الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
23 - ما جاء في وضع الجائحة

11223 - أخبرنا أبو بكر، وأبو زكريا، وأبو سعيد، قالوا: حدثنا أبو العباس قال: أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن حميد بن قيس، عن سليمان بن عتيق ، [ ص: 88 ] عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع السنين، وأمر بوضع الجوائح".

11224 - قال الشافعي: سمعت سفيان يحدث هذا الحديث كثيرا في طول مجالستي له، لا أحصي ما سمعته يحدثه من كثرته، لا يذكر فيه: أمر بوضع الجوائح، لا يزيد على أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع السنين، ثم زاد بعد ذلك: وأمر بوضع الجوائح. قال سفيان: وكان حميد يذكر بعد بيع السنين كلاما قبل وضع الجوائح لا أحفظه، فكنت أكف عن ذكره، لأني لا أدري كيف كان الكلام، وفي الحديث: أمر بوضع الجوائح.

11225 - وبهذا الإسناد قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.

11226 - وبهذا الإسناد قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا مالك، عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن، عن أمه عمرة: أنه سمعها تقول: ابتاع رجل ثمر حائط في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعالجه وأقام عليه حتى تبين له النقصان، فسأل رب الحائط أن يضع عنه، فحلف أن لا يفعل، فذهبت أم المشتري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تألى أن لا يفعل خيرا"، فسمع بذلك رب المال، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هو له.

11227 - قال الشافعي في رواية أبي سعيد: قال سفيان في حديثه عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في وضع الجوائح ما حكيت، فقد يجوز أن يكون الكلام الذي [ ص: 89 ] لم يحفظه سفيان من حديث حميد يدل على أنه أمره بوضعها على مثل أمره بالصلح على النصف، وعلى مثل أمره بالصدقة تطوعا حضا على الخير لا حتما، وما أشبه ذلك، ويجوز غيره، فلما احتمل الحديث المعنيين معا ولم يكن فيه دلالة على أيهما أولى به، لم يجز عندنا، والله أعلم، أن يحكم على الناس في أموالهم بوضع ما يجب لهم بلا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يثبت بوضعه.

11228 - قال الشافعي: وحديث عمرة مرسل، وأهل الحديث ونحن لا نثبت المرسل، ولو ثبت حديث عمرة كانت فيه والله أعلم دلالة على أن لا توضع الجائحة، لقولها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تألى أن لا يفعل خيرا"، فلو كان الحكم عليه أن يضع الجائحة لكان أشبه أن يقول: ذلك لازم له، حلف أو لم يحلف.

11229 - قال أحمد: حديث عمرة قد أسنده حارثة بن أبي الرجال، فرواه عن أبيه، عن عمرة، عن عائشة، إلا أن حارثة ضعيف عند أهل العلم بالحديث، وأسنده يحيى بن سعيد، عن أبي الرجال، إلا أنه مختصر ليس فيه ذكر الثمر .

[ ص: 90 ] 11230 - وأما حديث سليمان بن عتيق، فقد أخرجه مسلم في الصحيح.

11231 - وأما حديث أبي الزبير، عن جابر، فكما رواه الشافعي، عن سفيان، رواه علي بن المديني، عن سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وضع الجوائح.

11232 - وقد رواه ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟".

11233 - وهو مخرج في كتاب مسلم، وهذا إن لم يكن واردا في بيع الثمار قبل بدو صلاحها، كما روينا في حديث مالك، عن حميد، عن أنس، فهو صريح في المنع من أخذ ثمنها إن ذهبت بجائحة.

11234 - وقد روي في حديث محمد بن ثور، عن ابن جريج: إن أصابته جائحة من السماء، وفيه نظر، ولا يصح حملها على ما يجتاح الناس في الأراضي الخراجية التي خراجها للمسلمين، فيوضع ذلك الخراج عنهم، فأما في الأشياء المبيعات فلا، وذلك أن حديث جابر ورد في البيع، ولم يكن يومئذ على أرض المسلمين خراج، ولا يمكن حمله على ما لو أصابتها جائحة قبل القبض؛ لأنه خص بهذا الحكم الثمار، وخص تلفها بجائحة من السماء، إن كان محفوظا فيما رواه محمد بن ثور، ولم يقيده بالقبض وعدم القبض فهو على العموم، إلا أنه يوافق [ ص: 91 ] حديث مالك، عن حميد، عن أنس في بعض ألفاظه، فيشبه أن يكون في معناه، ولعل الشافعي لهذا المعنى أو لغيره تكلم على حديث سليمان بن عتيق، وعلق القول على ثبوته دون حديث أبي الزبير، والله أعلم.

11235 - أخبرنا أبو سعيد قال: حدثنا أبو العباس قال: أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، فيمن باع ثمرا فأصابته جائحة قال: "ما أرى إلا أنه إن شاء لم يضع". قال سعيد: يعني البائع.

11236 - قال الشافعي: وروي عن سعد بن أبي وقاص، أنه باع حائطا له فأصابت مشتريه جائحة، فأخذ الثمن منه، ولا ندري أيثبت أم لا؟.

11237 - قال أحمد: ولم يبلغني إسناده لننظر فيه وأصح ما يحتج به لهذا القول ما أخبرنا أبو علي الروذباري قال: أخبرنا أبو بكر بن داسة قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا الليث، عن بكير، عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد أنه قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصدقوا عليه"، فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك". رواه مسلم في الصحيح، عن قتيبة.

11238 - واحتج الشافعي لهذا القول بحديث النهي عن بيع الثمر حتى تنجو من العاهة، وقوله: "أرأيت إن منع الله الثمرة، فبم يأخذ أحدكم مال أخيه؟" قال: ولو [ ص: 92 ] كان مالك الثمرة لا يملك ثمن ما أجيح من ثمرته ما كان لمنعه أن يبيعها معنى قبل أن يبدو فيها الصلاح.

11239 - وبسط الكلام في شرحه، ثم قال: وإن ثبت الحديث في وضع الجائحة لم يكن في هذا حجة.

11240 - وأمضى الحديث على وجهه قال: وهذا مما أستخير الله فيه، ولو صرت إلى القول به وضعت كل قليل وكثير.

[ ص: 93 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية