الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ب - تجليات الحرية الفكرية:

            تفصيلا لما أوردناه آنفا في شرح معـنى الحرية الفـكرية، فإن الحرية الفـكرية لا يكون لها تحقق فعلي إلا إذا تحققت جملة من العناصر المكونة لها، وهي عناصر تتكون بالتربية التي تؤخذ بها العقول شيئا فشيئا ضمن العملية التربوية الشاملة التي يؤخذ بها المتعلمون لتستوي عقولهم بالتدريج على هيئة من الفكر، أي من حركة العقل في البحث عن الحق، تتجلى فيها جملة من المواصفات التي يمكن أن تعتبر تجليات للحرية الفكرية، ومن خلال تلك التجليات يمكن أن يمارس العقل التفكير الحر، ويمكن أن يعتبر قد توفرت له الحرية الفكرية. [ ص: 42 ]

            ولعل أول تجليات الحرية الفكرية تتمثل في أن يكون العقل في حركته للبحث عن الحقيقة مفتوحة أمامه الخيارات المتعددة في المسلك الذي يسلكه ليبلغ تلك الغاية، وذلك حسبما تقتضيه معطيات القضية مناط البحث، ليسلك في بحثه المسلك الذي تقتضيه تلك المعطيات، دون أن يقع توجيهه إلى مسلك معين لينتهي إلى نتيجة معينة من قبل موجه خارج عنه وعن تلك المعطيات.

            إن هذا التجلي من تجليات التحرر الفكري هو الذي أراده القرآن الكريم للإنسان حينما وجهه ليبحث عن حقيقة خـالق الكون، فإنه لم يلزمه بمسلك معين أو بنتيجة معينة، وإنما أرشده ليتعامل مع الموضوع بصفة مفتوحة ليصل إلى ما يصل إليه بحسب ما يختاره من مسلك؛ ولذلك فقد جاء في القرآن نهي عن أن يكره الإنسان على الإيمان بالله كما في قوله تعالى: ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) (يونس:99)، وتـوجيه إلى البحـث الفكري الحر كما جاء في قوله تعالى في نفس السياق: ( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) (يونس:101)، وإذن فإن القرآن الكريم وجه الإنسان إلى النظر الحر المفتوح على احتمالات متعددة، وله أن يصل إلى النتيجة التي يرتضيها لنفسـه، ولكن عليه أن يتحمل نتائجها، وذلك هو التحرر الفكري في أحد تجلياته. [ ص: 43 ]

            ومن تلك التجليات للحرية الفكرية أن يتجه العقل في حركته الفكرية ليطلع على الآراء المخالفة للرأي الذي ينتهي إليه بتلقين أو بنظر حر، حتى لو حصل ذلك على سبيل الجزم، فإن الانكفاء على الرأي الواحد حينما تكون في المسألة آراء متعددة يعد ضربا من القيد على حرية الفكر. ومن هذه الحرية أن يندفع الفكر ليقف على مجمل الآراء المتعلقة بالرأي الحاصل له موافقة كانت أو مخالفة، إذ ذلك من شأنه توسيع دائرة النظر، وإتاحة الفرصة لحركة فكرية أكثر انطلاقا وأشمل إشرافا، وذلك أحد مظاهر الحرية.

            وقد انبنت الثقافة الإسلامية، بتوجيه قرآني، على هذا التجلي من تجليات الحرية الفكرية، وهو ما يبدو في أن المفكرين والعلماء المسلمين يدأبون في بحوثهم العلمية على إيراد الآراء المخالفة عند تقريرهم لآرائهم، فإذا لم يجدوها في الواقع افترضوها افتراضا، وذلك فيما عرف في منهج التأليف بإيراد الاعـتراضات الذي شعاره المشهور عبارة "فإن قلت قلنا"، أو "فإن قيل قلنا" أو ما هو في معناها، وذلك ما نعده أحد التجليات الرائعة للتحرر الفكري في الثقافة الإسلامية.

            ومن تلك التجليـات أيضا ما هو تكملة لما ذكرناه آنفا، وهو المتمثل في أن تبسـط أمـام العـقـل الآراء المختلفة التي انتهى إليها جراء البحث أو على سبيل الإيراد، ثم يجري بينها المقارنة بالنظر المزدوج إليها جميعا، ويضرب بعضها ببعض فيما تأسست عليه من المبـررات، وما انبنت عليه من [ ص: 44 ] منطق داخلي تترابط فيه مقدماتها بنتائجها، وفي علاقتـها بشواهد الواقع تصديقا أو تكذيبا، لتنتهي هذه المقارنة بنقد ما هو مطروح لتبين الضعيف منه من القوي، والحق من الباطل، والصحيح من الخاطئ، فينتهي الاختيار بناء على تلك المقارنة وذلك النقد لما هو أقوى دليلا وأصح مبنى.

            وغير خفي أن المقارنة والنقد يتيحان للفكر حرية في الحركة بين الآراء المختلفة، حركة تأمل وتدبر وتمحيص، وذلك في غير انكفاء على واحد منها دون غـيره، والتشبث به عـلى علاته، مما يمكن أن يعد قيدا فكريا.. والمقارنة والنقد هما معنى زائد على مجرد الإطلاع والفهم، وإن كانا مقدمة لهما لا يتمان إلا بهما، ولذلك حسبناه أحد تجليات الحرية الفكرية.

            ومن بين أهم تجليات الحرية الفكرية أن يكون الفـكر قـادرا على النقد الذاتي، ممارسا له بالفعل، فحينما يصل الفكر إلى جملة من الآراء، وفق ما شرحناه سابقا من مظاهر الحرية، ثم ينغلق بها على نفسه، على اعتبار أنها هي الحق المطلق، ملغيا من الحسبان إمكان مراجعتها وإعادة النظر فيها، فإنه بهذا يعتبر قيدا يقيد حريته في النظر، ولكن حينما يكون عنده من المرونة ما به يفتح الباب للنقد الذاتي بمراجعة ما حصـل له من الآراء على أنه حق فإنه يكون أكثر حرية في تحري الحقيقة.

            ولا يعني النقد الـذاتي أن يقع الفكر في وسواس الشك الذي لا تثبت معه حقيقة في الذهن، وإنما يعني أنه إذا ما جـدت معطيات جـديدة تتعلق [ ص: 45 ] بما حصله الفكر من الأفكار والآراء والأفهـام، وذلك في مجال ما هو ظني على وجه الخصوص، فإن الحرية تقتضي أن يعاد النظر فيها على ضوء تلك المعطيات عسى أن تتبين وجوه أخرى للحقيقة تجبر بها أخطاء قد تكون تسربت في النظر السـابق، ولعل هذا هو ما تعنيه القـاعـدة الذهبية القائلة: إن رأيي صواب يحتمل الخطـأ، والرأي المخالف لي خطأ يحتـمل الصواب، وهي القاعدة التي على أساسها عدل الإمام الشافعي كثيرا من اجتهاداته الفقهية التي توصل إليها في العراق لـما ذهب إلى مصر وتبينت له معطيات أخرى اقتضت المراجعة والتعديل، وقد فعل كثير غيره ما فعل، حتى كان النقد الذاتي سمة بارزة في الثقافة الإسلامية، وذلك أحد تجليات الحرية الفكرية.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية