الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
3- مخاطبة الناس بما يفهمون:

قال الله تعالى: ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم .. ) (إبراهيم:4)، ( فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون ) (الدخان:58)، من فقه الداعية أن يعرف من يخاطب، وأن يعرف أن لغته وأفكاره يجب أن تنتظم في المستوى مع سلك عقول الناس، فيرتقي بلغته وأفكاره إذا كان من يخاطبهم من النخبة، ويبسط لغته وأفكاره مع القواعد السطحية، وهذا على الإجمال، وإلا فلدينا شرائح مختلفة، تقوم على اختلاف الجنس، والفئات العمرية، واختلاف الثقافات، ولا أعني باللغة هنا مجرد الألفاظ بل تتعداها إلى الثقافات الخاصة، والمذاهب الدينية والفكرية.

وقد تجد من الخطباء والمحاضرين من يبني حديثه على واقع فهمه هو، ويسترسل في الكلام وهو إنما يحدث نفسه ويتفاعل معها، بينما الناس من حوله لا يدرون عن أي شيء يتحدث؛ لأنه ببساطة لم يشرح المفاهيم ويحدد الوقائع، ويضع الأرضية المشتركة ليقيم عليها التراسل بين مدركات الطرفين، وقد وجدنا أهل مدين يتخذون من فهم الخطاب تعلة للتهرب ( قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ) (هود:91)، والواقع إنما قالوا ذلك احتقارا له واستضعافا، ومحاولة قلب حقيقة ما فهموه عنه على وجهه، بدافع الجدال والتكذيب، قال محمد أبو السعود في تفسير الآية: " ( قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول ) ، الفقه معرفة غرض المتكلم من كلامه، أي ما نفهم [ ص: 110 ] مرادك، وإنما قالوه بعد ما سمعوا منه دلائل الحق المبين، على أحسن وجه وأبلغه، وضاقت عليهم الحيل، وعيت بهم العلل فلم يجدوا إلى محاورته سبيلا سوى الصدود عن منهاج الحق، والسلوك إلى سبيل الشقاء، كما هو ديدن المفحم المحجوج، يقابل البينات بالسب والإبراق والإرعاد، فجعلوا كلامه المشتمـل على فنون الحـكم والمواعـظ وأنواع العـلوم والمعـارف من قبيل ما لا يفهم معناه، ولا يدرك فحواه، وأدمجوا في ضمن ذلك أن في تضاعيفه ما يستـوجب أقصى ما يكون من المؤاخـذة والعقاب، ولعل ذلك ما فيه من التحذير من عواقب الأمم السالفة" [1] .

إن من الغفلة أن يتحدث الداعية عند الأطفال بلغة المناطقة وأهل الرأي، وعند أهل الوبر بثقافة أهل الحضر، أو يتحدث عن فلسفات أهل العقائد الفاسدة عند أناس يقرون لله بالعبودية على الفطرة السليمة، فينثر عليهم من كنانته من شبهات وأباطيل ما ليس لهم بها سابق عهد ولا معرفة، ثم يتركهم بعد أن يكون قد قلب جهات التصور عندهم نحو مغاليق تستعصي على الفهم، وقد يكون من الصعوبة التفلت منها، عن أمير المؤمنين علي، رضي الله عنه، قال: "حـدثوا الناس بمـا يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسـوله" [2] . وعن المقدام بن معد يكرب مرفوعا: ( إذا حدثتم الناس عن ربهم فلا تحدثوهم بما يفزعهم ويشق عليهم ) [3] . [ ص: 111 ]

قال ابن حجر: "إن المتشـابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة، ومثله قول ابن مسعود: ما أنت محدثا قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة" [4] .

وقد ينـزل الداعية في قرية غالبها أميون فيتحدث إليهم عن النظام العلمي وتعقيداته، أو عن (اللوبيهات) المتنفذة في العالم، وإن كان مثل هذا الربط مطلوبا إلا أنه سيكون خرقا أن يبني قصرا على كومة من القش، وهاهنا يبرز ذكاء الخطيب والواعظ، ودقة ملاحظته، وفي تقديري أنها هبة ربانية، أن يتكيف الفرد بالسجية مع الجو الذي يعيشه، ويبدأ من حيث انتهى إليه الناس في تفكيرهم ( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ... ) (البقرة:269). ومن التفسير الحكمة: أن تضع الأمر في مكانه الصحيح، قال القرطبي: "لم ينتفع بالآيات حيث لم تكن معها حكمة" [5] .

إن المدى المطلوب في التعامل مع المقامات المختلفة يتجاوز مسألة تحاشي التصادم مع العقل، إلى المعايشة مع روافد الثقافة والانطلاق منها؛ ليكون الاحتجاج عن طريقها أبلغ، ولذلك لما اشتهر أهل مصر بالسحر كانت معجزة نبي الله موسى، عليه السلام، متلائمة مع الثقافة، فتكون مفهومة وغير غريبة ويسهل على الكفار التعاطي معها، قال تعالى: ( فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون ) (الشعراء:45)، لقد أثارت هذه الآية اهتمامهم، وحركت [ ص: 112 ] فيهم نوازع الثقة بالنفس، وقوى عندهم الرغبة في المواجهة وظهرت منهم لغة التحدي، وهذا استدراج دعوي يصل بالطرف الآخر إلى المواجهة مع الحقيقة: ( قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين * يأتوك بكل ساحر عليم ) (الأعراف:111-112)، والنتيجة أن فرعون أعجب بهذا التحدي لأنه مع قومه ممن يجيدون صناعته ويفهمون أسراره فلم يكتف بمناظرة جزئية، بل أرادها عامة ليشهد الناس جميعا قدرته في التغلب على موسى: ( .. فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى * قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى * فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى ) (طه:58-60)، وبهذا الجمع أقيمت الحجة على فرعون وقومه؛ ولو كانت المعجزة غريبة لتهرب فرعون منها، وعزف عن مجاراتها.

وكانت معجزة سيدنا عيسى، عليه السلام، من نوع المنجز الحضاري الذي يعتد به الناس في زمانه وهو الطب، ليثير بذلك اهتمامهم ويكون باعثا للتطلع، فكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحي الموتى: ( .. أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ) (آل عمران:49).

ولما كانت الفصاحة هي منبع فخر العرب واعتدادهم جاء القرآن بالبيان المعجز ليجبرهم على الالتفات إلى الدعوة ويلجمهم بالحجة الظاهرة والمعجزة الباهرة.. [ ص: 113 ]

وكان منطلق حديث نبي الله شعيب، عليه السلام، مع قومه من الميزان والمكيال، كونهم أهل تجارة.

ويدخل ضمن هذا مراعاة الظروف الوقتية كالمناسبات الطارئة أو الثابتة، من أفراح وأتراح مما يجده محل اهتمام المخاطبين ومنصرف شغلهم، وهذا شرط للحصول على التفاعل والإيجابية، فمن الخلف مثلا أن يتحدث الداعية في يوم فرح عن عذاب القبر وأهوال يوم القيامة، أو يتحدث عن السحر والسحرة والناس في شغل عن أحداث مزلزلة استحوذت على تفكيرهم، فيكون انعكاسا لما يدور في الواقع لا ارتكاسا يدور معه الواقع: ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ... ) (يوسف:108).

وقد يجد الداعية أنه ما من بد من أن يطرق موضوعا غير ذي صلة بالحدث العارض، إما لأنه لم يكن معدا لحديث المناسبة، أو لأنه مهم وهنا تكمن ألمعيته في الوصول إلى مبتغاه عن طريق الاستهلال بحديث المناسبة، إلى الموضوع الذي أعد نفسه للحديث فيه.

التالي السابق


الخدمات العلمية