية الإنسان والناهية في احتجاج واستنكار عن كل محاولة لسلبه تلك الحرية، وأن يكن ذلك من أجل الخروج من الكفر والنار والدخول في جنة الإيمان، نسخ تلك النصوص والاعتبارات الشرعية العظمى بآيات الاجتهاد قد أثبت التحقيق المعاصر بطلانه" [8] .

إن الذي تميل إليه النفس أن الدعوة إلى الله باللسان وبالمنهج الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأصل الذي يبنى عليه، وأن للقتال ظروفه ولا تنافي، فلا غنى للأمة عن عامل القوة لحفظ الدين، وصون الأرض والعرض، ولا أرى ما يدعو لأن يحل أحدهما محل الآخر، ومن ناحية لا يصح أن تكون آيات التسامح مشجبا للتخلي عن فريضـة الجهـاد القتالي، وإسقاط آية السيف كمـا يروج له العلـمانيون، وعلى المتناقضين واجب الاتباع، لا الابتداع، فلا يصح أن يأخذ كل طرف بما يوافق ميوله وهواه. [ ص: 98 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية