الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
2- مكانة اللغة في الكتاب والسنة:

- تعد اللغـة أداة التواصل البشري الأولى، ولا يتصور حياة بدونها، إنها آية من آيات الله، يذكر الله عباده بها بقوله: ( ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ) (الروم:22). والمراد بالألسنة هنا: اللغات الإنسانية، وبعض المفسرين توقف عند هذا المعنـى، قال الجزائري: "أي لغاتكم من عربية وعجمية والعجمية بينها اختلاف كثير" [1] ، ولا يوجد ما يمنع تعديه إلى المواهب والقدرات المختلفة بين إنسان وآخر، من حيث أساليب التوصيل ومهارات الإبلاغ.

والله إذ خلق الإنسان علمه البيان، كأداة لازمة من أدوات التطور البشري، تسبق النشاطات الإنسانية: ( الرحمن * علم القرآن ) [ ص: 24 ] ( خلق الإنسان * علمه البيان ) (الرحمن:1-4 )، جاء في أضواء البيان: "(علمه البيان) التحقيق فيه أن المراد بالبيان الإفصاح عما في الضمير" [2] .

وفي الآية نلحظ تلازما دلاليا بين تعلم القرآن وتعلم البيان، فكما أن إتقان القرآن والمهارة فيه يأتي بالتعلم، فإن الأمر كذلك مع مسألة البيان، فلابد من تعلمه وإجادته، وقد كانت اللغة العربية الفصحى تنطق بالسليقة في عصر الاحتجاج اللغوي، أما اليوم فإن التوظيف السليم للغة، وحسن الإلقاء، يحتاج إلى تعلم ودربة واكتساب مخزون وافر من المفردات اللغوية، التي تعين الـملقي على نقل الأفكار بسهولة ويسر.

إن القدرة على الإبانة وحسن التوظيف اللغوي شرط الموجه الناجح؛ وإن رفع مستوى التواصل يأتي أيضا من خلال اللغة الدالة الواضحة، وبغير ذلك تضيق دائرة الاتصال وقد تغلق، وقد وصف الله تعالى كتابه الكريم أنه فصيح بليغ معجز، وتشمل فصاحته متانة المبنى وقوة المعنى، وأنه إلى جانب ذلك (مبين) (مفصل) (غير ذي عوج)، أي لم تكن الفصاحة مقصودة لذاتها، بل مع كونه بليغا هو أيضا واضح، سهل المتناول، قريب المأخذ، مع تحقق كمال الحجية فيه.

وقد أرسل الله الرسل يدعون الناس إلى الله معززين بقوة الكلمة، وكان محور نشاط الدعوة ابتداء هو الخطاب النظري المشفوع بالحجة الباهرة، [ ص: 25 ] والمعجزة الظاهرة، والسلوك التطبيقي المشفوع بالمثالية والتجرد: ( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما ) (النساء:165)، ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ... ) (البقرة:213) ، ( وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) (الأنعام:48).

وقد شرع الجهاد لإزالة موانع الوصول إلى الناس، وكان سببه وجود الجبابرة المستبدين الذين عطلوا دور الكلمة، ومنعوا إقامة الحجة على الناس، ومتى أمكن إطلاق دور الكلمة وشقت طريقها إلى الناس انتفت الحاجة إلى حمل السيف، ولم يكن القبول بدفـع الجزية ممن لم يسلم عن يد وهو صاغر إلا رمز تحقق الغلبة الدعوية بعد أن صـار الطرف الأضعـف، فـلا القتال ولا الجزية مطلوبان لذاتهما، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( جاهدوا المشركين بألسنتكم وأنفسكم وأموالكم وأيديكم ) [3] .

وقال الله عز وجل: ( فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ) (الفرقان:52) أي بالقرآن الكريم.

فاللسان ركيزة الدعوة الأولى، وهو المسؤول عن النفاذ إلى أعماق القلوب وأغوار النفوس، وقد يغني عن السيف ولكن لا يغني عنه السيف. [ ص: 26 ]

وبما أن نطاق دور الكلمة أصبح اليوم أكثر اتساعا بل وأكثر إنتاجية وتأثيرا في جمهور المتلقين، فإن التعويل على دورها يقع في المقدمة، وأما القصور الظاهر في الدعوة إلى الله بالكلمة فمرده إلينا نحن المسلمين بشكل عام، والعامـلين في حقـل التوجيه الدعوي بشكل خاص، ولم يكن ذلك ليحدث لو لم نتحول إلى نقاط فراغ محتلة بثقافة الآخرين، فتراجع دور الأمة في القيام بأمانة التبليـغ التي حملها الله إياها: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ) (آل عمران :110).

إن جهل الأمة بنفسها ودورها في معادلة التدافع الحضاري وقدرتها على المبادرة والتأثير هو آفتهـا اليوم، رغـم ما ينتظرها من مهمة إنسانية عظيمة ما أحوج العالم إليها، إنها معنية بتمتين علاقة الأرض بالسماء، معنية بربط المخلوق بخالقه، فذلك وحده من شأنه أن يحافظ على منظومة القيم الإنسانية التي جاءت كرصيد إلهي فطر بها الإنسان.

لذا نقول: في البدء كانت الكلمة، وستظل أداة التأثير الإنساني الأول لصياغة منظومة الحياة، فلنبحث عن الكلمة كسلاح تغيير، وقبل ذلك لتصحيح مسارها، وتحقيق التوازن الذي أصبح مختلا بفعل سوء استغلال دور الكلمة من قبل أعداء الإسلام الذين لا يفتئون يتربصون به الدوائر. [ ص: 27 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية