الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ثانيا: مواجهة التطرف بتقبل المخالف:

            أسلفنا القول: إن الاسـتبداد، وخاصة منه ما كان فكريا، يفضي إلى تطرف متمثل في الرفض المبدئي للرأي المخالف، وذلك باعتبار ما يحدثه الاستبداد في النفوس من يقين بأن الحقيقة تنحصر فيما يريد المستبد من رأي، وهذا الرفض للمخالف كثيرا ما يتطور من تطرف في درجاته الأولى لينتهي إلى درجاته الأخيرة فيصبح تطرفا عنيفا، وذلك حينما تصل درجة الرفض إلى التكفير أو حتى إلى ما هو دون ذلك من التضليل والتفسيق. وحرية التفكير هي إحدى المسالك المهمة التي تفضي إلى تقبل المخالف من [ ص: 50 ] الرأي والمخالف من أصحاب الرأي، وهي بالتالي مسلك مهم من المسالك التي تحول دون توليد التطرف في النفوس والعقول والسلوك. وليس المقصود بتقبل (الآخر) المخالف تبني ذلك المخالف من الرأي والأخذ به في مقابل التنازل عما يراه المتقبل من رأي لمجرد التنازل، أو لأسباب غير علمية، فذلك أمر غير مطروح في هـذا الشأن، وإنما المقصود به معان أخرى متعددة ولكنها تلتقي جميعا عند معنى التقبل الذي نطرحه في هذا الصدد.

            ومن تلك المعاني التي يتضمنها التقبل المقصود في هذا الصدد، والتي تسهم بنصيب وافر في الحيلولة دون التطرف ما نسميـه بالتقبل النفسي، وهـو مـا يعـني أن لا يعتـبر الباحـث عن الحقيقة والمتوصل فيها إلى رأي أن من توصل فيها إلى رأي مخالف هو عدو له، وذلك مهما بلغت درجة إيمانه برأيه من يقين، فتنكمش النفس دونه، ويسـتبعد إذن من دائرة التعامل الإنساني فضلا عن التعامل المعرفي العلمي، وإنما يعتبر المخـالف في الرأي هـو باحث عن الحقيقة أصابـها أو أخطأها، وهو لذلك جدير بأن يجد له مكانا في النفس يسمح بالتعاطي معه في خصوص رأيه المخالف للحوار في شأنه بالحجة بقطع النظر عما تنتهي إليه تلك الحجة من نتيجة موافقة أو مخالفة.

            ومن معاني التقبل (للآخر) الاعتراف له بحق الوجود بقطع النظر عن تقبله نفسيا أو عدم تقبلـه، وذلك بأن يسـتقر في الذهن أن الرأي المخـالف [ ص: 51 ] وصاحبه من حقه أن يكون موجـودا، وأن يعبر عن نفسه عرضا وشرحا وانتـصـارا، دون أي تضييـق أو حجر، وذلك بنفس القدر الذي يكون فيـه الحق في الوجـود لمخـالفـه، وأن لا يكون مقياس الصـواب والخطـأ هـو المـقـيـاس المحدد للأحقية في الوجود، وجـودا وعدما. وإذا كانت ثمة حـالات خاصة يمكن أن يسحب فيها حق الوجود عن رأي من الآراء أو مخالف من المخـالفين لهذا السـبب أو ذاك من الأسباب المحددة في هذا الشأن، فإن المبدأ العام هو تقبل (الآخر) المخالف تقبل اعتراف بحق وجوده والتعبير عن نفسه.

            وربما يكتمل معـنى تقبل (الآخر) المخالف بالاسـتعداد للاستفادة منه، مهما كانت درجة مخالفته، وذلك إذا ما تبين بالامتحان أن فيه ما يفيد، وتبلغ هذه الدرجة من التقبل ذروتها بالسعي العملي إلى الرأي المخالف قصد فحصه وتحليله وتبين أسبابه وحججه ومبانيه ومآلاته، ودرسه درسا موضوعيا مستفيضا عسى أن يتبين فيه ملمح حق فيؤخذ به مهما استقر في بادئ الرأي من أنه رأي خطأ، فذلك الاستعداد وهذا المسعى العملي يحلان المخالف في دائرة الوعي النفسي والمعرفي موقعا من التقبل متقدما، وهو ما لايتحقق بحال لو عومل هذا المخالف باليأس من أن تكون فيه أية فائدة، ومن أن يكون منطويا على أي حق. [ ص: 52 ]

            وقـد ضـرب لنا القرآن الكريـم مثلا منهجيا رائعا في هـذا التعامل مع (الآخر) المخـالف تعـاملا يقـوم علـى التقبل في مستوياته المختلفة التي ذكرناها، وذلك ما ورد على سبيل المثال في قوله تعالى مرشدا نبيه وجميع المسلمين من ورائه إلى تقبل المخالفين من أصحاب الديانات الأخرى: ( قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين * قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون ) (سبأ:24-25).

            ففي هذا الإرشـاد الإلهي المنهـجي توجيه إلى التقبل النفسي للمخالف، وهو ما يتمثل في تعميم إمكان الهدى والضلال على الفريقين، وبنسبة الإجرام إلى النفس ونسـبة مجرد العمل إلى المخـالف، وذلك بالرغـم من الإيمان بعكس ذلك في الأمرين، ولكن تأنيسا نفسيا للمخالف. وفيه توجيه إلى تقبل حق الوجود والتعبير للمخالف، وذلك ما يدل عليه هذا الحوار الذي يسمع فيه عرض هذا المخالف باهتمام والتعاطي معه بمحاجة لطيفة مؤنسة. وفي هذا التوجيه إيماء أيضا إلى تقبل الاسـتفادة من رأي المخـالف إذا تبين أنه ينطـوي على وجـه من الحق، وذلك ما يوحي به تعميم إمكان الهـدى ليشمل المخالف أيضا، فإذا تبين أن هذا المخالف قد يكون [ ص: 53 ] في رأيه شيء من الهدى فإنه يكون إذن مقبولا، فهو إذن منهج يدعو إلى تقبل المخالف للرأي [1] .

            إن هذا التقبل (للآخر) بمسـتوياته المختـلفة، الذي هو عـاصم من عواصم التطرف لا يمكن أن يحصل إلا بالتحرر الفكري، ولا يمكن أن يغيب إلا بالاستبداد؛ ذلك لأن الفكر إذا كان موجها في مسلك معين لينتهي إلى رأي محدد سلفا بتوجيه المسـتبدين، وليرى فقـط ما هم يرون، فإن المسـتقر على هذه الوجهـة، والمنتهي إلى هذا الرأي يحصل عنده شـعور نفسي واقتناع عقـلي بأن الحق منحصر فيما انتهـى إليه، وأن ما سواه من رأي باطل، وإذن فإنه سـتنقبض نفسـه دونه، وسيعتبر أن هذا الباطل لا حق له في الوجود بله أن يوجه نظره إليه ليمتحنه ويبحث عن فائدة فيه.

            ولكن حينما يتجه العقـل بالنظر الحر إلى جميع مظان الحقيقة، ويبسط على محك البحث جميع الآراء، كما شرحناه، ما استقر في الذهن بادئ الرأي وما هو موافق له وما هو مخالف، فإن ذلك سيحدث في الناظر انفساحا نفسيا يسع جميع الآراء بما فيها المتناقض منها، وهذا التقبل النفسي فيه اعتراف ضمني بأن جميع الآراء، بما فيها المخالفة، لها حق الوجود والاحتجاج والمدافعة وإلا ما وضعت على بساط البحث، وبالمقارنة [ ص: 54 ] والامتحان والنقد سيكتشف أن الآراء المخالفة قد تنطوي أحيانا على بعض الحق فيستفيد منه، إذ هو باحث عن الحق بنظر حر، فتكتمل إذن حلقات التقبل، كما شرحناها، وذلك ما يحول دون توليد التطرف الذي من أهم شعاراته: رفض المخالف، وإلغاؤه، ونفي حقه في الوجود.

            ولو تأملنا ما يمور به واقع المسلمين اليوم من جماعات طابعها العام التطرف بدرجاته المختلفة، وقارناها بجماعات أخرى طابعها العام الاعتدال والوسطية لرأينا مصداقا بينا لما قررناه من أن التحرر الفكري هو عامل الاعتدال، وأن الاستبداد الفكري هو عامل التطرف، وهو ما يصدق أيضا على الفرق والجماعات القديمة في تاريخ الثقافة الإسلامية، ولانتهينا إلى الحكم بأنه كلما اشتد ضغط الاستبداد الفكري اتسعت مخرجاته من المتطرفين، وعلى العكس من ذلك كلما انفسحت الحرية الفكرية كانت مخرجاتها أكثر تحققا بالوسطية والاعتدال.

            فمن الجماعات الإسلامية الموجودة اليوم جماعات تخرجت في تعليمها وتربيتها من مدارس تقليدية موغلة في التقليدية، في بلاد مختلفة من العالم الإسلامي، وهي تلك المدارس التي تقتصر في برامجها على المذهب الواحد في العقيـدة وفي الفقـه تقدمه لروادها بطريقة تلقينية خالية من الحوار، وتـكاد لا تـقدم معـه شيئا من المذاهب الأخرى في النطاق الإسلامي، أما العلـوم والمعـارف الإنسـانية العامة فإنـها في هـذه المدارس منهي [ ص: 55 ] عنها أن تكون معروضة على الطلاب للدرس، إذ هي تشوش الأذهان وتفسد المعتقدات الصحيحة.

            ونتيجة لهذا الضرب من الاستبداد الفكري تتخرج من هذه المدارس جماعات تتصف بالتطرف، إن على درجة أو أخرى من درجاته، وربما تكون جماعة طالبان مثالا لهذا الأنموذج الذي شرحناه، ولا يفوت اللبيب المتابع للسـاحـة الإسلامية أن يرى أمثلـة أخرى لهـذا الأنمـوذج تتطـابق معه أو تشابـهه، علما بأن مجال هذا التمثيل لا يتعلق بصدق النوايا والإخلاص فيها، أو بقوة الإيمان وصلاح السمت في السلوك، فقد يكون ذلك حاصلا مع حصول التطرف.

            وفي مقابل ذلك توجد جماعات إسلامية أخرى في العالم الإسلامي تخرجت من مؤسسات علمية ودعوية بمعارف وعلوم إسلامية غير مقتصرة على مذهب معين، وإنما هي قائمة على المنهج المقارن بين المذاهب، فكانت تطرح فيها كل الآراء للدرس والمقارنة والنقد، كما تخرجت أيضا من تلك المؤسسات أو استكملت من غيرها بمعارف وعلوم إنسانية عامة مذاهب وفلسفات قديمة وحديثة، وأخذتها جميعا بمنهج حواري نقدي، فكان المنهج العام الذي تخرجت به هو منهج التحرر الفكري المنفتح على الاحتمالات المتعددة في البحث عن الحقيقة، فكانت إذن متصفة بقدر كبير من الاعتدال والوسطية في الفكر وفي السلوك معا. [ ص: 56 ]

            وليس من قبيل الصدفة أن يكون أكثر الموصوفين بالتطرف في المشهد الإسلامي الراهن هم أولئك الذين ذكرناهم آنفا، وأولئك الذين تخرجوا من المؤسسات التعليمية ذات الاختصاص العلمي الطبيعي البحت، ثم لقنوا العلم الشرعي أو شيئا منه تلقينا سريعا غير مختص في حلقات الدعوة العامة، فلم يقفوا من الآراء والاجتهادات إلا على الرأي الواحد والاجتهاد الواحد، فآل أمرهم إلى أن مورس عليهم ضرب من الاستبداد الفكري، فـكانت النتيجـة أن انخـرطوا في دائرة التطرف، ولو استعرضنا بعض الأسماء البارزة الموصوفة بالتطرف لوجدنا كثيرا منهم ينتمون إلى هذا الصنف من المتخرجين.

            وأما أولئك الذين تخرجوا من المؤسسات العلمية الإسلامية العريقة، القائمة مناهجها على المقارنة والنقد، والمطعمة بالعلوم والمذاهب الإنسانية العامة، وأولئك الذين تخرجوا من المؤسسات التعليمية العامة الحديثة بمنـاهـجها القـائمـة على الحـوار والانفتاح على مختلف الآراء، وتيسر لهم تحصيل علم شرعي متين على أساس منهجي حواري مقارن، فإننا نادرا ما نجد منهم من انخرط في دائرة التطرف، وإنما هم الذين أسسوا للاعتدال أو انخرطوا فيه، ويسعنا أن نذكر في هذا الشأن أبا الأعلى المودودي وحسن البنا ومن سار على نهجهما. وما هذا وذاك فيما نقدر إلا بسبب الاستبداد الفكري في الحالة الأولى، والتحرر الفكري في الحالة الثانية. [ ص: 57 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية