الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
6 - باب الرهن غير المضمون

11743 - أخبرنا أبو عبد الله، وأبو بكر، وأبو سعيد، قالوا: حدثنا أبو العباس قال: أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غرمه" . [ ص: 232 ]

11744 - قال الشافعي: غنمه: زيادته، وغرمه: هلاكه ونقصه.

11745 - وأخبرنا أبو بكر، وأبو زكريا، وأبو سعيد، قالوا: حدثنا أبو العباس قال: أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا الثقة، عن يحيى بن أبي أنيسة، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله أو مثل معناه لا يخالفه.

11746 - قال أحمد: رواه إسماعيل بن عياش، عن ابن أبي ذئب موصولا، ويحيى بن أبي أنيسة ضعيف، وحديث ابن عياش عن غير أهل الشام ضعيف.

11747 - وقد أخبرني أبو عبد الرحمن السلمي، فيما قرأت عليه من أصله قال: أخبرنا علي بن عمر الحافظ قال: حدثنا أبو محمد بن صاعد قال: حدثنا عبد الله بن عمران العابدي قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن، له غنمه، وعليه غرمه".

11748 - قال علي: زياد بن سعد من الحفاظ الثقات، وهذا إسناده حسن متصل.

11749 - أنبأني أبو عبد الله، إجازة، عن ابن العباس، عن الربيع، عن الشافعي قال: معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم: "لا يغلق الرهن"، لا يغلق بشيء، أي: إن ذهب لم يذهب بشيء، وإن أراد صاحبه انفكاكه فلا يغلق في [ ص: 233 ] يدي الذي هو في يديه، والرهن للراهن أبدا حتى يخرجه من ملكه بوجه يصح إخراجه له.

11750 - والدليل على هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرهن من صاحبه الذي رهنه"، ثم بينه ووكده، فقال: "له غنمه، وعليه غرمه".

11751 - قال الشافعي: وغنمه: سلامته وزيادته، وغرمه: عطبه ونقصه، ولو كان إذا رهن رهنا بدرهم وهو يساوي درهما فهلك، ذهب الدرهم فلم يلزم الراهن، كان إنما هلك من مال المرتهن، لا مال الراهن، فهو حينئذ من المرتهن لا من الراهن، وهذا خلاف ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وبسط الكلام فيه.

11752 - قالوا: روينا عن علي بن أبي طالب، أنه قال: " يترادان الفضل.

11753 - قال: قلنا: فهو إذا قال: يترادان الفضل، فقد خالف قولكم، وزعم أنه ليس منه شيء بأمانة.

11754 - قال: فقد روينا عن شريح، أنه قال: الرهن بما فيه، وإن كان خاتما من حديد.

11755 - قلنا: وأنت أيضا تخالفه، أنت تقول: إن رهنه بمائة ألف فهلك الرهن رجع صاحب الحق المرتهن على الراهن بتسع مائة من رأس ماله، وشريح لا يرد واحدا منهما على صاحبه بحال.

11756 - قال: فقد روى مصعب بن ثابت، عن عطاء، أن رجلا رهن رجلا فرسا فهلك الفرس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ذهب حقك" . [ ص: 234 ]

11757 - فقيل له: أخبرنا إبراهيم، عن مصعب بن ثابت، عن عطاء قال: زعم الحسن كذا، ثم حكى هذا القول.

11758 - قال إبراهيم: كان عطاء يتعجب مما روى الحسن.

11759 - وأخبرنيه غير واحد عن مصعب، عن عطاء، عن الحسن.

11760 - وأخبرني من أثق به أن رجلا من أهل العلم، سماه في القديم، فقال: إن ابن المبارك رواه عن مصعب، عن عطاء، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسكت عن الحسن.

11761 - فقيل له: أصحاب مصعب يروونه، عن عطاء، عن الحسن.

11762 - فقال: نعم، كذلك حدثنا، ولكن عطاء مرسل أنفق من الحسن مرسل.

11763 - فقال الشافعي: ومما يدلك على وهن ذلك عن عطاء إن كان رواه أن عطاء يفتي بخلافه، ويقول: فيما ظهر هلاكه أمانة، وفيما خفي هلاكه: يترادان الفضل.

11764 - وهذا أثبت الرواية عنه، وقد روي عنه: يترادان، مطلقة، وما شككنا فيه، فلا نشك أن عطاء إن شاء الله لا يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم مثبتا عنده ويقول بخلافه، مع أني لم أعلم أحدا روى هذا عن عطاء يرفعه إلا مصعب.

11765 - قال: والذي روي عن عطاء يرفعه يوافق قول شريح: أن الرهن بما فيه، فقد يكون الفرس أكثر مما فيه من الحق، ومثله وأقل، فلم يرو أنه سأل عن قيمة الفرس.

11766 - قال: فكيف قبلتم عن ابن المسيب منقطعا.

11767 - قلنا: لا يحفظ أن ابن المسيب روى منقطعا إلا وجدنا ما يدل على تسديده، ولا أثره عن أحد فيما عرفنا عنه إلا عن ثقة معروف، فمن كان بمثل حاله قبلنا منقطعه. وبسط الكلام في شرح هذا.

11768 - قال: فكيف لم تأخذوا بقول علي فيه . [ ص: 235 ]

11769 - قلنا: إذا ثبت عندنا عن علي، رضي الله عنه، لم يكن لنا أن نترك ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: إلى ما جاء عن غيره.

11770 - قال: فقد روى عبد الأعلى الثعلبي، عن علي بن أبي طالب، شبيها بقولنا.

11771 - قلنا: الرواية عن علي بن أبي طالب، بأن يترادا الفضل أصح عنه من رواية عبد الأعلى، وقد رأينا أصحابكم يضعفون رواية عبد الأعلى التي لا يعارضها معارض تضعيفا شديدا، فكيف بما عارضه فيه من هو أقرب من الصحة وأولى بها منه.

11772 - قال الشافعي: وقيل لقائل هذا القول: قد خرجت فيه مما رويت عن عطاء ترفعه، ومن أصح الروايتين عن علي، وعن شريح، وما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى قول رويته عن إبراهيم، وقد روي عن إبراهيم خلافه. وبسط الكلام في هذا.

11773 - قال أحمد: أما الذي ذكر الشافعي رحمه الله في مرسلات ابن المسيب، فكذلك قال غيره من أهل العلم بالحديث.

11774 - قال أحمد بن حنبل: مرسلات سعيد بن المسيب صحاح، لا نرى أصح من مرسلاته.

11775 - وأما الحسن، وعطاء فليست مراسيلهما بذلك، هي أضعف المرسلات، كأنهما كانا يأخذان عن كل. أخبرناه أبو عبد الله الحافظ قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال: حدثنا حنبل بن إسحاق قال: سمعت عمي أبا عبيد الله يقول: فذكره.

11776 - وأخبرنا أبو عبد الله قال: حدثنا أبو العباس قال: سمعت العباس بن محمد الدوري، يقول: سمعت يحيى بن معين، يقول: أصح المراسيل مراسيل سعيد بن المسيب.

[ ص: 236 ] 11777 - أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد العنزي قال: حدثنا عثمان بن سعيد الدارمي قال: حدثنا عبد الله بن صالح المصري قال: حدثني الليث قال: حدثني يحيى بن سعيد، أن عبد الله بن عمر بن الخطاب، كان إذا سئل عن مسألة فالتبست عليه قال: "عليكم بسعيد بن المسيب، فإنه قد جالس الصالحين".

11778 - وأخبرنا أبو عبد الله قال: أخبرني أبو النضر الفقيه قال: حدثنا عثمان بن سعيد قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني الليث، عن جعفر بن ربيعة قال: قلت لعراك بن مالك: من أفقه أهل المدينة؟ قال: " أما أعلمهم بقضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وأفقههم فقها، وأبصرهم بما مضى من أمر الناس فسعيد بن المسيب ".

11779 - قال أحمد: الحكايات عن السلف في تفضيل سعيد بن المسيب فيما يرونه على أبناء دهره كثيرة.

11780 - وللشافعي رحمه الله فيما قال في مراسيل ابن المسيب بهم قدوة.

11781 - ثم إنه لم يقتصر في مراسيله على مجرد الدعوى، حتى بين وجه الرجحان في مراسيله، ثم لم يخص به ابن المسيب، بل قد قطع القول بأن من كان في مثل حاله قبلنا منقطعه.

11782 - وقد حكينا مبسوط كلامه في ذلك في الأصول، ثم هذا الحديث قد وصله زياد بن سعد، وهو من الثقات، وسبق ذكرنا له.

11783 - وأما الذي روي، عن عمرو بن دينار، عن أبي هريرة، مرفوعا: "الرهن بما فيه". منقطع وإسناده غير قوي . [ ص: 237 ]

11784 - وروى إسماعيل الذارع، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أنس، وعن سعيد بن راشد، عن حميد، عن أنس، مرفوعا: "الرهن بما فيه".

11785 - وإسماعيل هذا كان يضع الحديث قاله الدارقطني فيما أخبرونا عنه.

11786 - واختلفت الرواية فيه عن علي: فروى عبد الأعلى الثعلبي، عن ابن الحنفية، عن علي: "إذا كان الرهن أقل رد الفضل، وإن كان أكثر فهو بما فيه".

11787 - وعبد الأعلى الثعلبي ضعيف.

11788 - وقال يحيى بن سعيد القطان: قلت لسفيان في أحاديث عبد الأعلى، عن ابن الحنفية فوهنها.

11789 - وفي رواية الحكم عن علي، ورواية الحارث، عن علي: يترادان الفضل، وهو منقطع، وضعيف.

11790 - وفي رواية قتادة، عن خلاس، عن علي: "إذا كان في الرهن فضل فإن أصابته جائحة فالرهن بما فيه، وإن لم تصبه جائحة فإنه يرد الفضل" . [ ص: 238 ]

11791 - وهذه أصح الروايات عن علي، وفيها: أن أهل العلم بالحديث يقولون: ما روى خلاس، عن علي أخذه من صحيفة.

11792 - قاله يحيى بن معين، وغيره من الحفاظ.

11793 - وروي عن عمر بن الخطاب مثل رواية عبد الأعلى، وإنما رواه أبو العوام عمران بن داور القطان، عن مطر، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عمر بن الخطاب.

11794 - وعمران بن داور القطان لم يحتج به صاحبا الصحيح، وضعفه يحيى بن معين، وأبو عبد الرحمن النسائي. وكان يحيى بن سعيد القطان لا يحدث عنه، وقال: لم يكن من أهل الحديث، كتبت عنه أشياء فرميت بها.

11795 - أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال: حدثنا العباس بن محمد الدوري قال: سمعت يحيى بن معين، يقول: عمران القطان لم يرو عنه يحيى بن سعيد، وليس هو بشيء.

11796 - والعجب أن بعض من يدعي تسوية الأخبار على مذهبه يطعن في مطر الوراق في مسألة نكاح المحرم، حين روى حماد، عن مطر، عن ربيعة، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع: "أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة حلالا". ثم يحتج [ ص: 239 ] برواية أبي العوام عنه في هذه المسألة، ويجعل اعتماده عليه، إذ ليس له فيما يروي عن غيره حجة كما بينه الشافعي.

11797 - ثم إنه ذكر حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: كان من أدركت من فقهائنا الذين ينتهى إلى قولهم، منهم: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وذكر الفقهاء السبعة في مسبحة من نظرائهم أهل فقه وفضل، فذكر ما جمع من أقاويلهم في كتابه على هذه الصفة أنهم قالوا: الرهن بما فيه إذا هلك وعميت قيمته. ويرفع ذلك منهم الثقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

11798 - واستدل بهذا على أن ابن المسيب كان يذهب إلى تضمين الرهن، والراوي أعلم بتأويل الخبر، دل أن معنى حديثه غير ما ذهبتم إليه.

11799 - قلنا: ليس من الإنصاف ترك شيء من الحديث ليستقيم على الباقي.

11800 - وما قصده من الاحتجاج به حديث ابن أبي الزناد، قد أخبرناه أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف الرفاء قال: أخبرنا عثمان بن محمد بن بشر قال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، وعيسى بن مينا قالا: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد أن أباه أخبره قال: كان من أدركت من فقهائنا الذين ينتهى إلى قولهم، فذكر أسماءهم، ثم قال: وربما اختلفوا في الشيء فأخذنا بقول أكثرهم.

11801 - فأخبر أبو الزناد، أن الذي جمعه واختاره فيما اختلفوا فيه قول بعضهم، لا قول جميعهم.

11802 - وقد ثبت عن ابن المسيب خلاف ذلك، دل أنه لم يرده.

11803 - وأما رواية الثقة منهم فهو منقطع، كحديث عطاء، وفيه زيادة ليست في حديث عطاء، وهي أنه إنما يكون بما فيه إذا عميت قيمته . [ ص: 240 ]

11804 - وهذا أشبه أن يكون كمذهب مالك في الفرق بين ما يظهر هلاكه، مثل الدار والنخل والعبد، وبين ما يخفى هلاكه، فيجعله بما فيه فيما يخفى هلاكه، ويجعله أمانة فيما يظهر هلاكه.

11805 - ونحن نقول به فيما يظهر هلاكه.

11806 - والمحتج بهذا لا يقول به فيما يخفى هلاكه في حال دون حال، ولا يقول به فيما يظهر هلاكه بحال، فمن المحال أن يحتج بما لا يقول به في أكثر أحواله، وهو عندنا لا حجة فيه لانقطاعه.

11807 - ونحن لم نحتج بمراسيل ابن المسيب حتى أكدناها بما تتأكد به المراسيل، ثم قد روينا مرسله في هذه المسألة من غير جهة ابن أبي ذئب موصولا، فقامت به الحجة.

11808 - واعترض المحتج بهذا المنقطع على الشافعي في تأويله قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن"، وزعم أنه يخالف تأويل غيره.

11809 - والشافعي قد ذكر معه تأويل غيره، واستنبط من الخبر معنى آخر، وهو بمكانة من اللغة، وكونه من أرباب اللسان دارا ونسبا، فمن الغباوة الدخول عليه فيما يقوله في اللغة، ثم اعتماده في القديم والجديد على قوله: "الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غرمه"، ولم أجد لقائل هذا عليه كلاما سوى التخصيص، وذلك لا يقبل من غير دلالة، وبالله التوفيق.

[ ص: 241 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية