الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            أ - الفكر والحرية الفكرية:

            نقصد بالفـكر في هـذا المقـام، وكما نريد أن يكون مصطلحا بينا في هذه الورقة، "المنهجية التي يجري عليها عقل الإنسان في بحثه عن الحقيقة النظرية والعملية".. ولهذا التحـديد أصـل في المـدلول اللغوي، إذ جاء في معاجم اللغة أن الفكر هو إعمال الخاطر في الشيء [1] ، إشارة إلى أنه حركة العقل في موضوعات المعرفة.كما أن ذلك المدلول هو الذي استقرت عليه الثقافة الإسلامية في استعمال هذا المصطلح، وهو ما ضبطه الجرجاني [ ص: 39 ] في تعريفاته، إذ يقول: " الفكر ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى مجهول" [2] . ومن البين أن هذا الترتيب ليس هو إلا حركة العقل في البحث عن الحقيقة.

            وما هو شائع اليوم بين أهل النظر من إطلاق الفكر، الذي هو منهج العقل في البحث عن الحقيقة، على الأفـكار التي يقع التـوصل إليها في ذلك البحث ليس إلا ناشئا من إطلاق الملزوم على اللازم، كما هو من بعض عادات اللسان العربي، ولكنه إطلاق يحدث ارتباكا في تحديد معنى هذا المصطلح واستعمالاته، وهو ما آن الأوان للرجوع به إلى الأصل الذي استقرت عليه الثقافة الإسلامية مقصودا به منهجية النظر العقلي لا حصيلة ذلك النـظر من الأفـكار، كما سنعتمده في هذا المقام، وكما اعتمدناه في مجمل بحوثنا في هذا الشأن [3] .

            ونقصد بالحرية الفكرية أن تكون حركة العقل من أجل الوصول إلى الحقيقة حركة يتعامل فيها العقل بصفة مباشرة مع الموضوع المراد معرفة الحقيقة فيه تعاملا تتفاعل فيه مكونات العقل الفطرية ومكسوباته اليقينية مع [ ص: 40 ] المعطيات الذاتية والأبعاد الموضوعية للموضوع المراد درسه، بعيدا عن كل الموانع التي تمنع تلك الحركة العقلية من أن تنطلق في وجهتها الصحيحة، وتنحرف بـها إلى وجهـة تقتـضيها تلك الموانـع، سـواء كانت متمثلة في موانع داخلية مثل استبداد الأهواء والشهوات، وسطوة الأعراف والعـادات، أو كانت موانع خارجـية، مثل الإرهـاب الذي يتسلط به على العقول ذوو السلطان الديني أو السـلطان السياسي على منهج فرعون في قوله: ( ما أريكم إلا ما أرى ) ( غافر:29)، أو الإغواء المتعدد المظاهر الذي يتسلط به على النفوس المفسدون في الأرض على منهج إبليس في قوله: ( لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ) (الإسراء:62).

            وربما يكون من أهم ما نقصـده بالتحرر الفكري في هذا المقام التحرر الفـكري في مجـال التربية والتعـليم، وذلك بأن يترك للمتعلمين، صغـارا أو كبارا، مجال فسيح لأن يعملوا النظر فيما يلقى إليهم من العلوم والمعارف ليتناولوها بالفهم، ويتدبروها بالتعليل، ويخضـعوها للمقـارنة بما هو مخالف لها، وينخلوها بالنقد لتتبين لهـم فيها مواطن القـوة ومواطن الضعف، بحيث تكون حركة العقل فيها حرة من التوجـيه المسـبق لأن يقع الانتـهاء فيـها إلى الأخـذ بالرأي الواحد والرفض والإلغاء لكل ما سـواه، وذلك في حركة حـوارية دائبة تقوم بين المتعلمين والمعلمين تفضي إلى تكوين فكر سيد على نفسه، قادر [ ص: 41 ] على تبين المسالك المختلفـة التي تؤدي إلى الحقيقـة بحسب ما تستبين به من حيث معطياتها الموضوعـية وليس من حيث ما تريه جهة متسلـطة من المربين والمعلمين لا تري من الحقائق إلا ما تراه هي حقا بقطع النظر عما تقتضيه المعطيات الموضوعية للمسائل المبحوث فيها.

            ومن البين أن الحرية الفـكرية تشمـل أيضا بصفـة أساسـية حرية التعبير على ما يتوصل إليه العقل من رأي، فليـس من قيمـة تذكر لرأي يبقى حبيس الذهن وإن يكن العقل قد توصل إليه بحرية في النظر فجـاء بميزان الحق رأيا صحيحا، وإنمـا يكتـسب الرأي الجزء الأكـبر من قيمته بـما يصير إليه من إفصاح عنه، وهو ما لا يكون إلا بحرية في التعبير، فتكون إذن حرية التعبير جزء من حرية التفكير.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية