أولا: مواجهة التطرف بالرأي الصائب:
ذكرنا سـابقا أن التطرف هو في مفهومه العام تجاوز ما حدده الدين من الحقائق والتشبث بها على أنها هي الحق الذي لا حق غيره. والباحث عن الحق في مسألة شرعية أو في غيرها حينما يكون فكره موجها، بحكم الاستبداد، فإنه يكون عرضة للانتهاء إلى الآراء الخاطئة؛ وذلك لأن المتسلط عليه الموجه لفكره يريد منه في الغالب أن ينتهي إلى نتيجة لا تقتضيها المعطيات الموضوعية للمسألة المبحوثة، وإنما تقتضيها المعطيات الذاتية للمتسـلط المستبد: مصلحـة مادية، أو تعصبا لرأي، أو انتصـارا لنحلة، أو ما شابه ذلك من الأسباب، وحينئذ فإن نهاية البحث سيوصل المستبد عليه في الغالب إلى رأي يكتنفه احتمال كبير بأن يكون خطأ متجاوزا لتـحـديـدات الدين بفعل ذلك التوجيه الذاتي، ومن ثمة يتولد التطرف إذا ما وقع التشبث بذلك الرأي على أنه هو الحق، وغالبا ما يكون ذلك هو المصير في مثل هذه الأحوال.
وهذا هو شأن فرعون حينما كان يوجه ملأه إلى أن ينتهوا إلى ما يراه هو من فكرة خاطئة ليحافظ على هيبته، ويصدهم عن أن يعملوا عقولهم فيما طرحه عليهم الرجل المؤمن عسى أن يصلوا بفكرهم الحر إلى نتيجة [ ص: 47 ] تخالف مبتغاه، وتهدد سلطانه وهيبته، وهي الإيمان بنبوة موسى عليه السلام. وذلك هو شأن شيوخ الصوفية الغالية الذين ينهون أتباعهم عن أن يستمعوا إلى أقوال غير أقوالهم بغية أن تستحكم فيهم التبعية لهم، فينجر عن ذلك منافع معنوية من جـاه وحظـوة، أو منافـع مادية من أموال وخدمات. وهو أيضا شأن شريحة تدعي لنفسها اسم السلفية، وفيها يلزم الشيوخ أتباعهم بأن لا يأخذوا العلم إلا منهم دون غيرهم إذ الحق مقتصر عليهم، أما ما عنـد غيرهـم فهو الضـلال. وذلك هو شأن كل المستبدين، فإنـهم يسدون أمام أتباعهم مسالك الفكر ليتمحض لمسلك واحد هو مسلك ما يرونه هم. وإذا دخل العامل الذاتي في الإلزام بما يراه المستبد من رأي فإن ذلك كثيرا ما يكون سببا في خطأ ذلك الرأي، وحينئذ فإن الانغلاق عليه والتعصب له يكون بابا من أبواب التطرف.
ولكن حينما يكون أمام الناظر الباحث فرصة لحركة فكرية حرة يتجه بـها إلى النـظر في معطيـات متعددة، وآراء مختلفة، ما تلقاه من شيخه وما تلقاه من غيره، في منهج من المقارنة والنقد، فإنه يكون فيما يتوصل إليه من رأي أقرب ما يمكن من الحق، إذ ضرب الرأي بالرأي والدليل بالدليل والحجة بالحجة من شأنه أن يمتحن الآراء المختلفة، وينخلها نخلا، فيتبين الضعيف منها من القوي، والصحيح من السقيم، فينتهي الفكر إذن من هذه الحركة الحرة إلى الأخذ بما هو أصح وأقوى، ويبتعد عما يوقعه في التطرف من الآراء الغريبة والشاذة والضعيفة. [ ص: 48 ]
ولهـذا السبـب جاء الدين في أول ما جاء به من القواعد المنهجية يحرر العقـول من الاستبـداد الفـكري الذي يمارسه على الناس أصحاب الجـاه الاجتماعي باسـم التقـاليد، أو الرهبان والكهنة باسم الدين، لينتهوا جراء هذا الاستبداد إلى تطرف في التشبث بالمعهـود والرفض لكل ما سـواه، وهو شأن الذين عارضوا الدعوة الإسلامية على أول عهدها معارضة بلغ فيها التطرف إلى درجة العنف كما هو معلوم، كما هو شأن كل من يكون عـلى موقفهم ممن يأتي بعدهم؛ ولذلك جاء القرآن الكريم يصيـح في الناس أن يحرروا عقولـهم بتحـطيم نير الاستبداد الفكري المسلط عليهم، لينظروا فيمـا عرض عليهم بفـكر حر يخرج بهم من دائرة التـطرف الرافـض، وذلك في مثـل قولـه تـعـالى: ( ... قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون * قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون ) (الزخرف:23-24)، وقوله تعالى: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) (التوبة:31)، ففـي كل من هـذا وذاك دفـع إلى التحـرر الفـكري من سطـوة المستبدين من أجل الوصول إلى الحقيـقـة كمـا يتبينها الفـكر الحر، وكمـا تـكون بابا للاعتـدال وتحـول دون التطرف. [ ص: 49 ]
وقد كان هذا المسلك ديدن الفحول من العلماء المسلمين، إذ تراهم في مؤلفاتهم يبسطون الآراء المختلفة إلى حد التناقض، والاجتهادات المتوافقة والمتعارضة على بساط النظر الحر، ويتناولونها بالتمحيص والامتحان والنقد، ليستبين لهم الرأي الأصوب فيتخذوه رأيا لهم. ويمكن بالإحصاء أن نتبين كيف أن علماء التفسير والفقه والعقيدة وغيرها يكونون أثقب رأيا وأصح اجتهادا وأعدل مذهبا كلما كانوا أكثر حرية فكرية في التوجه إلى العلوم والمعارف في أوسع دوائرها، وأكثر إيرادا ونقدا للآراء المختلفة التي تتضمنها، وقد كانت تلك هي الصفة الغالبة على العلماء المسلمين، وكيف أن الأقرب إلى التطرف منهم هم الأضيق دائرة في تناولهم للعلوم والمعارف وللآراء المختلفة فيها.