الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            ظاهرة التطرف والعنف (من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب) [الجزء الأول]

            نخبة من الباحثين

            2- عنف ضد الأئمة الأربعة:

            - الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان:

            هو النعمان بن ثابت بن زوطي، كوفي المولد سنة 80 للهجرة. وتوفي سنة 150 للهجرة. عاش مخضرما بين حكم أموي وحكم عباسي.

            طلب من أبي حنيفة غير ما مرة أن يلي القضاء لكنه لم يستـجب. وقد عذبه من أجل ذلك والي العراق يزيد بن هبيرة في عهد مروان. ولم يكن الإباء فقط سبب الضرب، وإنمـا، كما يقول الشيخ محمـد الخضري: "محنة المعروض عليه حتى يعرف مقدار ولائه للدولة. فإن العلماء على ما يظهر كانوا يمتنعون أن يتولوا عملا لدولة لا يحبونها لئلا يكون ذلك تأييدا لها" [1] . ويوضـح هـذا ما قـاله أبو حنيـفة عن زيد بن عـلي بن الحسـين، الذي خرج في ملك هشام بن عبد الملك: "ضاهى خروجه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر" [2] .

            وفي عهـد بني العبـاس، نجد أبا جعفر المنصور يطلب من أبي حنيفة أن يـكون قـاضيا للـدولة، لكننا نجـد أيضا الرفـض نفسه، ومـع هـذا الـرفض نجـد أيضا العـذاب. إنـهـا محـاولات مبـكرة لتـدجـين العـلماء. فهذا [ ص: 103 ] صـاحـب "شـذرات الذهب" يحـكي لنا على لسان الربيع بن يونس حـاجب المنصـور: "رأيت أمير المؤمنين ينازل أبا حنيفة في أمر القضاء، وأبـو حنيـفـة يقـول: اتق الله، ولا تشرك في أمانتك إلا من يخـاف الله، والله ما أنا بمأمـون الرضـا، فـكيف أكون مأمـون الغضب؟ ولو اتجه الحكم عليك ثـم هددتـني أن تغـرقني في الـفـرات، أو أن تلـي الحـكم لاخـترت أن أغرق، ولك حاشية يحتاجون إلى من يكرمهم لك، فلا أصلح لذلك. فقال له: كذبت أنت تصلح. فقال: قد حكمت لي على نفسك، كيف يحل لك أن تولي قاضيا على أمانتك وهو كذاب" [3] . فكان مصيره الضرب والعذاب والسم.

            - الإمام مالك بن أنس:

            هو مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي. مدني المولد، سنة 93 للهجرة. وتوفي سنة 179هـ.

            وقـد ساند الإمام مالك، رحمه الله، محمد النفس الزكية في قومته ضد أبي جعفر المنصور، الذي كانت بيعته بالإكراه، وليس على مستكره بيعة. فكان يكثر من حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا طلاق ولا عتاق في إغلاق ) [4] [ ص: 104 ] ، أي في إكراه، لأن الناس كانوا يحلفون بطلاق أزواجهم إن هم نقضوا بيعتهم. فما زال يعذب في هذا حتى انخلعت كتفه [5] .

            ويحكي صاحب الشذرات أن الإمام مالكا حمل إلى بغداد وقال له واليها: "ما تقول في نكاح المتعة؟ فقال: هو حرام. فقيل له: ما تقول في قول عبد الله بن عباس فيها؟ فقال: كلام غيره فيها أوفق لكتاب الله تعالى. وأصر على القول بتحريمها، فطيف به على ثور مشوها. فكان يرفع القذر عن وجهه ويقول: يا أهل بغداد، من لم يعرفني فليعرفني، أنا مالك بن أنس فعل بي ما ترون لأقول بجواز نكاح المتعة، ولا أقول به" [6] .

            - الإمام محمد بن إدريس الشافعي:

            وهو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع المطلبي. ولد سنة 150 هـ. وتوفي سنة 204هـ.

            اتهم الشافعي، رحمه الله، بالتشيع، في عهد هارون الرشيد، حيث كان يكثر من ذكر الإمام علي، رضي الله عنه، والاستشهاد بمناقبه.

            ولحقه الكثير من الأذى بسبب ذلك [7] . [ ص: 105 ]

            - الإمام أحمد بن حنبل:

            هو أحمد بن حنبل بن هلال الذهلي الشيباني المروزي. ولد ببغداد سنة 164هـ وتوفي رحمة الله عليه سنة 241هـ.

            وبذكرنا للإمام أحمد نتذكر ذلك العذاب، الذي سيمه بسبب قضية خلق القرآن. وما سبب تلك الفتنة إلا تمكن الفكر الاعتزالي من القصر واستحواذه على أهله. ذلك أن القضية كلامية تم توظيفها سياسيا لضرب العلماء والفقهاء، الذين كانوا يمثلون أهل السنة والجماعة [8] . وما كان هذا ليحدث لو كان الحكام أهل نظر، ولجنبوا العلمـاء والأمة مثل هذه القضايا، التي فرقت الأمة وبددت جهودها. وهذا ما يدفعنا إلى التأكيد مرة أخرى على إعادة النظر فيما سمي بعلم الكلام، وفي الفرق الكلامية، التي كانت من ثمار تحول الخلافة إلى ملك.

            ولقد استمر صمود الإمام في هذه المحنة أيام المأمون والمعتصم والواثق، من سنة 218هـ حيث كان المأمون هو الحاكم، إلى 232هـ سنة، تولي المتوكل، الذي ترك الناس لاختيارهم وأبطل الدعوة إلى القول بخلق القرآن.

            إذا كان هذا يقع للأئمة الأربعة، وهم شامة المسلمين في العلم والاجتهاد والورع، فإن نصيبا أوفر من التعذيب والتدجين يصيب ولا شك غيرهم. [ ص: 106 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية